السويداء: دروز حوران والرحلة الأولى إلى نجران (1)

السويداء: دروز حوران والرحلة الأولى إلى نجران (1)
علي حبيب الله
ظلَّ خيط نزوح الموحدين – الدروز من مختلف رقاع مواطنهم في الشام إلى حوران موصولًا على مدار القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين، مع اندلاع حرب الأتراك (العالمية الأولى)، مما جعل حوران الجبل “مشكى الضيم وملاذ الظليم”…
(هذه المادة هي الأولى من أربع مواد متصلة بالسويداء وسيرة دروز جبل العرب في التاريخ الحديث، ننشرها تباعًا على موقع عرب ٤٨).
تقول الحكاية، إن بائع أمواس للحلاقة قد مرّ بقرية “عَرَى”، عاصمة بني حمدان الموحدين في جبل السويداء، وقد التقى البائع بهزاع الحمدان، شيخ مشايخ الجبل، الذي أعجبته الأمواس ولم يشترِ منها، بل ابتسم واقترح على البائع مغادرة عرَى إلى قرية “القريّا”، معقل عائلة الطرشان، “ففيها إسماعيل الأطرش يقضي حاجتك…” قال الشيخ هزاع الحمدان للبائع.
ولما حطّ هذا الأخير، على بساطته، في مضافة الشيخ إسماعيل الأطرش في القريّا، عارضًا عليه الأمواس بتوصية من زعيم عرَى والسويداء هزاع الحمدان، انتبه الأطرش لرسالة الحمدان له، اشترى الأمواس وصرف البائع، ثم جمع وجوه آل الأطرش ووزّع عليهم الأمواس وقال لهم غاضبًا: “هذه هدية الحمداني لكم…” فاستنفر الطرشان: “أيهددنا الحمداني بحلق لحانا! فوالله لا ننام هذه الليلة إلا على فراشه في عرَى…” فصاحوا: “إلى عرَى… إلى عرَى… إلى عرَى…” (1).
كانت هذه الحكاية أول ما تذكّرته مع أحداث السويداء الأخيرة، عندما اجتمع بعض من مسلّحي نظام دمشق الجديد على الشيخ المُسنّ مرهج شاهين في قرية الثعلة بالسويداء لحفِّ شاربه… تقليد من زمن ما قبل الدولة!

كان ذلك في سنة 1859، حين أُطيح بزعامة الحمدانيين – العائلة المُؤسِّسة للوجود الدرزي في جبل حوران – على أثر حادثة بائع الأمواس في عرَى لصالح الطرشان بزعامة إسماعيل الأطرش. بعد عشر سنوات، توفي إسماعيل، ويقال مات مسمومًا بدسيسة دبّرها الحمدانيون المطرودون من عرَى (2). تسلّم بعد إسماعيل ابنه إبراهيم الأطرش، وبدعم من الوالي العثماني في دمشق، اكتملت إطاحة الطرشان بالأسرة الحمدانية، بعد أن طرد إبراهيم بن إسماعيل الأطرش واكد الحمدان سنة 1869 من السويداء نفسها، لتنتهي بذلك زعامة الحمدانيين التي دامت على الجبل ودروزه لأكثر من قرنٍ ونصف القرن، مرة واحدة وبلا رجعة.
كان الشيخ حمدان الحمدان، أول موحد – درزي خلع نعليه في جبل حوران واعتصم فيه، وذلك في سنة 1685. وقبل ذلك التاريخ، لم يكن يعيش في جبل حوران درزيّ واحد. لا تؤكّد المصادر العثمانية ولا تنفي ذلك، غير أن المراجع الحديثة المحلية، ورواية أهالي الجبل الشفوية، تجمع على أن حمدان المؤسِّس، قد حط في الجبل مع حملة علم الدين بن معن العسكرية على حوران أواخر القرن السابع عشر. وقد أنزل ابن معن حمدان ومن معه في قصر نجران (3)، القصر الذي أطلق عليه عربان حوران السهل والجبل بعاميتهم اسم “مقرى الوحش” (4). ثم تتابعت هجرات الموحدين الدروز على مدار قرنين من كل بقعةٍ ورقعةٍ في الشام: من أعالي حلب، والشوف، ووادي التيم، وصفد، والكرمل، في متوالية من الفرار والملاذ إلى جبل “المغلوب على أمرهم”، كما ظلَّ يقول دروز الجبل عنه.
قلعة الله
حوران، هي التسمية الأكثر شهرة للجبل في تاريخه العثماني، تسمية استعارها الجبل من السهل، سهل حوران. كانت أقدم تسمية للجبل تلك التي أطلقها عليه الآراميون ووردت في التوراة: “باشان”، وتعني “الأرض الخصبة” (5). أطلق الصهاينة حديثًا تسمية “باشان” على إحدى فرقهم العسكرية المشرفة على احتلال الجنوب السوري. كانت باشان تمتد في الحقبة الرومانية لتشمل كلًّا من حوران Auranitis، واللجاة Trachonitis، والجولان Gaulanitis، أي كل ما يمتّ لتشكيل البازلت وسواد الحجر بصلةٍ، من بحيرة طبريا غربًا حتى بادية الشام شرقًا، ومن حدود غوطة دمشق الفيحاء شمالًا حتى اليرموك، رافد الأردن جنوبًا.
أطلق الإغريق على حوران تسمية “تراخونيتيد” وتعني “بلاد الحجارة”، وعندما امتد حكم الآشوريين إلى بلاد الشام أطلقوا على جبل حوران اسم “جيرانوي”، فيما أطلق الرومان على جبل حوران من باشان اسم “أورانيتيد” (6). ومن أسماء الجبل أيضًا ما ورد على لسان الشاعر جرير:
أيا حبّذا جبل الريان من جبلٍ
وحبّذا ساكن الريان من كانا (7).
فالريان واحدة من أسماء الجبل، ومن أسمائه أيضًا “جبل بني هلال”. ومما يُذكر، أن قبائل البادية السورية العربية قد أطلقت على جبل حوران في التاريخ الإسلامي تسمية “أرض البُثينة”، المشتقة من باشان أصلًا (8).
في التاريخ الحديث، ومنذ خمسينيات القرن التاسع عشر، صار يُطلق عليه اسم “جبل الدروز” بعد أن واجه دروز الجبل جيش العثمانيين سنة 1851 في وقعة عُرفت بـ”وقعة ساري عسكر” في قرية أزرع (9). وقد عمّم الفرنسيون بعد استعمارهم سورية على الجبل تسمية “جبل الدروز”، خصوصًا بعد أن منح الفرنسيون الدروز في عام 1922 دويلة كان اسمها “دولة جبل الدروز”. إلى أن جلت القوات الفرنسية عن سورية في أربعينيات القرن الماضي، فأعاد أبناء الجبل تسميته بـ”جبل العرب” في سياق سرديّتهم الثورية بزعامة سلطان باشا الأطرش، تأكيدًا منهم على عروبة جبلهم، وانتمائهم الوطني للتراب السوري والعربي عمومًا. بعد استقلال سورية، صار الجبل جزءًا من محافظة السويداء التي نعرفها اليوم.

أما السويداء، التي لم تكن سوى خِربة شبه مهجورة عندما بدأت تحط مطايا بني حمدان الدروز فيها مطلع القرن الثامن عشر، فكانت تقع على سفحٍ منحدر ما بين حوران الجبل والسهل منها غربًا. وقبل أن تغدو عاصمة الجبل، وُجدت فيها آثار ومعالم تاريخية تدلّ على قِدم السويداء وعراقتها، منذ أن سمّاها الآراميون وكذلك اليونانيون “سوآدا”، ومن هنا اشتُق اسمها “السويداء”، تصغير “سوداء” بسبب تشكيلها الإيكولوجي البازلتي. ويُذكر بأن الرومان أقاموا فيها قصورًا وكنائس وحمّامات وبركًا، وأطلقوا عليها اسم “ديونيسياس”، والتي تعني “بلد الخبز” (10). بينما يذكر كل من الباحث الرحالة حنّا أبي راشد في مؤلفه جبل الدروز، وعبد الله النجار في كتابه بنو معروف في جبل حوران، بأن الرومان أطلقوا على السويداء اسم “مكسيميان Maximianopolis” نسبةً لأحد الذين تولوها في ذلك العصر (11).
