رئيسيالافتتاحيه

إعلان نيويورك: هندسة أمنية جديدة أم شرعنة للاحتلال؟

إعلان نيويورك: هندسة أمنية جديدة أم شرعنة للاحتلال؟

بقلم رئيس التحرير 

صدر “إعلان نيويورك” في خضم مشهد إقليمي متفجر، حيث لا تزال آلة الحرب الإسرائيلية تحصد أرواح المدنيين في غزة، وتُحكم الحصار على أكثر من مليوني إنسان. الإعلان، الذي جاء بمشاركة دولية واسعة وبقيادة فرنسية وسعودية، دعا إلى دراسة إنشاء بنية أمنية إقليمية تُواكب قيام “دولة فلسطينية ذات سيادة”، لكنه لم يحدد بوضوح المقصود بالدولة، ولا آلية لإنهاء الاحتلال أو وقف العدوان أو إدخال المساعدات وفتح المعابر.

أولاً: غموض “الدولة” وإعادة تدوير مربع أوسلو

رغم أن الإعلان يُوحي بدعم “حل الدولتين”، إلا أن مصطلح “دولة فلسطينية ذات سيادة” جاء مبهماً دون تحديد حدود 1967 أو عاصمة في القدس الشرقية أو أي إشارة إلى حق العودة، بما يتناقض مع:

قرار مجلس الأمن رقم 242 (1967) الذي ينص على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.

قرار الجمعية العامة 194 (1948) الذي يكفل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.

مبادرة السلام العربية (بيروت 2002) التي وضعت الانسحاب الكامل شرطاً للتطبيع.

هذا الغموض يعيدنا إلى المربع الأول في اتفاق أوسلو (1993) وخارطة الطريق (2003)، وبيانات “اللجنة الرباعية الدولية” التي طالما استخدمت لغة مرنة وغامضة تُبقي الاحتلال وتُسوف الحلول.

ثانياً: فخ سياسي تحت غطاء الأمن الإقليمي

الدعوة إلى تشكيل “بنية أمنية إقليمية” في سياق التسوية تذكّر الفلسطينيين بما حدث سابقاً عبر:

خطة دايتون الأمنية (2005) التي أُسندت فيها المهام الأمنية للسلطة الفلسطينية بضمان التنسيق مع الاحتلال.

خليفته الجنرال فينزلي الذي تابع الدور ذاته بمنظور احتواء المقاومة وليس تمكين الفلسطينيين.

مشروع بيكر 2014 الذي سعى لإعادة صياغة وظائف السلطة ضمن أطر إدارية واقتصادية تحت الاحتلال.

اليوم، تعود نفس المقاربة الأمنية بشكل أكثر اتساعاً، إذ يتحدث “إعلان نيويورك” عن تعاون إقليمي أمني قد يُفضي إلى تحالفات عسكرية تتجاوز الفلسطينيين وتُدمج إسرائيل بالكامل، ضمن رؤية تذكرنا بـ:

اجتماعات النقب (2022) التي جمعت إسرائيل بدول عربية لتأسيس بنية إقليمية أمنية مشتركة.

قمة المغرب الإبراهيمية التي شكلت امتداداً تطبيعياً لاتفاقيات أبراهام.

خطة بايدن الأمنية (2023–2024) الرامية لتشكيل تحالف إقليمي عسكري بغطاء مكافحة الإرهاب، في الحقيقة هو نظام ردع إسرائيلي مهيمن.

ثالثاً: تجاهل الحقوق مقابل شرعنة الاحتلال

البيان لم يُشر من قريب أو بعيد إلى المستوطنات، أو الاعتداءات اليومية للمستوطنين، أو قانون ضم الضفة الغربية الذي يُقره الكنيست الإسرائيلي ضمن سياسة فرض الأمر الواقع. لكنه في المقابل منح إسرائيل شرعية “الدفاع عن النفس”، متجاهلاً:

أنها دولة احتلال بموجب اتفاقية جنيف الرابعة (1949).

وأن العدوان على غزة وفرض الحصار يُصنف كـ عقاب جماعي بموجب القانون الدولي الإنساني.

وأن حق المقاومة مكفول قانوناً للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.

وهكذا، فإن الصيغة التي جاء بها الإعلان تُساوي بين الضحية والجلاد، وتُعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية التي تُحمّل الفلسطينيين مسؤولية استمرار النزاع، وتُشيطن المقاومة وتُقصيها من أي حل سياسي.

رابعاً: صفقة القرن بنسخة ناعمة

الإعلان، وإن خُطّ بلغة توافقية، يُشكل عملياً امتداداً لـ:

“صفقة القرن” التي طرحها دونالد ترمب (2020)، والتي تحدثت عن دولة فلسطينية “منزوعة السلاح”، ورفضت الانسحاب من القدس والضفة.

ويمثّل تطبيقا عملياً لرؤية نتنياهو القديمة حول “الشرق الأوسط الجديد”، حيث تكون إسرائيل مركز النظام السياسي – الأمني – التكنولوجي – الاقتصادي للمنطقة.

ومع كل ما سبق، يجري طرح هذا المخطط في ظل عدوان متواصل، دون مساءلة أو محاسبة، مما يُضعف الثقة في النوايا الدولية ويفتح الباب على تحولات خطيرة قد تُفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها السياسي والحقوقي.

خامساً: تحذير فلسطيني من فخ الهيمنة الإقليمية

من هنا، فإن الفلسطينيين مطالبون بالحذر من الوقوع مجدداً في فخ “حلول مؤقتة تتحول إلى دائمة”، أو الانخراط في أطر إقليمية أمنية تُعيد إنتاج التبعية. وما جرى بعد أوسلو وما نتج عن خطة دايتون وصفقة القرن، يؤكد أن أي مشروع لا يقوم على:

إنهاء الاحتلال بالكامل،

تفكيك المستوطنات،

عودة اللاجئين،

وضمان السيادة الفلسطينية الكاملة على الأرض والمعابر والقدس،

لن يكون سوى إعادة تموضع استعماري برعاية دولية، يكرس الأمر الواقع ويُمهد لإسرائيل موقع القيادة في الشرق الأوسط.

خلاصة: بيان نيويورك يعيد تدوير الفشل ولا يُنتج السلام

“إعلان نيويورك” بيان غير متوازن لا يُؤسس لحل حقيقي، بل يروّج لسلام شكلي على قاعدة الهيمنة والتمييع السياسي، في تجاهل واضح للوقائع على الأرض والانتهاكات اليومية لحقوق الفلسطينيين.

السلام لا يُبنى عبر فرض الوقائع والتطبيع، بل عبر تحقيق العدالة، وإنفاذ القانون الدولي، وضمان الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بلا انتقاص. ودون ذلك، فإن ما نراه ليس أكثر من غلاف ناعم لواقع خشن تُفرض فيه السردية الإسرائيلية كمرجعية إقليمية، وتُقبر فيه القضية الفلسطينية بصمت ناعم وتواطؤ دولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب