مقالات

التحالف الدولي: من فلسطنة الصراع إلى تدويله

التحالف الدولي: من فلسطنة الصراع إلى تدويله

أحمد زكارنة

هذا الحراك، قد يُعبّر بمعنًى من المعاني، عن الضرورة المُلحّة لإجراء مراجعة فكريّة، لا على الجبهة الفلسطينيّة وحسب، ولكن في الفضاء السياسيّ العربيّ برمّته؛ مراجعة يمكنها أن تُشكّل رافعة للانكفاء العربيّ الذي أدّى إلى انزياح المعاني….

في لحظة انعقاد المؤتمر الدوليّ لـ “تنفيذ حلّ الدولتين” في نيويورك كخطوةٍ أولى تتخذُها العربيّة السعوديّة التي تقود “التحالفَ الدوليّ” بالشراكة مع الجمهوريّة الفرنسيّة، يدور السؤال المركزيّ الذي يتبادر للذهن العربيّ والفلسطينيّ، حول: هل سيتمكّن هذا التحالف من تدويل القضيّة الفلسطينيّة؟ وبالمعنى الاستراتيجيّ، هل سيُشكّل هذا التحالف الاستدارة الأهمّ واللازمة في تعريف الصراع؟

كي نفهم أكثر، علينا أن نتذكّر ما شكّله عام “النكسة” هزيمة حزيران 1967، من نقطة ارتكاز أساسيّة في التحوّل البنيويّ الذي أصاب التعريف السياسيّ والاستراتيجيّ، لماهيّة القضيّة الفلسطينيّة؛ حيث بات الانسحاب العربيّ التدريجيّ ليس من المواجهة العسكريّة وحسب، بل ومن المعنى أيضاً، فكان شعار “إزالة آثار العدوان” كما أعلنه عبد الناصر، أوضح إشارة إلى تراجع المشروع القوميّ من استراتيجيّة التحرير إلى سياسة الترميم.

هذا الانزياح في المعنى، حوّل التعريف بشكل عمليّ متدرّج وصل ذروته منتصف سبعينيّات القرن الماضي، وتحديداً عشية حرب تشرين أكتوبر عام 1973، من وصفه صراعاً عربيّاً إسرائيليّاً، إلى صراع فلسطينيّ إسرائيليّ؛ وهو ما عُرف لاحقاً بمصطلحِ “فلسطنةِ الصراع”؛ وهي الحالة التي راقت لقيادة الثورة الفلسطينيّة المعاصرة التي كانت في أوج نهوضها حينذاك، بدعوى قطع الطريق على تدخّل بعض أقطاب النظام العربيّ في المشهد السياسيّ الفلسطينيّ الداخليّ، بل واستخدام القضيّة كورقة مساومة في الملفّات الإقليميّة، الأمر الذي دفع بقيادة الثورة آنذاك، إلى التأكيد على استقلاليّة القرار الفلسطينيّ.

هكذا ومن دون قراءة واعية لأبعاد هذا التحوّل، لم تعدْ “الفلسطنة” مجرّد توصيف سياسيّ، بل لحظة تأسيس لفصل جديد من التراجع العربيّ، ورفع المسؤوليّة عن كاهل المنظومة القوميّة حيال التزاماتها التاريخيّة ليس فقط بشأن القضيّة الفلسطينيّة، ولكن أيضاً بشأن مصيرها المشترك المرتبط بوحدتها الحضاريّة والجغرافيّة، ممّا رفع تلقائيّاً الغطاء الجماعيّ عن أكثر الملفّات حساسيّة في التاريخ العربيّ الحديث؛ فضلاً عمّا خلّفته هذه “الفلسطنة” من جدار عازل حال بين الجماهير العربيّة وانخراطها في مساعي التحرير، ولكن الأخطر تمظهر في تراجع مركزيّة فلسطين في الوعي العربيّ، بعد أن كانت فلسطين معرّفاً للهويّة السياسيّة الجماعيّة والوجدانيّة للأمّتين العربيّة والإسلاميّة.

