فلسطينمقالات

الذكرى السنوية الثالثة والخمسون لرحيل الفدائي (( الشهيد سعد عزالدين محمود الراوي 1949 ـــــ 1969)) من أوائل الشهداء العراقيين في الثورة الفلسطينية

بقلم الدكتور عبد الستار الراوي -العراق -

الذكرى السنوية الثالثة والخمسون لرحيل الفدائي (( الشهيد سعد عزالدين محمود الراوي 1949 ـــــ 1969))
من أوائل الشهداء العراقيين في الثورة الفلسطينية 
بقلم الدكتور عبد الستار الراوي -العراق –
.. قبل انقضاء عام 1949 بليلة واحدة ، ولد سعد عزالدين الراوي وإنضم إلى دربونة ( زنكو) ، وأمضى أول أيام طفولته في الكرخ ، قبل أن يعبر جسر الشهداء إلى كوكب الرصافة .
لازمته في حياته ثلاث هوايات:
الأولى : ولعه الشديدة بالألعاب الرياضية ، الناعمة ، والخشنة ، من التمارين السويدية الى حلبة الملاكمة ، وفي الخامسة عشرة أنشأ مع فتيان محلة ( النصة ) بالأعظمية فريقاً لكرة القدم .
الثانية : شغفه اللامتناهى بالخطوط التشكيلية ، وقد ظهرت موهبته الفنية في الخط في مرحلة التعليم الإبتدائي فمنذ أن تعلم أن يمسك القلم ويدون الابجدية ، لم يدع سطحا مستويا أو جداراً صقيلا إلا وأودع جزءا من روحه الابداعية في ثناياه ، ومامن دفتر من دفاتره المدرسية الا وحمل بصمات من خطوطه ورسومه ، وإستطاع بهذه المحاولات التجريبية الحاذقة تنمية وتطوير مهاراته الفنية ، فابتكر تكوينات زخرفية وجمالية ملأ بها جدران الدار .
الثالثة : مطالعاته الأدبية وعشقه للروايات والسرد القصصي ، كان لهذه الهواية الأولوية في حياته اليومية، فقد إنشغل بقراءة عشرات الروايات العالمية والنصوص المحلية والعربية ، وقد إقتننى منها الكثير ، الى جوار مكتبة البيت العامرة بروايات الجيب والهلال ، وغيرها . وقد زوده ابن خالته المبدع الراحل الدكتور خالد حبيب الراوي بكم وفير من مقتنياته الابداعية وقد ساهمت هذه الهواية في بنية ثقافية متماسكة ؛ استشعارا بالوزن النوعي للكلمة من حيث الدلالة والمعنى والارتقاء بجمالية العبارة ؛ وقد تبدى ذلك واضحا في تحرير رسائله وفي أسلوب كتابة يومياته ـ
في الثامنة عشرة ، هجر سعد الثانوية وتوقف عن مواصلة التعليم ، ولم تعد أي من هواياته الثلاث ، تشبع روحه المتوهجة بأي إهتمام آخر سوى ( المقاومة الشعبية الفلسطينية ) فاعتزل الرياضة والخط التشكيلي والحكايا، وبدأ يتابع كما كان حال جيله العمليات البطولية في فلسطين المحتلة. فقد تطوع الكثيرون خلال تلك الفترة من بينهم ؛ إبن عمه (محمد عبد الجبار الراوي) وابن خالته (أكرم حبيب الراوي)،
فتحول إلى رومانسية ( أدب الثورة ) و ( ثقافة المقاومة )، وفرض على نفسه نوعا من العزلة ، في محاولة البحث عن ( الذات ) أو عن ( الحقيقة ) ، وربما عن الأثنين معاً ، وقد إرتقى بتأملاته إلى ما وراء الانشغالات العادية والاهتمامات الصغيرة ، وكان أولى مظاهر ( الاعتزال ) و( الإغتراب )، هو التمرد على الواقع، فتنازل عن دفاتره المدرسية وعد الثورة على ( الذات) بوابة الحرية ، وفي ضوء فلسفياته هذه إختار العمل الشاق، عاملاً أجيراً في سوق الشورجة
ولعله حاول تطبيق أدبيات الثورة والمقاومة في هذه التجربة الفريدة والمدهشة التى كان يحاول إعداد نفسه لتجربة كبرى ، من خلال اقتحام الحياة نفسها والأقبال على مشاقها ومعايشة التعب اليوميّ، فقد اختار أن يبدأ التغيير من داخل الذات ، ليعيد بناء شخصية الشغيل الكادح الحالم بعالم أفضل .
المغترب ، المتمرد. الكادح ، الوحدوي، كان يرى في جمال عبد الناصر وجيفارا ، المثل الكفاحي الأعلى، وعلى طريق (الرومانسية المثالية) نفسه، كان يرى في السير النضالية مرئيات الحرية ؛ فشغف حبا بالملاحم الاممية ( كلجامش، انكيدو ، الامام الحسين ، عبد القادر الحسيني، عمر المختار، جان دارك ، هوشي منه،) بأن هؤلاء جميعا كانوا يبحثون عن الطريق إلى الحقيقة ، كل حسب رؤيته وعصره ،
يقول في مذكراته : بأن العمل اليومي في سوق الشورجة ، علمه حكمة المحبة ، فقد تعرف في هذه التجربة على معان كانت غائبة أو بعيدة عن عقله ووجدانه ، عندما أدرك أن الانسان هو العالم الكوني كله ، بهذا القدر العميق من الوعي أنشأ معنى جديدا للصداقة فوجد بأن كل واحد من رفقته الشغيلة ( الحمالين والفقراء والكادحين ) يمثل نجمة وضيئة في سمائه ورمزا للبطولة الانسانية ، فهؤلاء الشغيلة كانوا مثلا أخلاقيا راقيا في الصدق النفسي يعملون بإخلاص شديد وبتفان لانظير له، هنا في سوق الشورجة تجد الكثير من الحقائق المنسية ، مامن أحد من الكتاب وأئمة السرد أطل أو اقترب يوما من (المعنى) أو أدرك الاشغال الشاقة لهؤلاء البؤساء الذين صنعوا زمنا مهيبا من مطلع الشمس حتى مغيبها ، ليحملوا في أول الليل لصغارهم خبزا وحلوى ـ
أمضى سعد ثمانية عشر شهرا في سوق الشورجة العتيد ، وحاول طوال تلك الفترة أن يعلم نفسه فضيلة الصبر على الشدائد ، وعلى تحمل التعب، وان يتفانى في عمله ، وجرب أن يضع على ظهره الاحمال الثقيلة ، وأن يشق طرقات السوق بعربة الحمالين ، إلى أن أحس بالمذاق السحري في عالم العمل ، عندها فقط أدرك بأنه أتم تدريبه الذاتي ، وهكذا ودع السوق ـ
يتحدث في يومياته ( عن المقايسة بين الحلم والواقع ) فيقول : .. (( .. بعد أن فارقت الشورجة ورفقتي الطيبة ، وبعد أن أمضيت جزءا من حياتي كنت صديقا للعاملين فيها ، قررت أن أضع خطوتي التالية في المكان المناسب ، فالثورة ولاشيئ سواها ، والمقاومة هي الوسيلة المتاحة لاحداث التغيير لاستعادة (الهوية) للمضي نحو حرية الاوطان ، قد يكون الغد محض حلم لكن حرارته توقظ العقل من غفوته وتعيد للروح نضارتها وتجعلها يقظة ، لإنطلاق (الحقيقة) من داخل الذات لا من أي مكان آخر، إنها لحظة الحدس الخالقة والأعظم تأثيرا من فعل ( الحواس الخمس) ومن ( التجريدات الميتافيزيائية ) ، إنها أشبه ما تكون بالعاصفة المضيئة القادرة على تعيين زمانها ومكانها لتصويب جهة الهبوب ؛ فتشتق جدلياتها الخالقة من النقائض والاضداد ( الحلم والواقع ، والشعارات والتاريخ . الارهاب والمقاومة) ، قوانين أخرى للحركة .. إن مثل هذه الجدليات النازلة إلى الواقع لن تتحقق بمعجزة، فلا الدعاء ولا التمنيات ، ولا القدرية المتعالية يمكن أن تشق الطريق إلى المستقبل ، والبديل الوحيد هو الثورة على الإحتلال ، أي (علم تغيير ماهو كائن إلى ماينبغي أن يكون) وحدها الثورة من يخوض معركة الاضداد)) ، وهكذا اختار سعد المقاومة الفلسطينية، وأنضم إلى صفوفها ـ
حدثنى الراحل مفيد شياع العزاوي الذى كان يشرف على معسكر تدريب الفدائيين من المتطوعين العراقيين ، بأن المناضل سعد ، أنجز دورة اللياقة البدنية ، وبرامج الفنون القتالية بفترة وجيزة تعد قياسية بالنسبة لرفاقه الآخرين ، وبفضل وعيه الثقافي وتوقه إلى العمل الفدائي ، وبوصفه رياضياً تمكن من إختزال التوقيتات الزمنية… وأنجز بالهمة ذاتها مهام قتالية نوعية خلال ستة أشهر من تاريخ إلتحاقه بميدان العمليات العسكرية في الارض المحتلة ،.
