بهذا العجز… جريمة الإبادة الجماعية تستمر

بهذا العجز… جريمة الإبادة الجماعية تستمر
بات واضحًا، دون لبس أو غموض، أن حكومة نتنياهو غير معنية لا بإبرام صفقة لوقف إطلاق النار في غزة، ولا بالسعي إلى تهدئة في الضفة. بل هناك دعوات لتقويض مطلق للسلطة الفلسطينية، وحصرها أكثر في خانة العجز الكلي…
يبقى الشعب الفلسطيني، في ذروة تعرّضه لجرائم الإبادة الإسرائيلية والتطهير العرقي، مكشوف الظهر والصدر، دون أية ضمانة حقيقية، عربية كانت أم دولية، تحميه من طغيان إرهاب صهيوني يستمدّ مبرّر وجوده من حقده وكراهيته للإنسانية، وللفلسطيني صاحب الأرض والحق، ومن عداء مطلق للسلام و”الأغيار”.
فأيّ أسباب أثقل من خذلان شعبٍ تثني العاجزين عن عجزهم؟ وأيّ أسباب أثقل من ارتكاب مذبحة تتلوها أخرى، والعالم يستعدّ لمشهد جديد من الجرائم والتطهير العرقي، دون أن يوقف تكاثر عمليات الكذب والتضليل، أو البكاء على الضحايا وتبرير الجريمة، وتعظيم المناشدات للقاتل المستهزئ بعجز عالمٍ عربي وغربي؟ لا سيما أن التلازم بين الأمرين لم يعد بحاجة لتأكيدٍ صهيوني، يؤكّد أنه ماضٍ بالجريمة حتى النهاية، في لحظات لا ينفع فيها حبر البيانات، ولا صراخ لوم الضحية عبر الإعلام، ولا التعاطف اللفظي معها.
فكل المؤشرات الإسرائيلية تتّجه لاستكمال احتلال غزّة، وتحقيق جرائم التطهير العرقي، بعد إقرار “الكابينت” الأمني الإسرائيلي خطة احتلال المدينة وممارسة إرهاب التطهير، بالتوازي مع خطط الاستيطان التي أُقرت للسيطرة على أراضٍ فلسطينية، بدعم من اليمين الفاشي في إسرائيل، وبهدف قتل حلّ الدولتين.
فكلّ السجال الدولي والعربي، الدائر في حلبة المناشدات السياسية والتحذير والإدانة لجرائم الإبادة في غزّة، أو لجرائم الاستيطان وإرهاب المستعمرين في الضفة، يعكس تصوّرًا لمشاريع عاجزة ومنافقة أمام العدوان، لم تصل حتى الآن إلى نتائج ملموسة تُنهي الجرائم وتعاقب المجرم وتُنهي الاحتلال، وتمنع التصعيد الوحشي الذي تنتهجه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وأرضه.
يعرف العرب الرسميون، في قرارة أنفسهم، أن إسرائيل لا ترغب إلا في أمر واحد: إخضاع الفلسطينيين وهزيمتهم. ويعرف العالم المنافق أنها تختلق الأعذار خلف الأعذار لارتكاب جرائم الإبادة، وأن المسؤولية عن تأزيم الوضع في المنطقة تقع على عاتق المؤسسة الفاشية في إسرائيل. وهي قناعة وصل إليها حتى معارضو نهج الحكومة داخل إسرائيل، لكن من دون أي فعل أو رد فعل نابع من هذه المعرفة، تتحوّل كل المواقف إلى خدمة للغطرسة الصهيونية.
المنافسة الدائرة بين أقطاب الحكومة الصهيونية، على توسيع رقعة العدوان على عموم الأرض الفلسطينية، والتي يتناوب عليها نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وكاتس وزامير وغيرهم من رموز العنصرية الصهيونية، تبعث دينامية ثابتة تمنع تحقيق دولة فلسطينية، وتدمّر كل المقومات التي بُني عليها الشعار القديم “السلام”، المرتبط باتفاقات مع الفلسطينيين والعرب في حقبة ما بعد مدريد 1991 وأوسلو 1993.
بات واضحًا، دون لبس أو غموض، أن حكومة نتنياهو غير معنية لا بإبرام صفقة لوقف إطلاق النار في غزة، ولا بالسعي إلى تهدئة في الضفة. بل هناك دعوات لتقويض مطلق للسلطة الفلسطينية، وحصرها أكثر في خانة العجز الكلي، وهي السمة التي طبعت التعاطي الإسرائيلي مع الفلسطينيين لأكثر من ثلاثة عقود، بدعم مطلق من كل الإدارات الأميركية.