نعم، قد نفهم وجاهة استقلال القرار الفلسطينيّ، لجهة تماسك الجبهة الفلسطينيّة الداخليّة، ولكن إن حاولنا تفكيك هذه الرؤية بالمعنى الاستراتيجيّ، فعلينا أوّلاً إعادة النظر في الوظيفة الأساسيّة لـ “الدولة الإسرائيليّة” التي لم تُزرعْ في المنطقة لحلّ المسألة اليهوديّة أو كملاذٍ ليهود العالم، كما ادعى الغرب الاستعماريّ، ولكن بوصفها دولة استعماريّة وظيفيّة، هدفها الأهمّ يكمن في حاجة المركزيّة الغربيّة الحيلولة دون تطوُر الوطن العربيّ وشعوبه، في ظلّ تأهّله على المستوى الثقافيّ والحضاريّ المتكئ على ما يجمعه من دين ولغة وجغرافياً، ليُشكّل بالمعيار التاريخيّ، التهديد الأخطر على الحضارة الغربيّة.

هذا الانزياح في تعريف القضيّة ساهم، بقصد أو دون قصد، في خلق عدّة إشكاليّات فكريّة وسياسيّة عميقة ومعقّدة، أفضتْ إلى نتائج كارثيّة على مستوى المفهوم والممارسة، وهي النتيجة الطبيعيّة لما ولّدتْه هذه الرؤية الجديدة من تصوُرات ترى في تدخّل النظام العربيّ عبئاً على الثورة الفلسطينيّة، لا سنداً لها، ما رسّخ عمليّة “الفلسطنة” وصبّ في صالح المشروع الإمبرياليّ الاستعماريّ في الشرق، والمرتبط فعليّاً بحقيقة أنّ أصل الصراع ليس مجرّد صراع على الأرض الفلسطينيّة، ولكن على معنى وهويّة الشرقِ ومستقبله، ولذا بات حديث المركزيّة الغربيّة عن الشرق الأوسط الجديد، حديثاً مُقرّراً ومُعلناً في آنٍ.

من هنا، علينا أن ننظر إلى أهميّة مبادرة التحالف السعوديّ-الفرنسيّ كفرصة لاستعادة مركزيّة القضيّة ضمن منظومة دوليّة جديدة، تأخذ في عين الاعتبار التحوّلات الكبرى التي أثّرتْ ولا تزال على قُطبيّة الدولة الأمريكيّة، وبالتالي على وضع إسرائيل في المنطقة؛ هذا التحالف، الذي يجمع بين الثقل العربيّ الدبلوماسيّ المتمثّل في العربيّة السعوديّة، وفي الحضور الأوروبيّ القانونيّ والسياسيّ المتمثّل في الجمهوريّة الفرنسيّة، يسعى إلى إعادة تعريف الصراع وفق قواعد القانون الدوليّ، ومقاومة مشروع فرض إسرائيل بالقوّة، كفاعل إقليميّ مهيمن عبر التطبيع الأمنيّ والاقتصاديّ الذي تدفع به وتُحارِب من أجله واشنطن.

إنّ هذا الحراك، قد يُعبّر بمعنًى من المعاني، عن الضرورة المُلحّة لإجراء مراجعة فكريّة، لا على الجبهة الفلسطينيّة وحسب، ولكن في الفضاء السياسيّ العربيّ برمّته؛ مراجعة يمكنها أن تُشكّل رافعة للانكفاء العربيّ الذي أدّى إلى انزياح المعاني، ليس فقط على صعيد الصراع العربيّ الصهيونيّ، ولكن أيضاً حول مفهوم العلاقة العضويّة التي تربط القوميّ بالوطنيّ، وفكر التحرر بالسيادة، والاستقرار والتطوُر، بالكرامة والحرِّيّة، حيث لم يَعُدْ المطلوب إعادةَ فلسطين إلى مركزيّتها العربيّة، على مستوى بُنية الوعي والممارسة وفقط، وإنّما نتطلّع إلى عودة الفاعل العربيّ القادر على تدويل القضيّة بناءً على تفاعلات ما حدث، ولا يزال يحدث من تحوّلات كبرى واستثنائيّة على صعيد التغيّرات الجذريّة التي طرأتْ على الرأي العامّ العالميّ حيال ما يجري على كامل الأراضي الفلسطينيّة، وتحوّله من مستهلك للسرديّة الصهيونيّة الزائفة، إلى حامل للرواية الفلسطينيّة المُحقّة، بما يوفّر أرضيّة سياسيّة وأخلاقيّة مناسبة للتحالف الدوليّ كي يدفع بالصراع من “الفلسطنة” إلى التدويل؛ فلا يمكن استعادة المعنى، من دون استعادة الفعل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب