مقالات

جيل العبث: لماذا يهرب الشباب العربي إلى الأمام؟  (الهجرة والتطرف كصيغ يأس… لا كخيارات) أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة-طليعة لبنان –

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة-طليعة لبنان -

جيل العبث: لماذا يهرب الشباب العربي إلى الأمام؟  (الهجرة والتطرف كصيغ يأس… لا كخيارات)
أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة-طليعة لبنان –
المقدمة: (الهروب كعلامة وجودية):
(ليس الموت هو النهاية، بل العيش بلا معنى) — بهذه العبارة الموجعة، لخّص شابٌ عراقي في الخامسة والعشرين من عمره لحظة انكساره الوجودي، حين قرر الانضمام إلى ميليشيا مسلحة، لا حبًا بالعنف، بل فرارًا من خواء الوطن، وصمت العدالة، وبرودة الأمل. لم تكن كلماته صرخة فردٍ منهك، بل مرآة لجيلٍ عربي بأسره يعيش مأساة مزدوجة، الغربة داخل الأرض، والغرق في الزمان.
جيلٌ يمشي على أرضٍ لا تعترف بحلمه، ويعيش في مجتمع يطلب منه الصبر على اللا جدوى، والامتثال لواقعٍ يزدري أسئلته، ويعاقب توقه إلى الحياة. إننا لا نتحدث عن انحرافات أو انزلاقات فردية، بل عن انفجار وجودي صامت، يتمدد في جسد الأمة العربية كما يتمدد الصدأ في الحديد، بلا ضجيج، لكنه قاتل.
السؤال الحقيقي إذًا ليس: لماذا يهاجر شبابنا؟ أو لماذا يتطرف البعض؟ بل: لماذا باتت الحياة في وطننا غير صالحة للمعنى؟
ولماذا أصبحت الهجرة والتطرّف — على تناقض ظاهرهما — مجرد مسارين مختلفين لهروبٍ واحد من حاضرٍ لا يُطاق، ومستقبلٍ لا يُمنَح؟ أليس اختيار (الهروب إلى الأمام) هو تعبير مأسوي عن فقدان الإيمان بكل أبواب النجاة من الداخل؟
1. الهجرة: حين يتحوّل الوطن إلى مطار مؤقت:
لم تعد الهجرة حلمًا رومانيًا عن المغامرة والاكتشاف، بل صارت شكلًا من أشكال النجاة الباردة؛ قفزًا من سفينة لا أحد يعرف وجهتها، لكنها تغرق بصمت. في تقرير اليونسكو لعام (2023)، قال أكثر من (40%) من شباب المغرب العربي إنهم يفكرون جديًا في الهجرة، فيما يعيش (60(% من خريجي الجامعات السورية في المنافي (كنماذج من الأقطار العربية). هذه الأرقام ليست فقط إحصاءات مرعبة، بل علامات على موت الحلم داخل حدوده الأصلية. والمفارقة القاسية أن الشباب لم يهربوا من الجوع وحده، بل من امتهان المعنى والكرامة. كما عبّر مهندس مصري يعمل في ألمانيا، بنبرة لا تخلو من المرارة: (هنا أعمل ساعي بريد، لكنني إنسان، هناك كنت مهندساً، لكنني عبدٌ للواسطة والفساد).
فالهجرة لم تعد هروبًا من الفقر، بل تمردًا صامتًا على منظومة تُجيد إجهاض المواهب، وتفننّت في تحويل العقل إلى عبء، والحلم إلى لعنة. لقد أصبح وطننا العربي، للأسف، مطار انتظار طويل بلا طائرات، ومدنًا تعيدك إلى الخلف كلما أردت أن تتقدّم. في ظل أنظمة تحوّلت فيها الدولة إلى جهاز رقابة، والتعليم إلى شهادة ميتة، والهوية إلى سجن لغوي — يصبح الفرار هو الشكل الوحيد المتبقي من أشكال الحرية.
(الهجرة هنا ليست خيانة، بل محاولة للبقاء حيًا في عالمٍ يدفن الحلم قبل أن يولد)
2. التطرّف: حين يُقدَّم الموت كأكثر أشكال الحياة معنىً:
في الجهة الأخرى من المأساة، يقف من لم يجد منفى جسديًا فآثر المنفى الوجودي؛ من اختار النار لا حبًّا بالدمار، بل لأن الحياة صارت بلا ضوء ولا وجهة. لم يعد التطرّف مجرّد نتيجة تلقين ديني أو تطرّف أيديولوجي، بل أصبح في كثير من الحالات صرخة المعنى الأخير، حين تسقط كلّ البدائل وتُغلق كلّ النوافذ. فالشباب الذي يذهب إلى أقصى أشكال العنف لا يفعل ذلك لأنه يكره الحياة، بل لأنه لم يعد يجد فيها ما يُحب، أو ما يستحق أن يُعاش لأجله.
(كانوا يعرضون علينا الموت كبديل عن حياة بلا كرامة) — هكذا قال شاب تونسي نجا من معسكرات التجنيد، في شهادة لا تشرح التطرّف، بل تفضح فراغ الواقع.
تقرير للأمم المتحدة (2018) يؤكد أن (70% ) ، من عناصر (داعش) من خريجي الجامعات. نحن إذًا لسنا أمام جهل، بل أمام فراغ وجودي لم تُجب عليه حكومات الأقطار العربية، ولم تسنده الأسرة، ولم تُروِه المدرسة، فامتلأ بأوهام (الخلاص المقدّس).
بعد غزو العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة الامريكية في (2003)، أصبحت الميليشيات في العراق — وفي غيره — تقدم وظيفة وراتبًا وهوية، لقد دمرت الدولة، وقام مكانها (تاجرُ دم) يبيع الانتماء في أسواق السلاح والولاء. بعد الاحتلال، لم تتفكك مؤسسات الدولة فحسب، بل تفككت هوية المواطن العراقي نفسه. من (عراقي) إلى (شيعي)، (سني)، (كردي)، (جنوبي)، (بصراوي) وغيرها. ومن موظفٍ ينتظر الدولة، إلى مقاتلٍ يعمل لدى ميليشيا. لقد تحوّل (النسيان) هنا إلى سياسة رسمية، إلى جهاز دولة خفيّ يحوّل الطاقات الشابة إلى رماد، أو يحرقها في جبهاتٍ لا تنتمي إليها. كذلك بعد انهيار النظام الليبي، لم تتقدّم الدولة، بل تقدّمت القبيلة. انتشرت الميليشيات كالشركات الأمنية، وأصبحت وسيلة توظيف عابر للبطالة والهويّة، الولاء هنا لم يعد للوطن، بل لقطعة جغرافية مؤقتة تضمن لك الراتب، والسلاح، وربما النجاة. أما في اليمن، أخذ (الحوثيون) الحرب كمشروع حياة، لا كمأساة. من خلال خطاب (العدوان)، تم تجنيد الآلاف من الأطفال والشباب — لا لقتال العدو، بل لإطالة الحرب التي أصبحت مصدر رزق ومشروع سلطة، فالحرب هنا ليست وسيلة، بل غاية اقتصادية، وغطاءٌ لتجارة السلاح والتهريب. وهكذا لم يكن التطرّف خيارًا عقائديًا، بل انتحارًا مؤسسًا ومُنظّمًا… انتحار من تخلّت عنه المعاني، فاستعان بالعدم.
3. الخيانة المزدوجة: (من حوّل الشباب إلى وقود؟):
أ‌. الخيانة من الداخل – حين تتآمر الدولة على طاقتها: في أنظمة فقدت مشروعها، صار الشباب مجرّد قنبلة موقوتة يجب تصريفها، لا طاقة يجب احتضانها:
– تُفتح أبواب الهجرة لا كخيار تنمية، بل كصمّام أمان يُفرّغ الاحتقان.
– ويُسلّح اليائسون ليخوضوا حروبًا لا يفهمونها، في ساحاتٍ لا تعنيهم، من أجل مشاريع لا تخصهم.
هكذا يُستبدَل العقل بالمرتزق، والخريج بالمجند، والحلم بالرصاصة. الدولة، بدل أن تصوغ مستقبلًا، تصنع بندقية.
ب‌. الخيانة من الخارج – حين يُصادِر الآخر ما لم تصنه الذات: الغرب الذي يتغنّى بحقوق الإنسان، يُحسن انتقاء ما يناسب مصالحه:
– فيفتح بوابات الهجرة للنخبة (كندا وحدها خصصت آلاف التأشيرات لأصحاب الشهادات من المنطقة).
– ويزرع، في الوقت ذاته، نيران التطرف عبر دعم جماعات (معتدلة) تنقلب سريعًا إلى فوضى مدمّرة، كما حدث في سوريا واليمن.
الخارج لا يُهاجمنا مباشرة، بل يُفرغنا من الداخل، ينهب عقولنا، ويُغرق شوارعنا في العنف. إنها خيانة ناعمة:( تُلبس الفوضى لبوس التحرير، وتغسل يدها من الرماد).
4. دور العولمة ووسائل التواصل في تشكيل الوعي الجديد: وفي خضم هذا كله، لم يعد الشباب العربي أسير الخطابات التقليدية، فالعولمة ووسائل التواصل فتحت أمامه نوافذ لم تكن موجودة من قبل:
أ‌. هويات جديدة تتشكل عبر الانتماء إلى قضايا عالمية (مثل المناخ أو حقوق المرأة)، بعيدًا عن الحدود الضيقة.
ب‌. فرص للتعلم والعمل عن بعد، جعلت ‘الوطن’ مسألة اختيارية لا سجنًا جغرافيًا.
ت‌. منصات مثل ‘تيك توك’ و’يوتيوب’ حوّلت الشباب من متلقٍّ سلبي إلى صانع محتوى يؤثر في الملايين.
الخطورة هنا أن هذه الأدوات قد تُستخدم كمسكّنات للهروب من الواقع (مثل الإدمان الرقمي)، لكنها أيضًا قد تكون أدوات للتحرر إذا جرى توظيفها لبناء مشاريع ذات معنى. فالشاب الذي يعيش في قرية نائية يمكنه اليوم أن يتعلم البرمجة مجانًا، ويبيع خدماته للعالم كله. هل ندرك أن هذه الثورة قد تكون بديلًا عن الهروب إلى التطرف أو المنفى؟
5. من (جيل العبث) إلى (جيل البعث): هل يمكن قلب المعادلة؟: لا نحتاج إلى شعارات جديدة، بل إلى إعادة اختراع الوطن والأمة العربية كفكرة قابلة للحياة.
أ‌. الدولة كـ(معنى) لا كمجرد (مؤسسة): الدولة التي لا تقول شيئًا لروح الشاب، لا تستطيع أن تشتري طاعته. الشباب لا يريد أن يُدرَّب على الطاعة، بل أن يُحاور على الأمل. نريد دولة تتكلم بلسان أبنائها، لا بلغة تقارير المانحين، ولا بخطاب الخوف والجمود.
ب‌. الجامعة كحاضنة للعقل المقاوم: في الستينيات، كانت الجامعة منبرًا لاختراع الذات وتشكيل الوعي. اليوم، تحوّلت إلى مذبح للخيال، يُقتل فيه السؤال تحت سطوة المحاضرة التلقينية.
– نريد (جامعة مقاومة)، تعلمنا الشكّ لا الحفظ، وتحرّر العقل بدل تسليعه.
– نريد خطابًا أكاديميًا يُعيد تعريف الوطنية والقومية كحرية فكر، لا كولاء أعمى.
ت‌. الشباب في قلب القرار لا على الهامش: تجربة (الاتحاد الوطني لطلبة العراق) قبل الغزو مثالٌ حي، فالطلاب كانوا يكتبون البيان لا يصفقون له.
– نحتاج إلى برلمانات شبابية لا تتزين بها السلطة، بل تُحرّكها من الداخل.
– إلى منصات ثقافية تعيد كتابة هوية الأمة العربية كإرادة، لا كذاكرة باهتة.
لكن كيف نترجم شعار (إعادة اختراع الوطن) إلى فعل؟ الجواب يبدأ من:
• تعليم يحرّر العقل لا يقيده: بمناهج تعلم التفكير النقدي بدل الحفظ، وتدمج التكنولوجيا والفنون كأدوات للتحرر.
• اقتصاد يُكافئ الموهبة لا الولاء: عبر حاضنات أعمال تموّل الأفكار الجديدة، وقوانين تضمن فرصًا متساوية بلا محسوبية.
• تمكين سياسي حقيقي: بمجالس شبابية ذات صلاحيات تنفيذية، وليس كديكور للاستهلاك الإعلامي.
لن ينتظر الشباب حتى يتغير النظام، لكنهم سيصنعون التغيير إذا وجدوا مساحات للتنفس، ولو كانت صغيرة. فالتجارب الناجحة في تونس والأردن (مثل مشاريع الطاقة الشمسية التي يقودها شباب) تثبت أن الإرادة موجودة، لكنها تحتاج إلى أرضية، لا شعارات.
6. الشباب في فكر البعث: حملةُ الرسالة… لا طلاب وظيفة:
في فلسفة حزب البعث العربي الاشتراكي، لم يكن الشباب مجرد شريحة عمرية أو طاقة اقتصادية، بل نواة المشروع القومي وروحه المتجددة. فالبعث لم ينظر إلى الشباب كأتباع، بل كحملة راية، رساليين بالمعنى الإيماني والسياسي معًا. يقول الأستاذ ميشيل عفلق: (إن الشاب العربي حين يؤمن بفكرة، يستطيع أن يهزّ العالم من حوله، لا لأنه يملك السلاح، بل لأنه يملك الإيمان). من هنا، كان إيمان البعث بالشباب إيمانًا بقدرتهم على بعث الأمة العربية من ركامها، لا عبر التلقين أو الطاعة، بل عبر الخلق والتمرد المسؤول. وفي فكر الشهيد صدام حسين، تحوّل هذا الإيمان إلى فعل دولة، حين قال:(الشباب هم حراس الحلم العربي، إذا خافوا سقط الوطن، وإذا ثاروا نهضت الأمة العربية).
ولهذا لم يكن الاستثمار في الشباب مجرّد شعار في خطاب، بل مشروع تحرر شامل، من التعليم المجاني النوعي، إلى تمكينهم من القرار السياسي، إلى تدريبهم على القيادة والمبادرة. لقد رأى حزب البعث أن كل ثورة حقيقية تبدأ من قلب شابٍ آمنَ أن العروبة ليست ماضيًا نرثيه، بل مستقبلًا نخلقه. وإن الأمة العربية التي لا تزرع في شبابها الإيمان بالقضية، تحصد الهزيمة ولو كثرت مواردها. كما أن في فكر حزب البعث، الشباب ليسوا (وقودًا) لحروب الآخرين، بل شموعًا تنير طريق الأمة العربية نحو وحدتها، وحريتها، وكرامتها.
الخاتمة: حين تخون الأوطان أبناءها: الشباب لا يخونون أوطانهم… بل تُخونهم الأوطان حين تُدار بالعنف، وتُغرق في الرداءة، وتُكرّس التفاهة كقيمة عليا. (لا أحد يُولد قاتلًا أو لاجئًا – بل يولد إنسانًا، ثم يُدفَع دفعًا نحو الهاوية).
فجيل العبث ليس هو المشكلة، بل المرآة التي تعكس إفلاس المجتمع والدولة والنخبة. نحن أمام مفترق تاريخي: إمّا أن نعيد لهذا الجيل حقه في المعنى، في الكرامة، في الأمل — أو نتركه فريسةً للنار أو للموج. لكن حتى في قلب هذا العبث، لم يكفّ بعضهم عن محاولة اقتناص الأمل: فشباب (ثورة 2011 ) و شباب انتفاضة ديسمبر الثورية( 2018 )في السودان الذين حوّلوا الساحات إلى فصولٍ للحرية، والمبرمجون الذين يصنعون من غرفهم الصغيرة شركاتٍ تنافس العالم، والفنانون الذين يحوّلون الألم إلى أغانٍ تنتشر كالنار في الهشيم — كلهم يثبتون أن الجيل العربي قادرٌ على تحطيم القيود، حتى لو كانت الأرض تحته تُنهش. هم لم ينتظروا أن يُمنحوا الشرعية، بل انتزعوها بإرادةٍ تُذكّرنا أن النهضة لا تبدأ بانتظار النظام، بل بشرارةِ فردٍ يرفض أن ينطفئ. إما أن نصنع منه جيل البعث — بعث الحياة، بعث الإنسان، بعث القيمة — أو ندفنه بأيدينا، صامتين، كما دُفِن آلاف من قبله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب