ثقافة وفنون
حين يسقط الضوء في العدم : في رثاء هشام ..

حين يسقط الضوء في العدم : في رثاء هشام ..
محمود الجاف
قرأتُ يومًا قصةً لم تكن مثل القصص، بل كانت نحيبًا على الورق. أنينًا امتدّ من قلب أمٍ لم تعد تملك سوى الذكرى، وصورة على جدار، واسمًا لا يُنادى إلا في الدعاء .
كانت أمًّا فقدت ولدها في لحظةٍ مفجعة بانفجارٍ لم يرحم سوى بقايا جسده الطاهر. ترك خلفه زوجةً بعيونٍ مذبوحة وأطفالًا لم يُكملوا اسمه حين نطقوه آخر مرة. وأخوات ظلّت أجسادهن تمشي على الأرض. صرن كالأشجار اليابسة، واقفات بلا ظل ولا ثمر . كل واحدة منهن تحمل نصف قلب والنصف الآخر دفن معك لا يُزار إلا بصمت الدموع . وإخوةً تكسّر فيهم شيء لا يُرمّم .
العاصفة التي حملتك أوقعت شيئًا من صمودهم لم يُرفع بعد . لكن شيئًا ما حدث … في سطورها… في وجعها وفي ارتعاش حروفها عرفتك .عرفتُك أنت .. ذلك الشاب الذي لم يكتب له أن يشيخ.. الرجل الذي حملت له الأرض رائحة البارود بدلًا من عبق الحياة .
عرفتك رغم أنك لم تعرفني وبدأتُ أنادي أمّك : ماما .
ليس لأنني أبحث عن بديلٍ لحضنٍ. بل لأنك لم تترك لها إلا الفراغ فامتلأتُ بك أنا . صرنا شركاء في الحزن . وأنا الغريب أصبحتُ الابن المؤقت . الطيف الذي يمرّ على قبرك ويحدثك عن الأيام التي لم تأتك . يا من اختطفك الوجع من بين يديها . أعرف أن جسدك الآن تحت التراب . لكن قلبي أصبح مقبرتك الأبدية. لاني أدفنك فيه كل ليلة ثم أبكيك في الصباح.
هشام لم تكن انت آخر من ولدته الدموع، ففي زوايا البيت … في الفجوات التي لا تُملأ وداخل وجعٍ صار عادة، وُلد ابنٌ لن يروه ولن يعرفوه . ابنٌ لن يكبر أمامهم . لا صورة له تُعلَّق ولا ضحكة تُؤرّخ ولا يدٌ تُمسك بالباب حين يعود مساءً . ابنٌ يسكن في الاحتمالات فقط في اللحظة التي لم تحدث في اليوم الذي لم يُعش في الطريق الذي لم يُسلك .
ذلك الذي كان يمكن أن يكونه هشام لو نجا … أو الذي حمله معه حين غادر وتركه هناك في المسافة بين شهقة الوداع وسكون القبر . ابنٌ لم تره الأم ولن تراه . لن تهدهده بين ذراعيها . لن تضع اسمه في دعائها لأنه ليس حيًّا ولا ميتًا . ابنٌ يراه هشام فقط . يراه هناك في عالم لا نعرفه حيث يجلس إليه كل ليلة ليخبره عن اهله وإخوته الذين انكسروا . وحين تفيض الأرض بالذكرى . لا يضحك . ذلك الابن لا يبكي . لا يشيخ . هو فقط ينظر إليه ثم يقول له :
أنا النسخة التي لم تحدث . وظلك الوحيد الذي لن يُمحى .
أنا اليوم أكتب إليك شيئًا أخيرًا :
فقد صنعت لقلبك مفاتيح من دمعي ثم حملتها ومشيت إلى النهر وقذفتها إلى قعره . إلى حيث لا يعود شيء ولا يصل أحد . ليتوه كل من يحاول أن يعرفك كما عرفتك . أن يحبك كما أحببتك . ليضيعوا جميعًا . فأنت لي الآن في حزني وصمتي . في حكاياتي التي لا تُروى . لن يخرجك من فؤادي احد . لا الزمن ولا الموت ولا محاولات النسيان . ستبقى مقيمًا هناك كما تقيم الأحزان الكبرى التي لا تزول ولا تَخفُت . بل تترسّخ حتى تعلم القلب كيف يصبح مقبرةً لا تذبل فيها الورود .
أعدك اننا سنبقى رفيقان في الحياة والرحيل وفي الخلود .. نم قرير العين .
اخوك الذي لم تلده أمك .