وفي السويداء، بنى النعمان بن المنذر، أحد ملوك الغساسنة العرب في القرن الرابع للميلاد، قصرًا لم يبقَ منه غير حجارته المبعثرة، تحوي رسومًا ونقوشًا تذكّر بالإرث العربي للجبل. تسلّلت الأحجار المردومة بسمارها عبر زنود الموحدين – الدروز إلى جدران عمارهم الذي سينفخ، منذ مطلع القرن الثامن عشر، في روح حوران الجبل هوية ملاذٍ، ليغدو “قلعة الله” كما قال عنه بعض رحالة ذلك القرن، في إشارة إلى الأمن والأمان معًا فيه.
مشكى الضيم
قبل أن تحطّ مطايا حمدان الحمدان برفقة الأمير علم الدين بن معن في حوران عام 1685، كان معظم سكان حوران السهل والجبل من العشائر البدوية، أشهرها السردية والسلوط وغيرها، التي بقيت مصدر قلقٍ للوالي العثماني في دمشق. إذ ظلّت قوافل الحج وطريقها من دمشق عبر حوران إلى الجزيرة العربية مرهونة لإدارة هذه العشائر وإرادتها، مما كان يضطر العثمانيين إلى مهادنتها تارة، وتأديبها عبر حملات عسكرية تارة أخرى. هذا فضلًا عن بعض الفلاحين من مسلمي ومسيحيي حوران الذين اشتغلوا بفلاحة الأرض، ومنهم مَن امتهن التجارة مع دمشق.
التحق “خليل الحمدان” بابن عمّه المؤسس “حمدان الحمدان” بعد سنوات قليلة من نزول هذا الأخير قرية نجران أواخر القرن السابع عشر، قادمًا خليل من صفد على رأس حملة ضمّت عشرات العائلات الموحدة – الدروز، ليشكّلا معًا أول مشيخة درزية في جبل حوران، ولتكتمل بمشيختهما ما اعتُبر الهجرة الدرزية الأولى إلى حوران.
وعن أصول آل حمدان، فيُعتقد أنها تُنسب إلى حمدان بن حمدون، شيخ قبيلة تغلب ومؤسس الدولة الحمدانية في شمال حلب في القرن العاشر للميلاد، نزح بعضهم لاحقًا إلى مناطق جنوب الشام ثم إلى حوران (12). بينما الكاتب حسن البعيني يعيد أصول عائلة الحمدان إلى قرية عين عنوب في قضاء الشوف في لبنان (13). ما تزال عائلة حمدان تقيم في قرية عين عنوب إلى يومنا هذا، ومنها شاعر الزجل اللبناني المعروف طليع حمدان، وقد تعود في نسبها إلى حمدان الحمدون نفسه من أعالي حلب.
أمّا الهجرة الدرزية الثانية إلى جبل حوران، فكانت في سنة 1711 على أثر المواجهة بين القيسيين واليمنيين في معركة “عين دارة” قضاء عالية من جبل لبنان. هُزم فيها اليمنيون بزعامة الأمير علم الدين بن معن، مما اضطرّهم إلى النزوح من جبل لبنان إلى جبل حوران (14).
ثم في تسعينيات القرن الثامن عشر، في ظل ولاية أحمد باشا الجزار (1775–1804)، فرّ منه بعض دروز الجليل ووادي التيم إلى حوران، ومما يُذكر أيضًا أن الأمير بشير الشهابي في ولايته (1788–1840) قد أبعد في سنة 1803 بعض أعدائه من موحّدي – دروز الجبل في لبنان إلى حوران.
وفي سنة 1811، نزحت نحو 1500 عائلة من الجبل الأعلى في حلب بعد طردهم على يد حاكم جسر الشغور “طوبال علي” وجنوده، مما حمل قسمًا من هذه العائلات على التوجّه إلى جبل حوران (15).
ظلَّ خيط نزوح الموحدين – الدروز من مختلف رقاع مواطنهم في الشام إلى حوران موصولًا على مدار القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين، مع اندلاع حرب الأتراك (العالمية الأولى)، مما جعل حوران الجبل “مشكى الضيم وملاذ الظليم”، كما ظلَّ يقول أهله عنه.
البدايات
أسّس الحمدانيون في جبل حوران المشيخة الدرزية الدنيوية، ببنية عشائرية اكتسبت من إرث حوران العشائري أكثر مما أكسبته، وكان يُطلق عليها بالتعبير الموحّدي “الجِسمانية” أو “الجُثمانية”. في مقابل المشيخة الروحانية “مشيخة العقل”، التي تجسّدت في “آل الهجري” منذ مطلع القرن الثامن عشر مع الشيخ إبراهيم الهجري، أوّل شيخ عقل في جبل حوران، وكان مقرّها قرية “قنوات”. والشيخ حكمت الهجري، مثار الإشكال في الأزمة السورية بين دمشق والسويداء، هو سليل هذه العائلة الروحية.

ولم تقتصر مشيخة العقل الروحية في جبل حوران على آل الهجري في ظل زعامة الحمدانيين، إنما امتدّت إلى “آل جربوع”، ومقرّها في السويداء تاريخيًّا، و”آل الحناوي” في قرية سهوة بلاطة. ولاحقًا، مع صعود نجم عائلة الأطرش وتزعّمهم الجبل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت في الجبل مشيخة للعقل في “آل أبو فخر” بدعم من الطرشان.
ظلّت المشيخة الدنيوية ببنيتها العشائرية، المتمثّلة بالحمدانيين ولاحقًا الطرشان، هي الضابط لإيقاع دروز الجبل في المقرّ والقرار. كان لكلّ من الجغرافيا والحرب دورٌ أكبر بكثير ممّا كان للمعتقد المذهبي في تشكيل هوية دروز الجبل، وخصوصًا في وقت السلم. بينما الحرب، سرعان ما كانت تدفع بشيوخ العقل إلى واجهتها، وقد اختصرت ذلك المؤرخة الألمانية بقولها: “الدروز: في السلم تسود عصبيتهم العشائرية، وفي الحرب المذهبية…” (16).
وإذا كان حطّ مطايا بني معروف في حوران قد أسفر عن رزنامة ظلم، جعلت منهم مظاليم، فإن توطّنهم الجبل قد أسفر منذ يومه الأوّل عن مظلمة ما تزال ثاوية في ذاكرة بدو عربان حوران إلى يومنا، والتي أسّست لما عُرف بـ”حروب الجوار”، وتلك حكاية أخرى تطول…
إحالات:
1 _ أبي راشد، حنا، جبل الدروز – سلطان باشا الأطرش، مكتبة زيدان العمومية، ط1، مصر 1925، ص50-51.
2 _ المصدر السابق، ص52.
3 _ شيبلر، برجيت، انتفاضات جبل الدروز-حوران: من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال 1850-1949، دار النهار والمعهد الألماني للأبحاث الشرقية، ط1، بيروت، 2004، ص27.
4 _ أبي، راشد، حنا، جبل الدروز، ص28.
5 _ سويداء سورية: موسوعة شاملة عن جبل العرب، مجموعة مؤلفين، منشورات دار علاء الدين، ط1، دمشق، 1995، ص8.
6 _ المرجع السابق، ص8.
7_ المرجع السابق، ص8.
8 _ بورتر، القس، رحلة في جبل حوران، ترجمة: سلامة عبيد، ص49.
9 _ شيبلر، برجيت، انتفاضات جبل الدروز…، ص79.
10 _ سويداء سورية: موسوعة شاملة عن جبل العرب، ص9.
11 _ أبي راشد، حنا، المصدر السابق، ص19. أنظر أيضا: النجّار، عبد الله، بنو معروف في جبل حوران، دمشق، 1924، ص69.
12 _ راجع: آل حمدان، مجلة العمامة: مجلة ثقافية اجتماعية أدبية تاريخية مصورة، العدد 158، تشرين الثاني/نوفمبر 2021.
13 _ البعيني، حسن أمين، سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى، مؤسسة التراث الدرزي، ط1، لندن، 2008، ص17.
14 _ شيبلر، برجيت، المرجع السابق، ص29.
15_ المرجع السابق، ص29.
16 _ المرجع السابق، ص21.