وقد عهد إليه بعد مرور أقل من سنة قيادة مجموعة فدائية عرفت باسم مجموعة (سيف الدين هاشم ) وهو الأسم الذى إختاره لنفسه وعرف به حياً وشهيداً . وكان من تقاليد هذه المجموعة الفدائية تثبيت علم فلسطين في رقعة المواجهة وعقب إنجاز أى من العمليات القتالية ضد العدو الصهيوني .
خلال زيارتي إلى بيروت ربيع 1974 ، إلتقيت بأحد رفاقه ، وكان يعمل ضمن مجموعة سعد القتالية ، حدثنى عن ( العملية ) التى قادها سعد الراوي في منطقة ( الكركار ) عقب ( العشاء الأخير ) في مساء 31/7/1969 قال : ” .. بعد أن تم تنفيذ الأهداف القتالية بالكامل ، إمتلأنا بنشوة النصر ، ونحن نردد في طريق العودة إلى قواعدنا نشيداً عراقاً ثورياً :
يا أمنا كفي الدموعا
وانتظرى لي رجوعاً
فإن ذهبت شهيداً ..
نادي بلادي بلادي ..
هيا فتوة للجهاد ..
فجأة وخلال دقائق معدودات طوقتنا كتل نارية من كل اتجاه ، تغير الموقف فجأة ، فقد إنهالت علينا حمم المقذوفات من الارض وأخرى من الجو؛ قنابل وصواريخ ، وتعددت مصادر النار من كل الجهات، .. المواجهة مع قوات العدو الصهيوني طبقا لتقدير الموقف الميداني تفوق قدراتنا الذاتية ولا يجدي سلاحنا الخفيف لا على المواجهة ولا المناورة ، وليس ثمة من فرصة أمامنا للإنسحاب ، في تلك اللحظة الفارقة لم يعد بين أيدينا من خيار ، الإصطدام بالعدو لن يكون في صالحنا ، بسبب كثافته العددية وما يتوفر بحوزته من سلاح ثقيل ، وجدنا ان لا سبيل أمامنا، سوى التفكير بايجاد وسيلة للانسحاب من ميدان المعركة ، أوالقتال حتى الموت.
وأعد سعد عزالدين الراوي (بوصفه قائد المجموعة) ، أعد على عجل تقدير موقف، يقضي بمشاغلة العدو، والعمل على تضليله عن طريق توزيع مصادر النار، والإنتشار في حقول ( القطن ) فى منطقة التلال الرملية المعروفة باسم (الكركار) .
تواصلت المعركة وقتاً بدا كما الدهر ، وكاد العدو أن ينال منا ، وفي تلك اللحظة المضطربة ، التي أوشك الموت انتزاع حياتنا ، في هذه اللحظة أصيب سعد الراوي بجراح فاغرة ، لم يعد معها قادراً على الحركة ، فقد مزق رصاص العدو جسده ، وعن حافة النهاية وقبل أن ينطفئ قلبه ، رفض إخلاءه وحث رفاقه على الإنسحاب بسرعة ، وبدأ يردد ” الشهادة ” .
وطبقاً لرفيقه مفيد العزاوي ” .. فإن سعد عز الدين الراوى، الذى عرف باسم سيف الدين هاشم ، كان شهماً وشجاعاً ” فيما عدته الثورة الفلسطينية مثلاً عربيا في التضحية والإيثار ” .. وبمناسبة الذكرى السنوية الاولى ، اصدرت جبهة التحرير الفسطينية في يومياتها القتالية ــــ عبر مركز الدراسات التابع لها في بيروت ــــ تفاصيل معركة الكركار يوم 31 تموز / يوليو 1969 بقيادة سعد عزالدين الراوي، واعتبرته على رأس الشهداء العرب ، كأول عراقي وأول عربي قضى داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة) وبمناسبة مرور عام على ذكرى إستشهاد سعد الراوي بادر مكتب فلسطين في بغداد عام 1970 إصدار كراس خاص ، بعنوان (الرفيق سعد عزالدين الراوي بطل معركة الكركار في فلسطين المحتلة) ؛ تحدث فيه عدد من رفاقه المقاتلين عن مآثره الإنسانية وعن بطولاته في معارك العمل الفدائي في المواجهة مع القوات الصهيونية .. وأشادت به المنظمات الفلسطينية الأخرى ، بوصفه أول فدائي من العراق يقدم حياته من أجل حرية فلسطين . فيما ظل دور ( إبن زنكو ) الكرخي ، حاضراً في ذاكرة الثورة الفلسطينية وفي لوحة الشهداء الأوائل ..
ولسنوات مديدة ظل غياب الفتى الشهيد ذي العشرين ربيعاً ، جرحاً غائراً في قلب العائلة وفي ذاكرة ووجدان كاتب هذه السطور الذى جرب لاول مرة في حياته معتى الرحيل الأبدى . وللأسباب ذاتها أو بكيفة أخرى ، أصبح يقيناً راسخاً في عقلي ووجداني ، بأن الموت الذي قال عنه الفيلسوف الكندي في رسالة ( الأحزان ) بأنه الأشد إيلاما في النفس ، لكنه أيضاً ليس بحاجة إلى عناء البرهان باعتباره إحدى بديهيات الطبيعة ، فنحن كما يقول سارتر مرشحون للرحيل في أى لحظة ، أسماؤنا مرقومة منذ الولادة على لائحة انتظار الموت ، فيما تبقى الذكرى تلقي بظلالها مرة على القلب ومرة على العقل ، وثالثة على الطريق الآتي من الغد …. . أمي مليكة حمادي هي الوحيدة التي بقيت ترقب الطريق حالمة بالعائد من أرض الموت، ومنذ عام 1969 وحتى رحيلها عام 2009 كان قلبها الامومي يحمل أملا بأن يعود نجلها من غيبته الطويلة ويطرق باب الدار ـ
***
بعد الإنتهاء من ( العشاء الأخير ) وقبل الشروع في عمليته الأخيرة في ( الغور الشمالي ) بقلسطين ، أثر سعد الراوي أن يكتب ( وصيته ) .
” بسم الله وبسم العراق
أرسل سلاماً لأمي وأبي وإخواتي واخواتي وللأهل والأصدقاء .
سلاماً لمرابع الطفولة في الكرخ ، وتحية إلى الاعظمية ، الأرض والأصدقاء . الدعاء والرضا والمحبة التى حظيت بها هى زادي ومعادي في رحلتى للعالم الآخر .
إن إيماني بعروبتى وبقضية فلسطين مكافئا لإيماني بوطنى العراق وولائي لكل ذرة تراب في أرضه . لأننى اعتقد بأننا جزء لا يتجزأ من جرح فلسطين ، وما لم تتحرر الأرض العربية ، فإن الوطن العربي لن يتقدم خطوة واحدة تجاه المستقبل .
لن ألقي سلاحي إلا إذا أقعدتنى ( المنية ) أو تحقق النصر. وهو الطريق الذى إخترته بارادتي الحرة ورضيت به واقعا ومآلا ” .
في الخامس من آب / أغسطس 1969 ، شيعت بغداد سعد الراوي أول شهداء العراق في الثورة الفلسطينية .. وانتظم في موكبه المئات من أصدقائه ورفاقه ومحبيه ، وكانت دربونة ( زنكو) و( الفحامة ) وصف مديد من الكرخيين في موكب الزفاف الأبدى ، وهم يتذكرون بفخر واعتزاز دربونة ( زنكو) وتأريخها الكفاحي المجيد ، منذ أن خرجت لافته الدم الحمراء في عام النكبة 1948 مدونة : ” عاشت فلسطين حرة عربية ” .وفي وثبة الجسر (بورت سموث) ..
وإثر نبأ استشهاده الذي نشر في الاهرام يوم 6 آب 1969 تحت عنوان (بغداد تشيع شهيدها ) . اقيمت مجالس العزاء في بغداد وراوة وفي مصر ، وفي مجلس العزاء الذي أقامه الصديق إدموند ايليا في شقته بالاسكندرية مازلت استذكر كلمة استاذنا الدكتور علي سامي النشار :
( .. لا تحزنوا على الشهيد ، سوف يبقى هذا الفتى حيا في ضمير شعبه وأمته) …
وتخليدا لذكراه شيدت العائلة مسجدا في راوة حمل اسمه (مسجد الشهيد سعد عزالدين الراوي)ـ تولى الاشراف عليه أبي واشقائي عماد وعبد الكريم ويوسف ـ
ومن الدربونة نفسها تطوع مهدي عبد الجبار الراوي عام 1948 مقاتلا بكتائب المجاهدين العراقيين والعرب لتحرير فلسطين ، وعقب مرور عشرين عاما ومن أجل فلسطين ودفاعا عنها تنازل محمد عبدالجبار الراوي عن وظيفته الحكومية في بغداد ليصبح فدائيا ، فيمم وجهه صوب الارض المحتلة عام 1969 وعلى طريق الحرية جاء دور الشقيق الثالث المقدم الركن هادى عبد الجبار الراوي قائد (كتيبة قتيبة) ليقدم حياته فداء لفلسطين ودفاعا عن دمشق حيث إستشهد على الجبهة السورية في حرب تشرين 1973 . والأبطال الاربعة مهدي وهادي ومحمد وسعد خرجوا من دار واحدة ، ومن عائلة واحدة ، ومن دربونة العراق الكرخية (زنكو ) … والسلام على الغائبين ـ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب