ثقافة وفنون

مروان عبد العال يستحضر النكبة المستمرة

مروان عبد العال يستحضر النكبة المستمرة

«كل بنية فلسطينية تقدم نفسها كخراب محتمل. إن موضوع بيت العائلة الفخور السابق، الذي أصبح الآن مدمراً أو متروكاً أو يملكه شخص آخر، يظهر في كل مكان في أدبنا وتراثنا الثقافي.

أحمد مفيد

«كل بنية فلسطينية تقدم نفسها كخراب محتمل. إن موضوع بيت العائلة الفخور السابق، الذي أصبح الآن مدمراً أو متروكاً أو يملكه شخص آخر، يظهر في كل مكان في أدبنا وتراثنا الثقافي. وكل بيت جديد هو بديل، ويحل محله بدوره بديل آخر، حتى فلسطين نفسها هي مكان كهذا» بشير مخول وغوردن هون، الفن الفلسطيني المعاصر (الأصول، القومية الهوية) في قاعة ملتقى السفير ببيروت، يقف الزائر أمام لوحات الفنان والروائي الفلسطيني مروان عبد العال في معرضه الفردي الأول «ألوان معلقة»، الذي تنظمه أكاديمية دار الفنون من 30 تموز (يوليو) إلى 4 آب (أغسطس) الجاري. رغم مشاركاته السابقة في معارض جماعية، يُمثل هذا المعرض باكورة أعماله الفردية التي تجسد سيرة بصرية لحياة حافلة بالعطاء في مجالات السياسة والأدب والفن، كما يُعد صرخة مقاومة ضد محو الذاكرة الفلسطينية.

من شمال عكا إلى جدران الحمرا

في رحلة قسرية من الغابسية شمال شرق عكا إلى شمال لبنان، أُجبرت عائلة عبد العال على النزوح عام 1948 تحت وطأة العنف الصهيوني. نبتت موهبة الفنان في بيئة عائلية زاخرة بالإبداع، إذ كان والده عبد الدايم عبد العال رساماً واقعياً مغموراً، متقشفاً في حياته، لا يحب الأضواء إطلاقاً، وقد تلقى تدريبه الفني على يد خطاط لبناني في طرابلس حيث أتقن فنون الخط العربي. وكان لشارع المتنبي في بغداد، أثناء عمل الفنان كبناء هناك، أثر بالغ في صقل موهبته، إذ شكّل محطة تحول رئيسية في مسيرته الفنية. أما الفنان توفيق عبد العال، ابن العم، فقد ذاع صيته في الأوساط الفنية الفلسطينية والعربية، فقد برع في الرسم والتصوير والنحت والتخطيط، كما أبدع في مجال الكاريكاتير الصحافي. وفي سياق الحديث عن العائلة، لا يمكن إغفال ذكر الشهيد نضال عبد العال (ابن العم ورفيق الدرب) الذي استشهد في استهداف إسرائيلي في أيلول (سبتمبر) الماضي خلال العدوان الصهيوني على لبنان. كان نضال مناضلاً وروائياً، وقد نُشرت آخر أعماله الروائية «السلك النحاسي» عن دار الفارابي بعد استشهاده، مزينة بغلاف من إبداع الفنانة تغريد عبد العال.
من اللافت جداً أن تستمع إلى وصف أدبي لمعرض تشكيلي من صاحبه الأديب والروائي. فالمعرض الذي يضم 24 لوحة فنية يقدمه الفنان كسرد متماسك ومترابط تلتقي فيه الذكريات والألوان مع الواقع والمتخيل. والأجمل أن يكون هذا الروائي سياسياً ومناضلاً، ما يجعل من ممارسته الفنية فعلاً للاقتراب من الواقع وفهمه وتصويره.
يبدأ المعرض بلوحة «رجال الأنفاق» التي تصور المقاومين وهم يخترقون الزمن من تحت الأرض، بأجساد قوية محنية وجباه مضيئة وقناديل مشعة. «النفق» هنا ليس مجرد أداة نضالية في السياق الفلسطيني، بل أصبح شكل الارتباط الأعمق بالأرض. «فمن يعرف شهداء الأنفاق؟» ينتقل بنا الفنان بعد ذلك إلى «جفرا»، المرأة القوية العائدة من الموت في روايته «جفرا: لغاية في نفسها» (2010). تظهر جفرا في اللوحة بألوان حمراء داكنة تجسد المرأة المقاتلة، وهي من الثيمات الأساسية التي تتكرر ببراعة في المعرض. فنرى لوحة «أم سعد» التي تجسد المرأة الفلسطينية كما صوّرها الشهيد غسان كنفاني، ولوحات «عناة» و«فضاء الجوع» و«سواد معلق» و«تأملات في الزمن» و«القارئة»، إذ تظهر المرأة في حالات متعددة من القتال والتأمل والأمل والحزن.

