حزب الله بين اليوم الحالي واليوم التالي
حزب الله بين اليوم الحالي واليوم التالي
في مقابلته الأخيرة مع قناة «الميادين»، تحدّث الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن «خطر وجودي يستهدف الشيعة في لبنان». لم تكن تلك الجملة تفصيلاً عابراً، بل تكثيفاً واضحاً لنظرية كاملة حكمت سلوك الحزب منذ تأسيسه، وهي تقوم على التوازن الحذِر بين أمنه الماديّ كتنظيم عسكري- أمني، وأمنه الأنطولوجي (علم الوجود الفلسفي) كحركة تحمل سردية دينية – سياسية ترى نفسها طليعة لمشروع إقليمي مناهض للهيمنة الغربية.
في كل محطة مفصلية، من حرب تموز عام 2006، إلى تدخّله في العراق وسوريا، ثم حرب الإسناد في غزة، وصولاً إلى الحرب الشاملة الأخيرة التي أدّت إلى اغتيال أمينه العام الشهيد السيد حسن نصرالله، قرأ حزب الله التهديدات بعدستين متداخلتين:
الأولى هي تهديد الأمن الفيزيائي: استهداف مباشر للوجود العسكري، أو القيادة، أو بيئته الحاضنة.
الثانية، هي تهديد الأمن الأنطولوجي: حين يشعر الحزب بأن عقيدته وسرديته وهويته كـ«حركة مقاومة» تُستَهدَف لتفقد معناها أو فعاليتها أمام جمهوره أو حلفائه.
في هذه المسافة بين الأمنَين، يتحدد سلوك حزب الله، وتُرسم استجاباته، وتُعاد صياغة دوره.
واليوم، في لحظة غير مسبوقة عنوانها «اليوم التالي» لما قبل وبعد الحرب مع إسرائيل، ومع اغتيال شخصية مركزية في سرديته وتاريخه كالسيد نصرالله، يجد الحزب نفسه أمام أكثر اختباراته تعقيداً: كيف يستمر، بأي سردية، وبأي سلاح وفي أي دولة؟
في محاولة لقراءة موقع الحزب الحالي، واستشراف مستقبله، على ضوء التوتّر الحادّ بين الضرورة الوجودية والواقعية الأمنية، فإنه يجب النظر إلى الحرب الأخيرة، على أنها لم تكن مجرّد جولة إضافية في الصراع المفتوح مع إسرائيل فقط، بل شكّلت لحظة زلزالية حقيقية تركت آثاراً عميقة في بنية الحزب وبيئته وفعاليته الاستراتيجية.
وبالتالي، لا يمكن تجاهل الخسائر البشرية والميدانية الثقيلة، ولا سيما في الصفوف القيادية. حيث طاولت الاغتيالات المنهجية شخصيات من الجيل المؤسّس، وانتهت باغتيال الأمين العام التاريخي، ما عنى – فعلياً – سقوط سردية «القيادة الثابتة»، وأدخل الحزب في اختبار غير مسبوق في ما يتعلق بإعادة هيكلة قيادته، وإعادة إنتاج شرعيته التنظيمية والسياسية.
كذلك تسبّبت الحرب في حصول دمار واسع في الضاحية الجنوبية ومناطق كثيرة في البقاع والجنوب. حيث تتداخل الجغرافيا الحاضنة للحزب مع النسيج الاجتماعي اللبناني، وباتت البيئة التي طالما اعتُبرت الخاصرة الصلبة للمقاومة عرضة لتحديات غير مسبوقة، تبدأ بالاقتصاد، ولا تنتهي بالهجرة والاستنزاف السكاني والمعنوي.
«الصلابه العقائدية»، هي عنصر مركزي في منظومة تفكير الحزب لتحديد التهديدات، وصياغة الأولويات، واختيار وجهة
وآلية العمل
وما بين الدمار والخسائر، يُطرح السؤال حول فعالية الردع. فقد تمكّنت إسرائيل من تنفيذ ضربات عميقة، دون أن تواجه ردوداً توازيها في القوة أو التأثير، ما يفتح نقاشاً جاداً حول تآكل معادلة الردع التقليدية، ويجعل الحزب أمام خيارين: إما إعادة صياغة وظيفة السلاح، أو الدخول في سباق مفتوح نحو مواجهة أكثر كلفة، في لحظة إقليمية لا تحتمل المغامرة.
الأخطر من ذلك، أن الجبهة الشرقية للبنان – التي شكّلت لعقود عمقاً استراتيجياً للحزب عبر الحدود السورية – لم تعد كذلك. فمع تصاعد التوترات الإقليمية، وانكشاف الوضع السوري داخلياً، باتت هذه الجبهة قابلة للاشتعال في أي لحظة، وربما تتحوّل إلى خاصرة رخوة بدلاً من أن تكون ظهيراً عسكرياً.
في ضوء هذا كله، يواجه الحزب لحظة مراجعة تاريخية: ما هي حدود الدور؟ ما جدوى الاحتفاظ بسلاح لم يعد يمنع الضربات؟ كيف تُعاد صياغة العلاقة مع البيئة الداخلية ومعادلات القوة في الإقليم؟ وما هو مستقبل الحزب بعد رحيل معظم الجيل المؤسّس؟
ومع ذلك، فإن ما يستوقف المراقبين ـ بل ويحيّر حتى خصوم الحزب ـ هو سرعة إعادة بناء منظومة القيادة والسيطرة، رغم حجم الضربة التي تلقّاها على مستوى قيادته ومراكزه وخطوطه الخلفية. ما كان كافياً لانهيار جيوش كاملة، لم يُسقط حزب الله، بل اندفع إلى التكيّف السريع، وإعادة ترتيب صفوفه، والإبقاء على زخم النيران والهجمات حتى اللحظة الأخيرة من الحرب.
لعلّ أبرز ما تمكّن الحزب من تحقيقه هو منْع الجيش الإسرائيلي من تحقيق اختراق بري حقيقي داخل الأراضي اللبنانية، رغم احتشاد أكثر من خمس فرق قتالية إسرائيلية، تُقدّر بأكثر من 75 ألف جندي، أي نفس العدد الذي اجتاح لبنان عام 1982 ووصل إلى بيروت. هذه المرّة، لم يتجاوز الجنود الحدود، ولم تُحتل المدن الجنوبية، بل ظلّت خطوط التماس مشتعلة، ولكن محكومة.
الأهم، أن الرشقات الصاروخية لم تتوقف، بل وصلت في بعض أيام الحرب إلى ذروتها، واستهدفت عمق الجبهة الداخلية الإسرائيلية، بما فيها تل أبيب وغرفة نوم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في رسالة نارية حملت مزيجاً من التحدّي والقدرة على الرد. هذه الاستمرارية في الفعل الناري، رغم الضربات الجوية المركّزة والانكشاف الاستخباراتي، تعني ببساطة أن الحزب نجح في حماية حدٍّ أدنى من قدرته الهجومية، بما يكفي لمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية في لبنان.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ قدرة حزب الله على الاحتفاظ بعنصر المفاجأة وشلّ القدرة الإسرائيلية على الحسم الميداني، أعادت تموضع الحزب داخل أي نقاش مستقبلي حول استراتيجية الدفاع الوطني اللبناني. فالمعادلة باتت أكثر تعقيداً: حزب تلقّى جراحاً عميقة، لكنه ما زال يمتلك القدرة على منع الانهيار، وعلى فرض كلفة عالية لأي مغامرة برّية إسرائيلية مستقبلية.
لا يمكن فهم السلوك السياسي والعسكري لحزب الله، ولا إعادة تعريف دوره الداخلي والإقليمي، دون التوقّف أمام الإرث العقائدي الشيعي الذي يشكّل عدسة مركزية لفهم الحزب للعالم، ولذاته، ولدوره في هذا العالم. هذا الإرث ليس مجرّد خلفية ثقافية أو لغوية، بل هو بنية مفاهيمية وسردية تمدّ الحزب بمفاتيح للمعنى، وبأدوات لاستمرار الحركة، حتى في أكثر اللحظات كلفة ومأساوية.
ليس عبثاً أن يختار الحزب في تشييع أمينه العام التاريخي شعار «إنّا على العهد»، وهو تعبير موروث من أدبيات كربلاء يعبّر عن استمرارية الطريق والنهج دون انكسار. لكنّ الاختيار الأبلغ جاء في أول مواسم عاشوراء بعد الحرب، حين أعلن الحزب أن شعار الموسم هو «ما تركتك يا حسين».
هذا الشعار، الذي يستدعي كلمات أصحاب الحسين في كربلاء عندما واجهوا الموت المحتم قائلين: «لو أننا نُقتل ثم نُحرق ثم نُنشر، يُفعل بنا ذلك سبعين مرة، ما تركناك يا حسين»، لا يُستخدم هنا كتعبير عاطفي صرف، بل كإعلان هوية، وتجديد للارتباط بمسار المقاومة كمسار وجودي لا يُمكن التخلّي عنه.
في توقيتٍ دقيق، بعد حرب طاحنة، وتحت ضغوط هائلة دولية وإقليمية وداخلية تطالب الحزب بتقديم جدول زمني لتسليم سلاحه وبالانكفاء عن خطوط الاشتباك، يختار الحزب أن يُجيب لا بخطاب سياسي، بل بشعار عقائدي، يختصر موقفاً من العالم، ومن الذات، ومن الدور.
هذه المقاربة العقائدية ليست انعزالاً عن الواقع، بل تشكّل في عقل الحزب منظومة تفسيرية لتحديد التهديدات، وصياغة الأولويات، وبناء الاستجابات. فبين الأمن الفيزيائي الذي يفرض اعتبارات الردع والبقاء، والأمن الأنطولوجي الذي يحمي هوية الحزب وسرديته، يولد ما يمكن تسميته بـ»الصلابة العقائدية». هذه الصلابة ليست فقط ما يسمح للحزب بالبقاء، بل ما يمنحه الحق، في نظر نفسه وبيئته، بالاستمرار، وبالتضحية المتكررة دون إحساس بالهزيمة أو الانكسار.
لذلك، فإن إعادة تعريف دور الحزب في المرحلة المقبلة لن تتم وفق معايير سياسية تقليدية، بل وفق ميزان مركّب، تتداخل فيه التهديدات الأمنية، مع الالتزامات العقائدية، مع سردية الشهادة والتكليف. وهذا ما يضع الحزب، مرة أخرى، في موقع لا يشبه أي فاعل سياسي لبناني أو إقليمي.
يتموضع حزب الله اليوم عند تقاطع بالغ الحساسية: فهو من جهة، يتمسّك بسلاحه بوصفه جوهراً من جوهر دوره وموقعه الاستراتيجي؛ ومن جهة أخرى، يتجنّب الرد المباشر على الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية، مفسحاً المجال للدولة اللبنانية للتحرك في مواجهة هذه الاعتداءات، رغم ما تكبّده من استهدافات طاولت عناصره وقياداته الميدانية.
هذا السلوك الذي يتّسم بدرجة عالية من ضبط النفس، يعكس قراءة واقعية لمنظومة التوازنات الجديدة في المنطقة، خصوصاً في ظل التحولات الجذرية التي أصابت معادلات الردع، والاختلال العميق في موازين القوى، وتراجع مكانة الجبهة السورية كعمق استراتيجي موثوق.
في الوقت الراهن، لا يبدو أن الحزب يشعر بتهديد مباشر لأمنه الأنطولوجي، لأن سرديته حول المقاومة لا تزال تحظى بشرعية داخلية وإقليمية، وهويته كمقاومة للاستكبار ما زالت فاعلة في الوعي الجمعي.
لكن استمرار الاعتداءات أو توسّعها قد ينقل الصراع إلى مستوى جديد، يُهدّد فيه جوهر وجود الحزب وسرديته. وهنا، لن يكون الحزب قادراً على التضحية بأمنه الأنطولوجي لصالح الحسابات الواقعية فقط.
عليه، فإن التحدّي الأكبر في المرحلة المقبلة سيكون في قدرة الحزب على إنتاج مقاربة إبداعية، توازن بين ضرورات البقاء الفيزيائي ومتطلبات الحضور الهوياتي، في معادلة دقيقة تحفظ له شرعيته، وتضمن له الاستمرارية في زمن التحوّلات.
* أكاديمي وباحث لبناني
عن الاخبار اللبنانية