لا شكّ أن مسار الأحداث والمواقف المرتبطة بجرائم الإبادة الجماعية في غزة، منذ عامين، برهنت على أن إسرائيل تسعى لانتهاز “الفرصة الذهبية” لفرض إملاءاتها وشروطها ووقائعها، ليس فقط على الفلسطينيين، بل على العرب والمجتمع الدولي.
فالنشوة الصهيونية التي عبّر عنها نتنياهو بحلم “إسرائيل الكبرى”، ويعبّر عنها يوميًا سياسيون ودينيون واستيطانيون، يجب أن تكون كافية، بل مطلقة، لإنهاء الاجترار العربي والفلسطيني والدولي لمقولات التمسك بأوهام “السلام” والدولة الفلسطينية.
الكلام والسلوك الإسرائيلي باتت أهدافه واضحة كل الوضوح: التطبيق الحرفي لنظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)، وتنفيذ التطهير العرقي، وفرض الهيمنة الكاملة على المنطقة العربية.
أما العجز العربي والنفاق الدولي، فشكّلا مكسبًا كبيرًا لحكومة نتنياهو للاستمرار في هذه السياسة.
لا شيء في الأفق يدعو إسرائيل للقلق، لا من الجانب الفلسطيني الرسمي، ولا العربي أو الدولي، رغم الجرائم التي يتابعها العالم بأسره.
فما الذي يمنع إسرائيل من التبجّح المستمر بالنية للتوسّع وضمّ الأراضي، ومواصلة القتل اليومي لمئات الفلسطينيين؟ وما الذي يمنعها من الالتزام بالقانون الدولي والإنساني والإفلات من العقاب؟
هي نفس الأسباب المستمرّة منذ نكبة فلسطين حتى اليوم: غياب العدالة الدولية ومعاييرها المفضوحة، والتجاهل المتعمّد لفرض العقوبات والمحاسبة، ومنحها شعورًا دائمًا بأنها فوق القانون.
أدّى هذا كله، وسيؤدي، إلى مزيد من الكوارث والنكبات والجرائم، وإلى هزيمة وراء أخرى، عربية وفلسطينية، بالمعنى السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي.
وبسبب مشاعر يغلب عليها الخيبة والعجز والخذلان، تبدو الآفاق المحيطة بالوضع الفلسطيني شديدة الخطورة، خصوصًا مع استمرار الاستخفاف بالمشروع الصهيوني وخططه وعدوانه، وتبنّي بعض ذرائعه عربيًا ودوليًا، ما زاد من احتمال تغيّر جوهري في المواقف الدولية من القضية الفلسطينية، في اتجاه لا يجمح العدوان ولا يوقفه. بل يتعارض تمامًا مع عدالة القضية الفلسطينية، في ظل شرذمة وتناقض فاضح في المواقف، يصل حدّ النبذ العلني لمقاومة الفلسطينيين لمحتلّهم.
في الوقت نفسه، لم تتغيّر المواقف الجوهرية لواشنطن، بل ازدادت دعمًا لإسرائيل وخططها ومشروعها التوسّعي. بل ساندت ارتكاب جرائم الإبادة في غزّة، وخطط التطهير العرقي والاستيطان، وعملت ضد القانون الدولي، وفرضت عقوبات على من يتمسك به. تضاف إلى ذلك عوامل ذاتية، عربية وفلسطينية، منحت الاحتلال هوامش واسعة للإفلات من العقاب.
والآن، مع إقرار خطة وزير المالية الفاشي، بتسلئيل سموتريتش، لمشروع “E1” الاستيطاني، وتصريحه بأن “الدولة الفلسطينية تُمحى بالأفعال لا بالشعارات”، يبرز السؤال المضاد: من يمتلك فعلًا القدرة على إنقاذ الدولة الفلسطينية و”السلام”، فعلًا وقولًا؟
حتى اللحظة، لا أحد. لا في الجانب العربي، ولا الفلسطيني، ولا الدولي، رغم توفّر كل المقومات الممكنة لفرض الحصار على الاحتلال، ومقاطعته، ومحاسبته.
هذه الأرضية موجودة عربيًا، ولها امتداد دولي، ويمكن الانطلاق منها، إن توفّرت إرادة عربية طال انتظارها، يدفع الفلسطينيون والعرب ثمن غيابها دمًا ولحمًا وأرضًا.