كتب
المواطن السوري ما بين الهوية المثقوبة والهوية الممزقة بقلم الدكتور رياض العيسمي
بقلم الدكتور رياض العيسمي

المواطن السوري ما بين الهوية المثقوبة والهوية الممزقة
بقلم الدكتور رياض العيسمي
إن ما يدور في سورية اليوم يعيدني عقودا إلى الوراء. وذلك عندما قام الفريق حافظ الأسد وزير الدفاع السوري عام ١٩٧٠ بانقلاب عسكري ابيضّ اسماه الحركة التصحيحية. وفصل الدستور ليكون على مقاسه ومقاس نظامه الجديد. وتصب نفسه رئيسا بمرجعية شعبية فصلها هو تفسه بعناية. وهذا ما عبرت عنه بقصة بعنوان “الهوية المثقوبة” تضمنتها رواية سيرتي الذاتية بعنوان “الاجيال لاتموت”، والتي نشرت على الانترنت بنسختها الالكترونية في منتصف آذار من عام ٢٠٢٢. وذكرت في مقدمتها بان هذا النظام انتهى دوره. وهو ساقط قريبا لا محالة. وعندها سأنشر هذه الرواية بنسختها الورقية في دمشق. وهذا هو نص قصة الهوية المثقوبة كما ورد في الرواية:
الهوية المثقوبة
في 16 تشرين الثاني من عام 1970، قام وزير الدفاع في حينها الفريق حافظ الأسد بانقلاب عسكري أطلق عليه اسم “الحركة التصحيحية.” لم يكترث الناس كثيراً للحدث بشكل عام. وذلك لأنهم كانوا قد تعودوا على توالي الانقلابات العسكرية في سورية. وبحيث كان لا يمر أكثر من ثلاث سنوات إلا ويقع انقلاب. واعتبروا بأن انقلاب حافظ الأسد ليس إلا واحداً من هذه الانقلابات. وكنت واحداً من الناس الذين تشكل لديهم هذا الاعتقاد. وفي أواخر عام 1970، تبلغت من قبل الدائرة الحكومية المختصة في دمشق بمراجعة النفوس (دائرة الأحوال المدنية) في قضاء صلخد التابع لمحافظة السويداء السورية حيث يوجد قيد نفوسي. وذلك لتقديم طلب للحصول على تذكرة الهوية الشخصية السورية. فكان هذا أروع خبر تلقيته في حياتي. وكنت في حينها قد بدأت في الصف العاشر من المرحلة الثانوية في المدرسة نفسها، ثانوية ابن العميد. وكنت قد أوشكت على إكمال سن السادسة عشر. وأتذكر يومها بأن فرحتي لم تكن تسعني عندما وقفت أمام الكاميرا الشمسية لموظف الأحوال المدنية لالتقاط صورتي لوضعها على الهوية، وأن شيئاً طريفاً قد حصل في حينها. حيث حاول الموظف مرات عديدة قبل أن يفلح بالتقاط الصورة. وذلك لأنه كان في كل مرة يوازن فيها سيبة الكاميرا لتقابل العدسة وجهي ومن ثم يدخل رأسه داخل الكيس الأسود استعداداً لسحب خيط آلية التصوير لالتقاط الصورة، إلا أنه سرعان ما كان يخرج رأسه من الكيس وينظر إلى وجهي ثانية ويتأكد من ارتفاع السيبة ليجد كل شيء مطابقاً. وكرر العملية لعدة مرات. وإلى أن أصابه الانفعال وأخرج رأسه من الكيس الأسود بسرعة ووجدني ما زلت أقف على أصابع قَدميّ. وقال بحدة لماذا تقف على أصابع قدميك. وكان الجواب، وببساطة وعفوية الشاب المراهق وانفعالاته الهرمونية التي تجعله يطلق عقال لسانه قبل أن يدير محرك التفكير في رأسه، “لأنني فخور بهويتي الوطنية.” ولقد كانت فرحتي أكبر بكثير عندما علمت بأنه بعد حصولي على الهوية الشخصية أصبح بإمكاني أن أُمارس صلاحياتي كمواطن سوري. وأن أُدلي بصوتي في الاستفتاء الشعبي على تثبيت الرئيس الذي كان قد تقرر في 12 أذار في العام اللاحق، 1971. وبقيت أعُدُّ الأيام بفارغ الصبر إلى أن جاء موعد الاستفتاء. فحملت هويتي الجديدة وهرعت إلى أقرب صندوق اقتراع لأدلي بصوتي. وأبرزت هويتي إلى الموظف بفخر المواطن وعنفوان الشباب. ولكن صدمتي كانت كبيرة لأن الموظف لم يعطني ورقة أضع رأيي عليها، وأضعها بنفسي في الصندوق كما كنا نشاهد في جهاز التلفاز، بل تناول هو ورقة الاستفتاء بنفسه ووضعها بالصندوق نيابة عني. وكانت توجد على الورقة عبارة واحدة فقط “نعم للقائد” مع إشارة تشاك مارك (Check Mark) حمراء كبيرة. وقال للموظف الأخر الذي كان يساعده بلهجة آمره: “يا الله سجل عندك رياض شكيب العيسمي “نعم للقائد” واثقب هويته. وهنا كان لا بد لي من أن أعترض. فقلت للموظف وبنزق التمرد وإصرار المواطنة التي اعتقدت بأن بطاقة المواطنة “الهوية الشخصية” تخولني إياها: “أنا لا أريد أن أصوت بنعم. أنا أريد أن أصوت ب “لا”. لكنه لم يكن يتوقع مثل هذا الجواب. فامتعض وجهه وتَجهّم محياه، وكان الشرر قد بدأ يتطاير من عينيه. فناولني بطاقة الهوية بصلف بعد أن كان الموظف الآخر قد ثقبها من زاويتها اليسرى في الأسفل تدليلاً على أنني قد صوت للقائد الجديد. وخاطبني مهددا باللهجة التقليدية: “يا لله وله “حليئ” من هون وما عاد توريني وجهك (حليق من هون أي انصرف من هنا باللهجة الشامية).” فعدت أدراجي إلى بيتي وأنا أحمل هويتي الوطنية المثقوبة بصمت وخيبة أمل. ولا صوت يُسمع لي، بعد أن ضاع صوتي هدراً في صناديق “العرس الديمقراطي” الأول من حكم الرئيس حافظ الأسد.
لقد سقط نظام الاسد كما وصل إلى السلطة بقرار أمريكي-اسرائيلي. وجاء الشرع بنفس القرار ، ولكن بشكل موسع اكثر هذه المره، وليشمل دولا اخرى اقليمية ودولية. وذلك لتوسع مروحة الأهداف الموكلة له. وهو سيذهب بقرار لا محالة. لكن ليس كما ذهب إلرئيس بشار إلاسد، وانما كما ذهب الرئيس السادات بعد ان وقع على اتفاقية الصلح مع إسرائيل.
ولن تطول هذه الفترة، وقد تسبق نهاية العام.
مسكينة هي سورية مشكلتها تكمن بموقعها الجغرافي وقربها من اسرائيل. ومسكين هو المواطن السوري ان يكون قدره على مدى اكثر من نصف قرن ان يختار ما بين الهوية الوطنية المثفوبة والهوية ألممزقة.