العنف ضد الأسرى كأداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية

العنف ضد الأسرى كأداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية
يخلص الباحثان أبو عرام وريماوي استنادا إلى ما أكدته الأحداث التي أعقبت 7 أكتوبر أن العنف الاستعراضي ضد الفلسطينيين ليس انحرافا أو استثناء، بل هو جزء جوهري من بنية استعمارية تعمل على تحويل جسد الفلسطيني إلى أداة للهيمنة…
في دراسة بعنوان “الجسد الفلسطيني كواجهة استعراضية للاستعمار الاستيطاني” نُشرت على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وتناولت العنف الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر 2023، يرى الباحثان أشرف أبو عرام واعتراف ريماوي، أن تصعيد إسرائيل من ممارساتها القمعية منذ السابع من أكتوبر يتجاوز أشكال السيطرة الأمنية الكلاسيكية نحو نمط متكامل من الاستعراض البصري والإذلال الجماعي الممنهج ضد الفلسطينيين، وأن هذا الانحراف ليس عارضا عن السياسة الإسرائيلية، بل هو تكثيف مقصود لبنية سلطوية قائمة، يتحول معه الاستثناء إلى قاعدة، ويغدو العنف الرمزي والمادي أداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية.
وفيما يوظف العنف العلني كآلية لإعادة تشكيل إدراك الفلسطيني باعتباره كائنا مستباحا، يتحوّل الجسد الفلسطيني إلى ساحة للعقاب والاستعراض، كما يقول الباحثان اللذان يستعرضان في الدراسة من خلال تحليل نظري لحالات موثقة، كيف تُستخدم هذه الممارسات لتثبيت منطق السيادة من خلال الصورة، وترسيخ نمط استعماري يدمج بين الانضباط الجسدي والإخضاع الرمزي.
كذلك تشير الورقة في هذا المجال إلى العديد من المشاهد التي وثّقتها المصادر الحقوقية والصحافية الفلسطينية والعالمية بشأن الانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها المعتقلون الفلسطينيون بعد 7 أكتوبر، وتظهر ممارسة العنف والتنكيل على أجساد المعتقلين بطريقة مكثفة وغير مسبوقة، وتطرح تساؤلات عن أسباب توثيقها، وحيثيات تسريبها إلى الجمهور الفلسطيني، لتخلص إلى لأن إسرائيل بدلا من إخفاء جرائمها، عملت على تحويل هذه الجرائم إلى رسائل ردع وترهيب للمجتمع الفلسطيني، وهو ما يدعم الادعاء بأن مجموع هذه المشاهد تعبر عن سياسة استعمارية هادفة، وليست أفعالا عشوائية.
ويرى الباحثان أن عرض العنف عبر وسائل الإعلام، وخصوصا الممنهج ومن إنتاج الدولة، قد يتحوّل إلى وسيلة للسيطرة الرمزية، كما أن تكراره يخلق روتينا استهلاكيا لهذه المشاهد، لدرجة أن تصبح الصورة أداة لتطبيع العنف وقبوله، وهي مقاربة تنطبق على مشاهد التعذيب والقمع البصرية التي تنتجها سلطة السجون الإسرائيلية، والتي تسعى من خلالها لتطويع “هذه الصورة”، لا للفضح، بل لإعادة إنتاج الهيمنة وإخضاع المتلقي “السجين والمجتمع برمته”.
ضمن هذا المسعى تصبح الصورة، وفقا للدراسة، جزءا من بنية بصرية تساهم في تطبيع القتل والقمع، وتخدير الحس والضمير، وتحويل الفلسطيني الضحية إلى “مشهد” روتيني لا يستدعي التعاطف والاحتجاج من أجله، وإنما إعادة إنتاج الخوف، وبالتالي تحقيق الهيمنة والإخضاع، ليس للسجين الفلسطيني فحسب، بل لمجتمعه أيضا. وفي السياق ذاته، فإن مشاهد وصور اقتحامات زنازين السجون وتكبيل الأسرى وضربهم بشكل مبرح، والاعتداء الجنسي عليهم وإذلالهم، وغير ذلك من مختلف الصور والمشاهد البصرية التي جرى إنتاجها بشكل ممنهج على يد “الدولة”، إنما تسعى لاستخدامها كمنتج إعلامي يجري استهلاكه بشكل روتيني من جانب الضحية، بغرض اعتياده والتسليم به، وقبوله لإعادة إنتاج الخوف.
ويخلص الباحثان استنادا إلى ما أكدته الأحداث التي أعقبت 7 أكتوبر أن العنف الاستعراضي ضد الفلسطينيين ليس انحرافا أو استثناء، بل هو جزء جوهري من بنية استعمارية تعمل على تحويل جسد الفلسطيني إلى أداة للهيمنة، وأن هذه الممارسات ليست مجرد انتهاكات معزولة، بل إستراتيجية استعمار بصري ممنهج، تهدف إلى تعزيز نظام الهيمنة والسيطرة والسيادة المطلقة.
لإلقاء المزيد من الضوء على هذا الموضوع، أجرينا الحوار التالي مع الباحث اعتراف ريماوي، أحد معدي الدراسة.
“عرب 48”: من المفارقة أن تصبح إسرائيل التي لطالما عمدت إلى إخفاء جرائمها وانتهاكاتها، هي من ينشر ويعمم صور وتسجيلات تلك الانتهاكات والجرائم، بهدف ترهيب الفلسطينيين وكسر إرادة المقاومة لديهم، من دون الالتفات إلى أي قيم وأعراف وقوانين دولية؟

ريماوي: أولا بودي أن أشير إلى أن الدراسة تأتي في إطار الجهد الفلسطيني العام، والجهد الخاص لمؤسسة الدراسات الفلسطينية بتوثيق ما حدث بعد السابع من أكتوبر في مختلف المجالات، وهي جزء من اجتهادنا أنا وزميلي أشرف أبو عزام في باب توثيق قضية الاعتقال والأسرى، وهي قضية تمتد تأثيراتها لكل المجتمع الفلسطيني، حيث تبدأ فكرة الاعتقال في الحيز العلني من البيت أو الشارع أو السيارة، مكان لحظة الاعتقال في الفضاء العام، لتتشابك وتتقاطع مع الفضاء المغلق خلف جدران السجون مع عمليات تعذيب مُمأسس وممنهج للأسرى الفلسطينيين، تحت بعد قانوني ممثلة بحالة الطوارئ التي استخدمت منذ الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر.
لقد أصبحت اليوم حالة الاستثناء القانونية التي جرى خلالها تعليق القانون “بشكل قانوني” هي القاعدة السائدة، وفي نطاقها تقوم السلطات الاستعمارية الإسرائيلية باستخدام الصورة والمشهد البصري لتوثيق سيل من القمع والتعذيب البصري المرئي المدور، ما بين الشارع وما بين السجون في علاقة تبادلية، بحيث تستعمله كعقاب وتعيد إنتاجه كعنف يعرض على كل الشاشات والمنصات، في محاولة لخلق تلك التحذيرات المرئية عبر ما تختزنه هذه الصورة من عنف وألم كبيرين، بهدف تطبيع العنف وجعله معتادا من قبل المجتمع، إضافة إلى قمع المجتمع بهدف ردعه وإسكاته.
وكما هو معروف، فإن السجون في المنظومة الاستعمارية هي إحدى الركائز الأساسية للإطاحة بالهوية الوطنية وتفكيك الذات الوطنية، من خلال تحويلها إلى مصانع لإنتاج العجز، على حد تعبير فرانز فانون في توصيفه للحالة الاستعمارية في الجزائر.
“عرب 48”: لكن، وكما هو معروف، فإن الحركة الوطنية الأسيرة في فلسطين نجحت في تحويل المعتقلات والسجون إلى معاقل نضالية ومدارس ثورية لتخريج المناضلين، وهو أمر لطالما أغاظ المؤسسة الإسرائيلية التي بدأت من خلال جناحها الأكثر فاشية، ممثلا بما يسمى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي تولى في إطار منصبه مسؤولية السجون، بدأت بالمعركة على الأسرى الفلسطينيين وسحب مكتسباتهم قبل السابع من أكتوبر، ثم جاء هذا الحدث ليعزز من تلك السياسة ويكثفها في محاولة لضرب صورة الأسير الفلسطيني بما تمثله من رمزية وبطولة تجمع وتحفز، وخلق صورة عكسية بديلة تبث التخويف والترهيب والقمع، وذلك بهدف كسر إرادة الشعب الفلسطيني؟
ريماوي: في الجزء الأخير مما قلت فإن صور الهياكل البشرية للأسرى الفلسطينيين وهم يخرجون من السجن يراد لها أن تؤدي هذا الغرض، فمجرد أن ترى إنسانا تعرفه أو لا تعرفه، صديق أو قريب، خارج على هذه الشاكلة يصيبك الفزع والجزع، وهذه الصورة يراد منها، كما قلت، استبدال صورة الأسير التي عششت عبر التاريخ في الذهنية والذاكرة الفلسطينية والمستقبل الفلسطيني أيضا، بوصفها صورة المناضل، صورة مشروع التحرر والانعتاق، وبالتالي فهي تشكل حالة رمزية تكريمية احتفالية في الشارع الفلسطيني.
وإذا أمعنا النظر في التحليل للاستعمار الاستيطاني واستعنا بباتريك وولف، نرى كيف أن التجربة الفلسطينية تغذي بمفرداتها حالة الاستعمار الاستيطاني، بأنه استعمار يسعى فعلا للاستبدال والإحلال، وهو يستبدل أو يحاول صورة الأسير الفلسطيني المناضل بهياكل بشرية أشبه بالإنسان، لتشكل عوضا عن محل تكريم واحتفاء محل تخويف وردع، وهو لذلك يلاحقنا بالمشاهد البصرية واستبدال صورة بصورة.
وفي جزئية بن غفير أو الحكومة الإسرائيلية الحالية، فقد شنت فعلا هجومها على الحركة الأسيرة قبل السابع من أكتوبر، حيث قامت بتشكيل البنية التحتية للانقضاض على الأسرى، بما تحتويه من قوانين وإجراءات وإعادة هيكلة لسلطة السجون، بما يشمل تغيير مسؤولين وتعيين آخرين يحملون ميولا سياسية وأيديولوجية تتوافق مع هذه السياسة، وهي جميعها أمور جرى توثيقها من خلال وسائل الإعلام.
وما إن جاء السابع من أكتوبر حتى كانت البنية الإدارية البيروقراطية جاهزة لقمع الأسرى وتحويل السجون من معاقل، كما أشرت، ومن ساحات اشتباك بتعبير العديد من رموز الحركة الوطنية، إلى اسطبلات قذرة “يتوسل” فيها الأسرى طيلة الـ 24 ساعة الأكل والشراب، فلا يجدوا إلا اليسير منه، ويبحثون عن الدفء المفقود والدواء المفقود، وعن لحظة أمان تقيهم من هراوات السجانين وكلابهم المسعورة وشتى أنواع القمع الأخرى.
والأنكى أن هذا المشهد بعذابه وقمعه لم يعد مقتصرا على الأسير المتلقي الذي يواجه هذا التعذيب الممنهج داخل السجن، بل جرى نقله وإنتاجه في الفيديوهات، وسُرب بقصد أو من دون قصد وعُمم بإرادة واعية، كي يتكامل قمع ما وراء الجدران مع القمع الحاصل في الفضاء والحيز العام في ظل السلطة الاستعمارية.
“عرب 48”: قمتُ مع آخرين في الأيام الأخيرة بزيارة رجا إغبارية الذي تحرر من اعتقال إداري دام أربعة اشهر، وهو يبلغ من العمر 74 عاما وشخصية سياسية واجتماعية لها مكانتها، ويحمل المواطنة الإسرائيلية أيضا، إلا أن جميع هذه “الامتيازات” لم تشفع له، من التعرض للقمع والضرب والإهانة بشكل غير مسبوق، كما أنه خرج ليقول تركت ورائي “هياكل عظمية”؟
ريماوي: في ورقتنا نحن تناولنا المشهد البصري لكن في قضية رجا وآخرين من المناضلين وكبار السن والرموز التاريخية في الحركة الوطنية عموما، هذا مشهد سمعي آخر قد يكون مدخلا لورقة أخرى، فالأخبار التي تواردت عن رجا من سجن مجيدو بأنه يتم تكسير يديه ورجليه وإلقاءه في الساحات وإبعاده عن الطعام والشراب والدفء وغيرها من المنغصات التي تستخدم ضده، هذا مشهد هو أكثر من مشهد بصري لأنه سينتج في أذهان الناس عشرات ومئات الصور المريبة، ويتخيل كل واحد منا أن ذلك ربما يحدث لابني أو بنتي، لصديقي أو صديقتي، وهي صور تتبلور نتيجة السمع والإشاعات التي تصاغ من قبل سلطة السجون الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين، ويراد منها تحقيق الأهداف التي ذكرناها سابقا.
“عرب 48”: في السابق جرت العادة أن يتم احترام الرموز والقيادات بما يتناسب مع مكانتها في المجتمع، ويبدو أن الوضع بات معكوسا هذه الأيام، إذ يتعمدون إهانة الرموز أو “الرؤوس الكبيرة” (الحوار أجري قبل الفيديو المسرب عن اقتحام بن غفير لزنزانة القائد الوطني مروان البرغوثي) بقصد إهانة الشعب الفلسطيني؟
ريماوي: صحيح، هذا هو المفهوم النظري لاستبدال كل ما كان حالة رمزية في الشعب الفلسطيني، بحالة أخرى من الردع والإخضاع والقمع، ويتم تصدير هذه الصورة وتعميمها.
“عرب 48”: ويبدو أن هذه السياسة تحقق بعض النجاح، إذ تخلق حالة من الترهيب في الشارع؟
ريماوي: طبعا، تلك إحدى الأدوات والركائز، كما ذكرنا، التي تستخدمها السلطة الاستعمارية، وهي بالتالي تأخذ مداها، لكن من جهة ثانية يفترض أن يمتص الشعب الفلسطيني هذه الضربة ويجترح أدوات أخرى لمواجهتها، وهي عملية شائكة لا تتم بكبسة زر وليست وليدة لحظة، لكن نعم هذه السياسة تؤثر وتطال معنويات الناس، خصوصا وأن هناك قوننة ومأسسة وشرعنة للقمع، فالتعذيب لم يعد استثناء، بل يجري على رؤوس الأشهاد من خلال حالة الطوارئ التي تعلق ممارسة القانون، وتفرض سيادة اللاقانون، وبالتالي يصبح اللاقانون هو القانون.
اعتراف الريماوي: طالب في برنامج الماجستير في الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت، وحاصل على منحة في إطار برنامج الزمالة ما بين جامعة بيرزيت ومؤسسة الدراسات الفلسطينية. ويعمل مديرًا لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى في رام الله.