الفن كأداة مقاومة

يصف الفنان علاقته بالفن بأنها علاقة عضوية تشبه التنفس، إذ يعتبره جزءاً جوهرياً من هويته الفلسطينية وأدوات مقاومته. تعود بداياته الفنية إلى مشاركته في تنظيم المعارض الأرشيفية بمخيم نهر البارد شمال لبنان، حيث أشرف على معرض مقتنيات الأسرى الفلسطينيين الذين أُطلق سراحهم ضمن صفقة التبادل المعروفة بـ«عملية النورس» عام 1979.
وتأتي تجربة معرض «أشياء من فلسطين» كواحدة من أبرز إنجازاته الأرشيفية، إذ عرض مقتنيات اللاجئين الفلسطينيين التي حملوها معهم أثناء النكبة عام 1948، لتصبح شواهد مادية على المأساة المستمرة. أما في معرضه الحالي «ألوان معلقة» (2025)، فيحاول الفنان توثيق اللحظة الكارثية التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت وطأة الإبادة والعنف الممنهجين. يعبر الفنان عن هذه الرؤية عبر الأكريليك والكثافة اللونية التي تصور مشاهد يصعب وصفها إلا بأنها تجسيد للقسوة والوحشية التي يعيشها الواقع الفلسطيني. تتجلى ملامح هذه الكارثة في لوحات مثل «رقصة الألم» و«طروادة حالمة» و«الحصان ليس وحيداً»، والتي تختزل مشاهد العنف والموت. وفي اللوحة الأخيرة يظهر «حنظلة»، الطفل الفلسطيني الأبدي ذو التسع سنوات الذي ابتكره ناجي العلي، مقتولاً ضمن مشهد عنف جماعي يطال المجتمع بأكمله، في إشارة صارخة إلى الواقع الفلسطيني الراهن في غزة المحاصرة والمكلومة. وهذا يقودنا إلى مشهد مؤثر يصفه الفنان بأنه الدافع الأعمق وراء هذا المعرض، وهو مشهد الفنان الغزي طه أبو غالي وهو يحطم لوحاته ويحرقها لاستخدام أخشابها في طهي الطعام، إذ يدفعه الواقع الإنساني المأساوي إلى التضحية بأثمن ما يملك لإعالة أطفاله الجوعى. هذه الحادثة ليست سوى حلقة في سلسلة المأساة الفلسطينية التي تتجلى أيضاً في الاستهداف الممنهج للفنانين والمثقفين الفلسطينيين كجزء من سياسة إبادة شاملة للإنسان والرواية الفلسطينية.
فكما حدث مع الشهداء من المبدعين مثل فتحي غبن، ومحمد سامي، وضرغام قريقع، وهبة زقوت، ومحاسن الخطيب، وشهد نافذ، وعشرات غيرهم من الفنانين الغزيين، تستمر آلة القمع الصهيونية في تصفية العقول المبدعة، في سياسة لا تختلف عن تلك التي أودت بحياة ناجي العلي وغسان كنفاني، وإنما تتواصل اليوم بشكل ممنهج ومكثف في قطاع غزة المحاصر. هذه الإبادة الثقافية تمثل محاولة يائسة لطمس الذاكرة الجمعية الفلسطينية، لكنها في المقابل تزيد من إصرار الفعل التوثيقي.

* «ألوان معلقة»: مستمر حتى 4 آب (أغسطس) – «ملتقى» (الحمرا). للاستعلام: 81/857880

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب