فورين بوليسي: الشرق الأوسط الجديد هو نفسه القديم.. وما لم تُحل القضية الفلسطينية سيظل كل شيء على حاله

فورين بوليسي: الشرق الأوسط الجديد هو نفسه القديم.. وما لم تُحل القضية الفلسطينية سيظل كل شيء على حاله
قال الباحث في العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، ستيفن وولت، إن الشرق الأوسط الجديد هو نفسه القديم، مضيفًا أن كل شيء تغيّر بالمنطقة، ولكن لا شيء اختلف.
رحل بعض اللاعبين، واكتسب آخرون نفوذًا أو فقدوه، وتبنى العديد منهم سياسات مختلفة، لكن مصادر عدم الاستقرار الأساسية لا تزال قائمة
وجاء في مقاله الذي نشرته مجلة “فورين بوليسي” أنه في ضوء الأحداث المضطربة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، فهناك رغبة تدفع المرء للحديث أو التبشير بـ”شرق أوسط جديد”، و”لكن كم مرة سمعنا ذلك؟ ظن البعض أن حرب الأيام الستة كانت نقطة تحول حاسمة، فهل سيعقد خصوم إسرائيل العرب السلام الآن؟ لكنها لم تحدث. وكذلك معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية، وحرب الخليج الأولى، واتفاقيات أوسلو، والغزو الأمريكي للعراق، والربيع العربي. ومع ذلك، فإن أحداثًا مثل هجمات 11 أيلول/سبتمبر، والحرب الأهلية السورية، وهجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، والإبادة الجماعية المستمرة في غزة، والتدمير المتكرر للبنان، وهجمات الحوثيين على سفن الشحن في البحر الأحمر، والغارات الجوية الأخيرة على إيران، لا تزال تحدث”.
ويقول إننا شهدنا تطورات استثنائية على مدار العقد الماضي، وبخاصة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لكن الظروف الكامنة التي جعلت المنطقة غارقة في الصراعات لفترة طويلة لا تزال قائمة. فقد رحل بعض اللاعبين، واكتسب آخرون نفوذًا أو فقدوه، وتبنى العديد منهم سياسات مختلفة، لكن مصادر عدم الاستقرار الأساسية لا تزال قائمة.
ولهذا، عندما أسمع حديثًا عن شرق أوسط جديد، أميل إلى التشكيك”.
ولمعرفة السبب، علينا النظر إلى ما هو جديد، ثم لما بقي على حاله.
ويعتقد أن التطور الأهم والواضح في السنوات الأخيرة، هو ضعف “محور المقاومة” الذي ضم إيران، وحماس، وحزب الله، والميليشيات الشيعية العراقية، ونظام بشار الأسد، وجماعة الحوثيين في اليمن.
فبعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، شنت إسرائيل هجمات ضد كل عنصر من عناصر المحور وبنتائج مدمرة. فقد ضعفت حماس، مع أنها لم تُسحق، ولا تزال تقاوم حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
وقضت إسرائيل على قيادة حزب الله الرئيسية، وأصبحت قوته أضعف مما كانت عليه قبل عامين. وتم إسقاط النظام السوري للأسد الذي حُرم من الدعم. وانتهزت إسرائيل الفرصة لضرب مواقع السلاح السوري ووسعت احتلالها للأراضي السورية. كما تبادلت الغارات مع الحوثيين في اليمن. وأخيرًا وليس آخرًا، قامت في حزيران/يونيو باستهداف إيران ومنشآتها النووية، وقد تعززت الحملة لاحقًا بتدخل أمريكي. وباستثناء الأسد، لم يسقط أي من عناصر المحور، ولا تزال جميعها تتحدى بعناد، لكن كلاً منها أضعف بكثير الآن مما كان عليه قبل بضع سنوات.
أما التطور الثاني، فهو التحول التدريجي في القوة والتأثير داخل العالم العربي بعيدًا عن مصر والعراق، باتجاه السعودية وبقية دول النفط الثرية بالخليج. ولا تزال مصر تعاني من عجز اقتصادي، بينما تتسابق السعودية والإمارات العربية المتحدة لتحديث وتنويع اقتصاداتهما، ولعب أدوار دبلوماسية أكثر فاعلية. وليس من المستغرب أن يعتقد بعض الخبراء الآن أن هاتين الدولتين قادرتان على لعب دور الوسيط في المنطقة، ولو بدافع الضرورة.
التطور الثالث هو تراجع تأثير روسيا بالمنطقة وبشكل كبير، نتيجة سقوط الرئيس السوري بشار الأسد وتداعيات الحرب الطويلة والمكلفة في أوكرانيا. ولم تستطع موسكو منع سقوط الأسد، ولم تقدم الكثير لمساعدة إيران رغم مختلف أشكال المساعدة التي قدمتها طهران لروسيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا. ولم تعد روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين قادرة على لعب دور المخرب الذي لعبته في العقود الأخيرة، وهذا التطور يمثل تحولًا آخر مهمًا.
عندما تفقد أمثال تاكر كارلسون، وستيف بانون، والنائبة المتعصبة لترامب، مارجوري تايلور غرين، فأنت تعلم أن الأرض تتغير
وأخيرًا، ربما يتغير دور القوى الخارجية، بما فيها الولايات المتحدة. فرغم عداء واشنطن الطويل لإيران، إلا أن قرار إدارة ترامب بالمشاركة النشطة في حملة القصف الإسرائيلية يُعد خطوة مهمة، لا سيما في ضوء تهديد الرئيس دونالد ترامب بتجديد الهجمات إذا حاولت إيران التسابق نحو امتلاك القنبلة. وقد دأب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبعض جماعات الضغط الإسرائيلي في الولايات المتحدة على الضغط من أجل هذه الخطوة لفترة طويلة، وقد تحققت أمنيتهم أخيرًا.
وفي الوقت نفسه، عملت وحشية الهجوم الإسرائيلي في غزة على تقويض الدعم السياسي لإسرائيل في كلا الحزبين السياسيين الأمريكيين وحول العالم. وكما لاحظ الدبلوماسي الإسرائيلي السابق ألون بينكاس، مؤخرًا، في مجلة “ذي نيو ريبابليك”، فإن 60% من الأمريكيين يعارضون الآن حملة إسرائيل في غزة، وتُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن الأغلبية (53%) لديهم صورة سلبية عن إسرائيل. وباتت الصحف الرائدة تدين أفعال إسرائيل وبوتيرة متزايدة، ويتهم خبراء بارزون في مجال الإبادة الجماعية، بما في ذلك في إسرائيل نفسها، إسرائيل بشكل متزايد بارتكاب تلك الجريمة الشنيعة. وحتى لو رفض المرء هذا المصطلح تحديدًا، فبدون شك أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب على نطاق واسع.
إن ارتكاب حماس لجرائمها في 7 أكتوبر/تشرين الأول لا يبرر الاستمرار في قصف وتجويع شعب أعزل. وينقسم الحزب الديمقراطي الآن بشدة حول هذه القضية، وينهار جدار الحزب الجمهوري المتين المؤيد لإسرائيل.
وعندما تفقد أمثال تاكر كارلسون، وستيف بانون، والنائبة المتعصبة لترامب، مارجوري تايلور غرين، فأنت تعلم أن الأرض تتغير.
ويمكننا رصد توجهات مشابهة حول العالم: أظهر استطلاع رأي حديث أجراه مركز بيو في 24 دولة أن الأغلبية في 20 من أصل 24 لديها آراء سلبية تجاه إسرائيل، وقد تعهدت حكومات فرنسا، وبريطانيا، وكندا، وربما أستراليا، بالاعتراف بدولة فلسطين. ونظرًا لأن ترامب لا يحمل أي ارتباط عاطفي بإسرائيل (أو أي دولة أخرى في هذا الشأن)، بل يهتم أكثر بكسب ود أقطاب النفط العرب الأثرياء، فمن المحتمل، على الأقل، أن تستخدم الولايات المتحدة أخيرًا نفوذها الكبير للضغط على إسرائيل لوقف حربها العبثية وإنهاء جهودها لإنشاء “إسرائيل الكبرى” التي تضم الضفة الغربية.
ولو جمعنا كل هذا في إطار واحد، يمكن للمرء أن يفهم لماذا يعتقد البعض أننا نشهد تحولًا جذريًا محتملًا في المنطقة: “لا أشك في أن بعض العناصر المهمة قد تغيرت، ولكن “شرق أوسط جديد”؟ ليس بهذه السرعة”.
والسبب، كما يقول وولت، إن الشرق الأوسط لا يزال في حالة من الفوضى والقطبيات المتعددة وبدون قوة سائدة أو مهيمنة قادرة على فرض النظام. وحاولت إدارة بوش فرض النظام هناك، أثناء “لحظة القطب الواحد” لأمريكا، والقصيرة، ولكنها فشلت فشلًا ذريعًا.
“وربما كان نتنياهو وغيره من المتشددين الإسرائيليين يأملون أن ترسخ انتصاراتهم الأخيرة مكانتهم كقوة مهيمنة في المنطقة، ولكن، كما شرحتُ في مقال سابق، فإن دولةً يحكمها حوالي 7.5 مليون يهودي (إلى جانب حوالي مليوني عربي إسرائيلي) وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدعم الأمريكي السخي، لن تؤكد هيمنة دائمة على مئات الملايين من المسلمين العرب والفرس”.
وللتأكيد: لم تختفِ حماس، ولا حزب الله، ولا الحوثيون، ولا إيران، وكلها لا تزال صامدة.
كذلك، فإن الدول ذات النفوذ المتزايد في الخليج أو شبه الجزيرة العربية غير راضية عما تفعله إسرائيل مؤخرًا، لأنها تسعى إلى الاستقرار قبل كل شيء، وهذا بالتأكيد ليس ما تقدمه إسرائيل.
والسؤال هنا: ماذا يعني هذا للشرق الأوسط؟
يعني أن الشرق الأوسط سيظل منطقة تتنافس فيها دول مختلفة على القوة والأمن والنفوذ. لا تزال إيران تسعى إلى امتلاك قدرة نووية كامنة لموازنة إسرائيل، وقد ازدادت رغبتها في امتلاك رادع خاص بها بلا شك في أعقاب حملة القصف الإسرائيلية/الأمريكية. وستواصل السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، ومصر التنافس على المكانة والنفوذ في العالم العربي. وستتدخل تركيا أحيانًا لحماية مصالحها، وستسعى جميع هذه الدول إلى استمالة قوى خارجية في محاولة لتعزيز مواقعها.
ولا يبدو أن أيًا من أحداث السنوات القليلة الماضية سيغير هذه السمة المتكررة في السياسة الإقليمية، ومؤسسات مثل جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي، الذي يعاني من الركود إلى حد كبير، أضعف بكثير من أن تُحدث فرقًا.
علاوة على ذلك، لا تزال الولايات المتحدة موجودة. وعلى الرغم من أن قادة الولايات المتحدة حاولوا أكثر من مرة فك الارتباط بالمنطقة، ولو جزئيًا، حتى تتمكن واشنطن من تركيز الاهتمام على آسيا، إلا أن أيا منهم لم ينجح. حاول ترامب إخراج القوات الأمريكية من سوريا خلال فترة ولايته الأولى وفشل، ولا يزال الوجود العسكري الأمريكي كما كان تقريبًا عندما تولى منصبه لأول مرة في عام 2017. وكما ذكرنا سابقًا، فإن قرار ترامب بمهاجمة إيران بشكل مباشر لا يُعد علامة على فك الارتباط، وقد لاحقت القوات الخاصة الأمريكية مؤخرًا قادة بعض فصائل تنظيم “الدولة الإسلامية” المتبقية في سوريا ما بعد الأسد. كما قصف ترامب الحوثيين (دون أي جدوى)، ويواصل المبعوث الرئاسي ستيف ويتكوف التحليق في محاولة غير مثمرة حتى الآن لإنهاء المذبحة في غزة. وعلى الرغم من تزايد الاستياء العام من أفعالها، لا تزال الحكومة الأمريكية تنفق الأموال والأسلحة على إسرائيل. وكما يُقال بالفرنسية: كلما تغير الوضع، كلما بقي كما هو.
للأسف، يُعد هذا الوضع تربة مثالية لعودة التطرف الإسلامي، وسيكون من قبيل المعجزات الصغيرة عدم ظهور موجات جديدة من الإرهاب
يُعد هذا الوضع تربة مثالية لعودة التطرف الإسلامي، وسيكون من قبيل المعجزات الصغيرة عدم ظهور موجات جديدة من الإرهاب
ردًا على أحداث العامين الماضيين. وهذا الخوف هو أحد أسباب قلق الدول العربية النفطية الشديد مما تفعله إسرائيل، فقد لا يكون لديهم تعاطف حقيقي كبير مع الفلسطينيين، لكنهم يدركون أن محنتهم لا تزال أداة تجنيد فعالة للمتطرفين، وتؤكد فشلهم في معالجة المشكلة.
والذي لم يتغير في المنطقة هو وضع القضية الفلسطينية، فلسنا أقرب إلى حل سياسي لها، بل على الأرجح أصبحنا أبعد من ذلك. حتى مع الأخذ في الاعتبار أكثر من 60,000 فلسطيني قُتلوا في غزة والضفة الغربية منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، لا تزال هناك الأعداد متساوية تقريبًا بين العرب الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين الذين يعيشون في الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. ومعظم هؤلاء الفلسطينيين محرومون من الحقوق السياسية وبدون أداة أو قوة للتصرف، ولا أمل واقعي لهم في إقامة دولة خاصة بهم. وإلى أن يتغير هذا الوضع، سيواصل بعضهم المقاومة بكل ما أوتوا من قوة ضد أسيادهم الإسرائيليين. وإذا لم يعد حل الدولتين ممكنًا، وهو أمر مرجح، فسيتعين على الإسرائيليين والفلسطينيين وبقية العالم استكشاف رؤى أخرى.
وخلاصة القول هي أن الشرق الأوسط لا يزال منطقة تعاني من انقسامات سياسية عميقة، حيث تهيمن القوى الفاعلة على غيرها وتحرمها من حقوقها وقدرتها على التصرف والاعتراف. ويتجلى ذلك في الجهود المتكررة لتهميش إيران من خلال العقوبات، وعدم الاعتراف بها، وإقصائها من الجهود الدبلوماسية الإقليمية، ومؤخرًا، الغارات الجوية. نلمس ذلك في الحملة الطويلة لحرمان الفلسطينيين من دولة خاصة بهم (أو حتى الإصرار على “عدم وجود دولة فلسطينية”). ونلمسه أيضًا داخل العالم العربي نفسه، حيث يقمع الملوك والدكتاتوريون العسكريون الدعوات إلى مزيد من الانفتاح والحقوق السياسية (هل تذكر أحد الربيع العربي؟).
وظروف كهذه ستولد حتمًا ردود فعل معارضة، ما يؤدي بدوره إلى أعمال قمع متزايدة القسوة، ما يعني استمرار عدم الاستقرار. ويتطلب النظام الإقليمي المستقر توازنًا أكثر بين القوة والشرعية، وتتطلب الشرعية في النهاية قدرًا من العدالة والإنصاف وتوفير الحقوق السياسية. ما دامت لم تتغير الحال، فسيظل الشرق الأوسط “الجديد” أشبه بالشرق الأوسط القديم.
تذكروا هذا جيدًا، وكما تقول الأغنية: “لن تُخدعوا مرة أخرى”.
– “القدس العربي”: