تعديلات اتفاق الطائف حرمت السلطة السياسية من أداة القمع | وحدة الجيش شرطها عصيان «سلطة الخارج»

تعديلات اتفاق الطائف حرمت السلطة السياسية من أداة القمع | وحدة الجيش شرطها عصيان «سلطة الخارج»
ابراهيم الأمين
ما قرّرته الحكومة بشأن سلاح المقاومة، لم يكن قراراً إدارياً يمكن رميه في الدرج. قد يكون في غرف أهل الحكم من يفكر بهذه الطريقة. لكنّ الجميع يعرف أنّ ما تريده الولايات المتحدة والسعودية، وما يناسب إسرائيل، يتطلّبان بقية الخطوة. بمعنى، أن ما أُقرّ، هو الحرف «أ» من الخطة، والمطلوب الشروع في الأبواب التي تليها. حتى عندما ظنّ البعض أن الطلب إلى الجيش وضع خطة، هو خطوة لشراء الوقت، فهو ظنّ في غير مكانه.
صحيح أن وزير الدفاع ميشال منسى أو قيادة الجيش لم يقدرا على منع الحكومة من رمي كرة النار في حضن المؤسسة العسكرية، إلا أن التحدّي اليوم، يكمن في عبارة تبدو أليفة على آذان الناس، عندما يقولون، إن المؤسسة العسكرية مضطرة إلى تنفيذ أوامر السلطة السياسية، وإن أي تمرّد من قبلها سوف يطيح قواعد القانون العام. وهذه ليست حقيقةً في بلد مثل لبنان، وليس صحيحاً بالمرة، أن الجيش في لبنان، ومنذ الشروع في تطبيق اتفاق الطائف، هو مؤسسة تتقيّد حرفياً بما يصدر عن السلطة السياسية. ومن المفيد هنا، مراجعة سلوك الجيش خلال السنوات الـ35 الماضية، حتى يمكن فهم ما يُفترض بالجيش أن يقوم به الآن.
منذ موافقة الولايات المتحدة الأميركية والسعودية على منح سوريا الهامش الأوسع في إدارة لبنان بعد إقرار اتفاق الطائف، كان حافظ الأسد مهجوساً بوضع المؤسسة العسكرية. وهو اكتشف سريعاً، أنه يوجد فيها من يتوافقون مع خطته، بأن يقودوا عملية توحيد الجيش من جهة، وإعادة تنظيمه كمؤسسة تحظى بإجماع وطني، لكن، أن تبقى بعيدة جداً عن سلطة القوى السياسية الموجودة في الحكم، ليس لأن الأسد يريد الإمساك بالأوراق كافة، وهو فعل ذلك، بل لكونه يعرف أن لبنان، لم يعد قادراً على تجنّب الحرب الأهلية، إلا بتحييد الجيش عن صراعات السياسيين فيه.
وقد أتيح يومها، لمجموعة من الضباط، أن يستغلوا الفرصة، من أجل إعادة بناء مؤسسة عسكرية لديها قواعدها المهنية التي تجعل العسكري فيها يشعر بأنه غير متروك لمصيره. كما أتيح لها، إعادة تنظيم العقيدة القتالية للجيش، بما يجعله خارج التقاتل الداخلي بصورة نهائية، ولاعباً مسانداً لفكرة المقاومة التي كان الأسد يوفّر لها رعاية خاصة.
وهو ما أتاح تحقيق سلسلة من الأهداف دفعة واحدة:
– تقييد حدود القوة للسلطة الحاكمة بأركانها الأربعة (سني وشيعي ودرزي لديهم شرعية شعبية، ومسيحي بدل عن ضائع).
– فرض سيطرة أمنية وعسكرية جدّية على كل الأراضي اللبنانية، وكبح جماح أي قوة عسكرية أو أمنية تفكر بالعودة إلى قواعد الحرب الأهلية.
– حماية ظهر المقاومة، وعدم الاقتراب من عملها، مقابل التزام المقاومة بعدم التدخل في عمل المؤسسة العسكرية.
ظلّت هذه الوصفة لوقت طويل، وفكرتها تقول بأن الجيش يجب أن يظل بعيداً عن يد السلطة السياسية الحاكمة. وهو ما دفع قيادة الجيش إلى رفض وجهة أركان الحكم تلبية طلبات الغرب بعد عدوان تموز 1993، وقبله رفض الخضوع لقرار العدو إبعاد مئات القيادات الفلسطينية إلى مرج الزهور، وأصرّ على وضعهم في موقع أتاح لهم العودة إلى ديارهم لاحقاً. كما تصرّف الجيش بطريقة ذكية في حرب عام 1996، وكان له دوره البعيد عن رغبات السلطة في لجنة تفاهم نيسان، وكانت قيادة الجيش تحاول كل الوقت إفهام السلطة السياسية بأن الجيش ليس أداة في يدها، وأنه ليس صحيحاً، أن الجيش يلتزم بأوامر السلطة السياسية كيفما كانت.
منذ توقّف الحرب الأهلية، لا ينساق الجيش خلف قرارات الحكومات في أمور مصيرية داخلية أو خارجية
عندما وصل إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، أدرك بعد وقت غير طويل، أن سلطته على الجيش تتراجع سريعاً، وصولاً إلى عدم القدرة على التحكّم بدوره. ولم يكن الأمر مرتبطاً بقدرات شخصية لميشال سليمان، بقدر ما كان الأمر مرتبطاً بالقواعد التي فرضها الأسد. وبعد وصول ميشال سليمان إلى القصر الجمهوري، لم يكن الجيش يحتاج إلى وقت طويل حتى يحفظ استقلاليته عن السلطة السياسية، محافظاً على قواعد اللعبة، بما فيها العلاقة مع المقاومة، وهو ما ترجمه في أحداث 7 أيار عام 2008، عندما رفض تنفيذ أوامر سلطة لم يكن يثق بما تقوم به، خصوصاً بعد قرارات الحكومة في 5 أيار نفسه، علماً أن الأمور كانت قد تغيّرت، ولم تعد سوريا مُطلَقة اليد في لبنان. لكنّ الجانب الأميركي نفسه، وجد أنّ فكرة تحييد الجيش مناسبة لخطته البعيدة الأجل، وهو ما فتح الباب أمام رعاية أميركية تعاظمت مع الوقت حتى باتت واشنطن تتحكّم بمفاصل المؤسسة العسكرية.
وعندما وصل العماد ميشال عون إلى القصر الجمهوري، واختار بنفسه العماد جوزيف عون لقيادة الجيش، لم يكن ليتصور أن القواعد لا تزال فاعلة. لكن فترة قصير مرّت، حتى بات عون الرئيس يشكو من عون القائد، قبل أن يذهب الأخير بعيداً في إدارته للمؤسسة العسكرية، على أساس أن الحصانة الأميركية، هي العنصر المركزي، وليس قرار السلطة السياسية. وهو ترجم الأمر عندما اندلعت أحداث 17 تشرين عام 2019، فوقف الجيش على الحياد، ما أتاح له ترجمة استقلاليته عن صراعات السلطة السياسية.
اختبار الانقلاب على الطائف
اليوم، نحن أمام لحظة خاصة، ليس لأن الجيش عرضة لاختبار جديد كما حصل معه مرات كثيرة سابقاً، بل لأنه يوجد في السلطة اليوم، من يقرأ الأمور بالمقلوب. وعندما وصل عون إلى القصر الجمهوري، ثم انطلق في آلية لإدارة الملفات، أظهرته متجاوزاً لموقع ودور رئاسة الحكومة والوزارات، فهو لم يفعل ذلك نتيجة جهل بقواعد الدستور، بل فعل ذلك نتيجة فهم خاص يرتبط بتغيير قواعد اللعبة. فهو ينطلق من أنه لا يحمل جميلاً لأحد من كل القوى بشأن وصوله إلى القصر الجمهوري. لكنه يشعر بأن ما تغيّر داخلياً (الضربة التي تلقّتها المقاومة من إسرائيل)، والمتغيّر الكبير إقليمياً (سقوط نظام بشار الأسد في سوريا) يسمحان له بالعودة إلى آليات عمل سابقة على اتفاق الطائف.
وإذا كانت مشكلته مع الرئيس نبيه بري أو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط قابلة للعلاج من خلال مبدأ المحاصصة، فإن مشكلته مع سلام لا تشغل باله كثيراً. فهو مضطر اليوم، أن يقف إلى جانب سلام في الموقع نفسه، لكنّ العنوان الجامع، لا يتعلق بمسألة تخصّ بناء الدولة، بل تخصّ تحقيق ما يريده من أوصلهما إلى حيث هما اليوم. والخطير في الأمر، هو اعتقاد الرجلين، بأنه يمكنهما، إدارة ملف المقاومة متّكليْن على الجيش كأداة تنفيذية حاضرة لتنفيذ أي قرار دون نقاش.
وبناءً على كل ما سبق، فإن الأمر يتحرك بحيث تعود الكرة من جديد إلى من بيده الأمر. وفي هذه الحالة، فإن التحدّي موجود فعلياً أمام قيادات الجيش والقوى العسكرية والأجهزة الأمنية في البلاد. وإذا لم تبادر هذه المؤسسات، إلى إفهام السلطة السياسية بأن ما تفكر به أو تقوم به، إنما يخالف قواعد الحكم التوافقي الذي قام مع اتفاق الطائف، فعليها إدراك، أن هناك من يريد إدخالها في أصعب اختبار تعيشه منذ عام 1975.
يقال إن للنظام الطائفي فضيلة وحيدة، وهي منع حصول انقلاب عسكري في لبنان. والسبب بسيط للغاية، حيث بمقدور أي طائفة وازنة إعلان تمرّدها على المؤسسة العسكرية والأمنية في البلاد، بما يهدّد وحدة هذه المؤسسة… والكلام عن مخاطر تقسيم الجيش وتدميره في حال زجّه في معركة تخصّ مجانين أميركا والسعودية وإسرائيل، ليس كلاماً في الهواء، وليس فيه تهديد سياسي، بل هو تفسير بسيط ومنطقي وواقعي، ومن يعتقد خلاف ذلك، فليجرّب حظه!
عن الاخبار اللبنانية