
«ما الذي ينقص الأزرق ليكون سماء» لمنصف الوهايبي: سيرة ذاتية أم نص جامع؟

رياض خليف
اختار منصف الوهايبي في كتابه الجديد أن ينزاح عن نموذج السرد السيرذاتي السائد، أو ما سماه حاتم الفطناسي النموذج الحسيني، نسبة إلى طه حسين وسيرته المعروفة. فهو «يخوض مغامرة كتابية تنبو عن الأنساق الجاهزة والمناويل المحنطة، والسبل المرسومة المتعارف عليها في السيرة الذاتية تجاوزا للمنوال الحسيني»، فلم يقصر السيرة على تذكر تفاصيل الحياة، ولم يلتزم بالترتيب الزمني، ولم يجعلها نصا سرديا نثريا خالصا، لكنه يتخذ نهجا آخر… وهو ما أشار إليه الوهايبي بدوره في مقدمة العمل:
«أكتب سيرتي على غير ما عهده القارئ من مواثيق أدب السيرة وسننه، وإنما في كتاب تنتظم كل مكوناته داخليا بحبل سري معرفي». إن هذا العمل يحاول كتابه شيء من سيرة المؤلف ومن سيرة قلمه، ما يجعله يخرج عن المفهوم الضيق والمألوف للأدب السيرذاتي.
عوالم الذات
يسجل الذاتي والحميمي حضوره في مختلف مراحل العمل، بدءا من حدث الولادة في قرية عين مجونة مسقط الرأس، ولكن الذاكرة سرعان ما تترك التسلسل والترتيب، وتجنح إلى التقاط محطات متفرقة من حياة الشاعر، أو لنقل تضيء جوانب من حياته، ذاكرة البيت الحميمي، أو لنقل زمن الأسرة، ذاكرة النضال السياسي ورحلة الصداقة، خصوصا مع الشاعر محمد الغزي، الذي ظل صديقا له منذ الطفولة. «ولدنا في العام نفسه 1949 ترافقنا في مدرسة مدينة حاجب العيون الابتدائية.. ثم ترافقنا في المعهد الثانوي في القيروان، حيث حصلنا على البكالوريا في الآداب، ثم في كلية 9 أبريل، وهي أم الجامعات والكليات التونسية.. ثم فرقتنا سبل الحياة قليلا، فسافرت أنا إلى ليبيا ضمن بعثة تعليمية أواخر السبعينيات لتدريس الفرنسية في مدينة مصراتة، وسافر هو إلى السنغال لتدريس العربية.. ثم جمعنا المعهد الثانوي في القيروان، فمواصلة المرحلة الثالثة فالانتقال إلى التدريس في كلية القيروان منتصف الثمانينايت».
ولكن قراءة السيرة من هذه الناحية لا تشفي فضول القارئ. فالكتاب صمت عن محطات كثيرة وأحجم عن تفاصيل كثيرة. فسيرة الوهايبي بمختلف تفرعاتها إنسانا وباحثا جامعيا ووجها أدبيا عاشر المشهد الأدبي والسياسي عقودا من موقع الفاعل لا المتفرج تثير الكثير من الفضول ولعله يعود إلى محطات أخرى منها ليعيد كتابتها. هذا الصمت يعد من استراتيجيات السرد السيرذاتي، فهو سرد تتحكم فيه ثنائية البوح والكتمان لأسباب مختلفة قد يكون منها النسيان وحيز الورق والكتابة. وقد أشار الوهايبي في مقدمتها إلى هذا التوجه، متحدثا عن قانون الانتقاء في هذه الكتابة: «نص يقوم على انتقاء وقائع وشوارد وتفاصيل، بما يناسب حاجات الكاتب أو رغباته أو طموحاته.. فأنسى ما أريد أن أنسى وأتذكر ما أريد أن أتذكر». ولعله هنا ينقلنا من الحديث عن النسيان باعتباره عدوا للذاكرة إلى التناسي بوصفه خيارا استراتيجيا وهي مسألة جديرة بالتدبر.
السيرة نصا جامعا
ولكن الوهايبي تجاوز ذاكرة اليومي إلى ذاكرة قلمه، فالسيرة تضيء شيئا من ذاكرته الأدبية، شاعرا وناقدا وكاتب مقالات في الصحف التونسية والعربية وشاهدا على عصر ثقافي.
فيأخذنا إلى بعض الأسماء الأدبية الكبيرة، التي خاض معها وجمعته بها أيام مختلفة، على غرار عبد الوهاب البياتي وسلمى خضراء الجيوسي ونزار قباني.
فإذا الذاكرة تكتب شيئا من رحلة الوهايبي الأدبية ومحطاته، وإذا هذه المدونة السيرية تبدو نصا جامعا تتداخل فيه الأجناس الأدبية، من مذكرات ومقالات نقدية وصحافية وأشعار، يحيل بعضها على تناص ذاتي فالشاعر يستعين بنصوصه القديمة، فنقرأ قصائد مختلفة من تجربته مثل قصيدة، «عند أبواب القيروان» المهداة إلى الفنان بول كلي، وقد نشرها ضمن ديوانه «من البحر تأتي الجبال»، أو عمله الشعري «السوريون» أو قصيدة «تمثال السياب»، وفي الحقيقة فبقدر ما يبدو حضور هذه القصائد المختلفة التي ذكرت، ولم أذكر لغايات جمالية أساسها التنوع النصي فإنها تلعب أدوارا أخرى فهي تحيل على تجربة الوهايبي الشعرية مختارة محطات منها، فالشعر يبدو أيضا مثيرا للذاكرة ومعبرا عنها.
ولكن إعادة زرع النصوص الذاتية السابقة لم تقتصر على المجال الشعري فالقارئ يسجل حضور مقاطع من روايات الوهايبي، ومن مقالاته النقدية وبورتريهاته الصحافية.
وهكذا تبدو هذه السيرة «متاهة لعبية آسرة يقترب فيها النص السيرذاتي من الرواية أحيانا متخللة مهجنة وينخرط أحايين أخرى في طقوس الشعر وغواية الإيقاع». على حد قول حاتم الفطناسي.
وليس من باب الصدفة أن ترد سيرة الوهايبي بهذا التنوع الأجناسي، فهي أيضا سيرة كاتب جمع بين الشعر والنثر والبحث العلمي ونحت لنفسه مكانة مهمة في المشهد الثقافي العربي.. ويمكننا القول إنّ هذا العمل لم يكن مجرد كتابة سيرذاتية تتذكر الحياة وتقاصيلها وتقوم على السرد الذاكراتي المألوف، فنحن أمام كتاب جامع، هو سيرة أحيانا، وهو مزيج من التخييلي والمرجعي أحيانا أخرى، وهو سرد روائي أحيانا وشعر ونقد أدبي ويوميات وبورتريهات أحيانا أخرى.
كاتب تونسي