منوعات

الرضيع الذي أطعم قطة … ومحمد المطوق: ستة كيلوغرامات من العار العالمي

الرضيع الذي أطعم قطة … ومحمد المطوق: ستة كيلوغرامات من العار العالمي

مريم مشتاوي

في خيمة لا تتجاوز رقعة ظلّها، ولد الطفل، لا يحمل اسماً عريضاً، ولا نسباً مزهواً… ولد رضيع لا يعرف عن العالم سوى ملمس الأرض الباردة تحت قدميه، وصوت أمه الذي خفت مع الأيام.
وحده يجلس على الأرض الإسمنتية، أمام خيمته التي تمزقت أطرافها من تعب الرياح، يرتب فتات الخبز بيد لا تعرف كيف تمسك الملعقة. لم يتعلم بعد كيف ينطق جملةً كاملة، لكنه فهم اللغة الأعمق: لغة الجوع.
اقتربت منه قطة رمادية، نحيلة، هاربة من مكان ما، ربما من بيت سقط، أو من حضن فقد صغاره. كانت تتقدم بحذر شديد وعيناها تبحثان عن شيء لا اسم له… ربما قليل من الدفء والطمأنينة… وربما مجرد لقمة.
أمسك الرضيع بقطعة خبز صغيرة، ورفعها إليها….
تقدّمت القطة أكثر. رفعت عينيها إليه، ثم إلى الخبز، ثم إلى يده الصغيرة المرتجفة. كان الطفل يحدّق فيها بدهشة…
أكلت من يده. لقمة… ثم لقمة. والطفل يراقبها مبتسماً.
ما الذي يجعل طفلًا لم يخط أولى خطواته بعد، يعطي طعامه لكائن لا يتكلم؟ من أخبره أن الحياة تقف على تفاصيل صغيرة كهذه؟ كيف علم أن الرحمة لا تحتاج نضجاً، وأن الأمان يمكن أن يهدى في لقمة؟
غزة لا تدرّس الحب في المدارس. مدارسها هدّمت، ومعلماتها يكتبن اليوم أسماء الشهداء بدل أسماء الطلاب. غزة تترك دروسها للغريزة، للحدس، للعين المحبة…
ذلك الطفل لم يكن يطعم القطة فقط. كان يطعم روحه أيضاً. وكأنه يخبرنا بأن الفقد لا يمنعنا من أن نكون بشراً، أن الحرب لا تنزع من أرواحنا النعومة، أن الحصار لا يجفف الحنان.
في مشهده الصغير هذا، كتب سيرة مدينة بأكملها. مدينة تقاسمت الألم عقوداً، ولكنها ظلت تتنفس الإنسانية والمحبة. ظلّت ترسل أطفالها إلى الضوء، حتى وإن سكنها العتم.
أمه لم تكن بعيدة. كانت تجلس على حافة الخيمة، تراقب بصمت… ربما لم تملك له حليباً هذا الصباح، لكنها الآن رأته يشرب من نبع العطاء.
تمنت لو أن بيدها هاتفاً جيداً لتصور المشهد، لتخبر العالم أن ابنها لم يتعلم هذه اللفتة في كتب التربية، لم يسمعها في خطبة، لم يرها في مسلسل. تعلّمها من غزة.
في غزة، الطفل لا ينتظر ليكبر كي يصير إنساناً. يتعلم الحزن مبكراً، الفقد، التأقلم، ثم الحبّ رغم كل شيء. والحب في هذه المدينة يفيض من كسرة خبز، من احتضان قطة، من ربتة يد على كتف غريب.
لم تكن تلك اللقطة لحظة عابرة. كانت مرآة عكست ما تبقّى من الإنسانية في زمن لم يبق فيه إلا الرماد. كانت احتجاجاً صامتاً، أعنف من ألف صرخة. كانت سؤالاً موجّهاً للعالم: ماذا تفعلون بقلوبكم حين تغلَق كل الأبواب؟
هذه ليست قصة طفل يُطعم قطة. هذه قصة وطن… يرفض أن يجرّد من روحه. وطن جريح، محاصر، يقصف كل يوم، لكنه حين يرى من هو أضعف منه فيطعمه.
في عصر صار فيه الإنسان يهاجم أخاه باسم الدين، والحدود، والهوية، يأتي رضيع من خيمة، ليمدّ يده لكائن جائع ويقول: نحن شركاء في الوجع… وها أنا أقاسمك اللقمة.
ذلك الصغير يملك ما فقده الكبار: القدرة على أن يرى الآخر… حتى وإن كان «الآخر» قطة مهملة، تنام بين الأنقاض.

ما دامت غزة تنجب أمثال هذا الرضيع… لن تموت

في رقعة باهتة الضوء، يتراءى جسد صغير أقرب إلى ظل طفل منه إلى كائن حي. هناك يرقد محمد، أو ما تبقى من محمد… طفل لا يزن أكثر من حفنة حزن، لا يرتدي سوى العظم، ولا يملك من الطفولة سوى اسمه.
تحيطه ذراعا والدته لتقول للموت: ليس الآن، لا تأخذه الآن، أرجوك. هي تتشبث به كما تتشبث الغريقة بخشبة طافية. وطفلها لا يبكي. فهو ببساطة لا يملك طاقة للبكاء.
محمد المطوق ليس وجهاً عابراً في نشرة الأخبار، وليس رقماً في تقرير دولي عن المجاعة. هو حفرة مفتوحة في ضمير العالم. طفل تحوّل جسده إلى خريطة جوع… صدره لوحة ضلوع ناتئة، وبطنه غارق في غيابه، وساقاه خيطان مهترئان من قماشة حرب.
ستة كيلوغرامات فقط… لا تكفي لجسد، ولا حتى لدمية. إنه طفل يعيش الحصار، والحرمان، والموت البطيء تحت الخيام… يقطن تحت شمس تلسع جلده الرقيق، أمه، تلك المرأة التي تدعى أم محمد، لا تملك سوى الماء. لا دواء، لا حليب، لا غذاء. فقط ماء يتيم، ودموع لا تصلح علاجاً.
يقال إن الطفل يولد على الفطرة. لكن في غزة، يولد على القتال. يقاتل ليأكل، ليكبر، ليعيش. يقاتل الصمت، والتجاهل، والعجز العربي، والخذلان الإنساني. محمد لا يعرف معنى السياسة، ولا الحصار، ولا العناوين العريضة. يعرف فقط أن بطنه يؤلمه، وأن أمه تبكي، وأنه لم يشرب حليباً منذ زمن. يعرف أن جسده لم يعد يقوى على الحركة، أن ألعابه الوحيدة هي الحشرات التي تزحف بجواره، أن سقف خيمته لا يرد المطر، ولا الشمس.
لأننا لا نستطيع أن نعيش كأن محمد لم يكن، نكتب. لأن صوره تلسع قلوبنا كلما مرّت، وتقول: أنتم السبب. أنتم المتفرجون. نكتب عنه لأن الكتابة محاولة فاشلة لإنقاذه، لكنها أقل فشلاً من الصمت. نكتب لنشهد، ولكننا نعلم أننا لن ننجو. لأن
الطفل الذي يعاني من سوء تغذية إلى درجة ارتخاء العضلات وضمور الجسد، لا يحتاج معجزة. لأن العالم، بكل جبروته، لم يقدر أن يمنحه علبة حليب.
محمد المطوق جريمة معلنة.

*كاتبة لبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب