مقالات
نصر الدين عبد الباري والتطبيع – من خيانة انتفاضة ديسمبر الثورية إلى بيع فلسطين بقلم أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
بقلم أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة -الهدف السودانية -

نصر الدين عبد الباري والتطبيع – من خيانة انتفاضة ديسمبر الثورية إلى بيع فلسطين
بقلم أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة -الهدف السودانية –
إنّ خروج نصر الدين عبد الباري، وزير العدل السابق في حكومة ما بعد انتفاضة ديسمبر الثورية (2018)، ليطالب (إسرائيل) بدعم الديمقراطية في السودان، ليس زلة سياسية بل تتويج لمسار كامل من الخيانة، خيانة الانتفاضة السودانية الثورية وخيانة فلسطين. فكيف لمن وقّع بيده على اتفاقيات التطبيع، أن يتحدث عن حماية الديمقراطية وهو يمد يده لأعتى أنظمة الفصل العنصري في عصرنا؟ إنها الانهزامية في أوضح صورها، بل هي محاولة لإطفاء النار بالبنزين.
إنّ تحالف التطبيع (السوداني- الإسرائيلي) لم يكن وليد الصدفة. فقد اجتمع فيه الجنرالان (البرهان وحميدتي) اللذين صادرا أحلام السودانيين بالحرية والسلام والعدالة، مع المدنيين المزيفين الذين انحنوا للعسكر وقبلوا شروط الخارج. ليس عبد الباري سوى قمة جبل الجليد، فشبكة التطبيع تمتد لتشمل قيادة الجيش (البرهان) وقوات الدعم السريع (حميدتي) وحكومة حمدوك الانتقالية، التي وظفت مواقعها لخيانة شعارات انتفاضة ديسمبر الثورية المجيدة (علماً بأن حكومة حمدوك وقّعت على الاتفاقية، وبعض مكوناتها من القوى السياسية مُغيَّبة ولم تكن على علمٍ بالاتفاقية أو حتى بالتوقيع). وهذا يكشف أن القرار لم يكن وطنياً، بل فرضَ فرضاً بتواطئٍ خارجي وداخلي، مما يؤكد أن التطبيع لم يكن خيار الشعب، بل صفقةً تمت خلف جدران مغلقة، وتنكراً لإرادة السودانيين وتضحيات شهداء ديسمبر. لقد التفوا على أولويات المرحلة الانتقالية من تصفية منظمة التمكين وإلغاء تشريعاتها، إلى الانشغال بتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، في تناقض صارخ مع تاريخ الحركة الوطنية السودانية وتضحيات الجيش السوداني في فلسطين وسيناء.
مثالاً على ذلك، صفقة الأسلحة (الإسرائيلية) المزوّدة لقوات الدعم السريع (كشفتها صحيفة (ذا أفريكان ريبورت) في 2023/3/15، والاستثمارات الإسرائيلية في مناجم الذهب بدارفور عبر شركات وهمية (كما ذكرت (شبكة الجزيرة) في تحقيقها (ذهب الدم)، 2022).
لم يكن التطبيع السوداني مجرد نتيجة ضغوط خارجية أو وعود أمريكية وإسرائيلية، بل جاء في سياق أعمق يرتبط بمسار الانقلابات العسكرية التي عطلت المسار الديمقراطي منذ سقوط النظام الاسلاموي. فقد استُخدم ملف التطبيع كغطاء سياسي لتفكيك الثورة وإعادة السودان إلى مربع التبعية الإقليمية، بعد أن كان يُنظر إليه في (2019) كدولة واعدة على أعتاب تحول ديمقراطي. وفي هذا السياق، لعب نصر الدين عبد الباري دورًا محوريًا؛ إذ لم يكن مجرد وزير عدل يوقع على الاتفاقيات، بل أحد الوجوه المدنية التي منحت شرعية قانونية لخيانة الثورة وتحويل السودان إلى تابع في مشروع إقليمي تقوده الإمارات وإسرائيل. لقد تحوّل عبد الباري إلى رمز للانهيار الأخلاقي والسياسي- رجل خرج من رحم الانتفاضة الثورية ليضع ختمه على اتفاقية تُفقد السودان سيادته وتفكك نسيجه الوطني. دكتور عبد الله حمدوك وقّع تحت التهديد، وعبد الفتاح البرهان فتح الباب على مصراعيه للانقلاب، وعبد الباري شرعن الخيانة باسم (القانون)، ومن لن يتوفر فيه الاستعداد للتضحية حد الاستشهاد، ليس جديراً بالتواجد في مواقع القرار أو تمثيل الشعب، فلا بد من الموقف المبدئي الذي لا مساومة عليه: الوفاء لشهداء انتفاضة ديسمبر الذين رفضوا الظلم والاستبداد، والتزامٌ لا يتزعزع بموقف السودان التاريخي المنحاز للقضية الفلسطينية وقضايا التحرر العربية. فمن يتنكر لهذين الركنين، يتنكر لجوهر الانتفاضة وروح الأمة العربية، ويُخرج نفسه من دائرة الشرعية الثورية والوطنية والقومية العربية والتحرر الَأفريقي. لقد تحوّلت انتفاضة ديسمبر الثورية، التي قدمت آلاف الشهداء، إلى ورقة مساومة في بازار السياسة الدولية، تُباع سيادة السودان مقابل وعود كاذبة من (تل أبيب وواشنطن. (إلى جانب البعد السياسي، فإن التطبيع يفتح الباب أمام تبعية اقتصادية جديدة، خصخصة الموانئ، وبيع الأراضي الزراعية، وتحويل السودان إلى مستهلك للتكنولوجيا الأمنية (الإسرائيلية)، بما يعيد إنتاج نفس النموذج النيوليبرالي الفاشل. كما ستكون خسائر التطبيع الاقتصادية فادحة، مثل فقدان الدعم الشعبي العربي (مقاطعة المنتجات السودانية)، وانهيار السياحة الدينية والإفريقية، وتحول السودان إلى دولة منبوذة في المحافل الدولية.
وقد وثّقت تقارير الأمم المتحدة (2022) ضغوطاً مباشرة على دكتور عبد الله حمدوك للتوقيع، بينما كشفت منظمة (هيومن رايتس ووتش) في تقريرها (رقم: HRW-MENA-2023-011) عن تورط الانقلابي عبد الفتاح البرهان في قمع المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، مما يفسّر دوره في تمهيد طريق التطبيع.
وإذا كان عبد الباري يروّج لإسرائيل كـ(ديمقراطية) صالحة للتصدير، فإن الحقائق تنسف هذه الأكذوبة، (الكيان الصهيوني) ليست سوى نظام فصل عنصري موثق بتقارير (أمنستي) و(هيومن رايتس ووتش)، يمارس التهجير والقتل الممنهج بحق الشعب الفلسطيني. وما تجربة مصر والأردن ببعيدة، أربعة عقود من التطبيع لم تنتج تنمية، ولم تُحرر أرضًا، ولم تحمِ حقوقًا، بل كانت غطاءً للتبعية الاقتصادية والانهيار الاجتماعي. من جانب آخر في التجربة الجزائرية حيث قدمت نموذجاً مضاداً، رفض التطبيع بعد استقلالها (1962) وحافظت على دورها القيادي في دعم القضية الفلسطينية، مما أكسبها احتراماً عربياً وإفريقياً. إنّ الكيان الصهيوني لا يبحث عن ديمقراطية للسودان، بل عن السيطرة على موانئه وذهبه وموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر، وعن توظيفه في صراعه الإقليمي مع إيران وتركيا.
ولم يكن التطبيع السوداني منعزلاً، بل جاء ضمن سياق (اتفاقيات أبراهام) التي قادتها الإمارات، والتي هدفت إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية لصالح الكيان الصهيوني. فالإمارات – كما كشفت وثائق (الباندورا بيبرز) – مولت شبكات تأثير في السودان لدفع التطبيع مقابل وعود باستثمارات لم تتحقق.
وفي وجه هذا التحالف الفاسد، برزت أصوات وطنية رافضة للتطبيع، لعل أبرزها موقف الإمام الصادق المهدي التاريخي الذي ظل وفياً لروح الثورة ومبادئها. كما تصدت قوى الثورة الحقيقية من أحزاب ونقابات ومجموعات شبابية لهذه الخيانة، مؤكدة على أن السودان سيظل منحازاً لقضايا الأمة ومقاومة المشروع الصهيوني.
إن الدور الذي لعبه نصر الدين عبد الباري يكشف ازدواجية أخلاقية صارخة، أنه يتحدث عن الديمقراطية وهو متحالف مع العسكر الذين أراقوا دماء المدنيين، ويطالب الكيان الصهيوني بالدعم وهو في ذات اللحظة يمارس إبادة جماعية في غزة. أما ادعاءات ديمقراطية الكيان الصهيوني فتبدو كذبة كبرى في وقت ترتكب فيه أبشع جرائم الإبادة الجماعية ضد الشعب العربي الفلسطيني، وتدمر المدن والمخيمات، وتفرض الحصار والتجويع. فكيف لدولة فصل عنصري تمارس الإرهاب المنظم أن تكون داعية للديمقراطية؟
والأدهى أنه يتنكر للتاريخ النضالي للسودان الذي قدّم شهداء في حرب فلسطين عام (1948)، ووقف إلى جانب عبد الناصر والثورة الجزائرية. إنها خيانة للتاريخ كما هي خيانة للحاضر. وكشف الدور المشبوه لوزير العدل (الأسبق) نصر الدين عبد الباري ومستشارته الأمريكية عن تنسيق ممنهج مع ما يسمى بـ(السلام الإبراهيمي)، حيث تم توقيع الاتفاقيات تحت ضغوط خارجية ووعود كاذبة، بينما كان الشعب السوداني ينزف في الشوارع دفاعاً عن الديمقراطية والكرامة.
لكن الخيانة لا تلغي البديل. البديل ليس الاستسلام للتطبيع بل بناء مشروع وطني مقاوم يعيد الاعتبار لشعارات انتفاضة ديسمبر الثورية، ويعيد للجيش هويته الوطنية بعيدًا عن الارتزاق الخارجي، ويعيد للسودان مكانته الطبيعية في صف المقاومة العربية. المطلوب هو فضح شبكات الفساد التي ارتبطت بالتطبيع، ومقاطعة الكيان الصهيوني اقتصاديًا وثقافيًا، وتحويل السودان إلى جبهة خلفية داعمة لفلسطين بدل أن يكون خاصرة مطعونة.
كذلك الطريق البديل يبدأ بمقاطعة اقتصادية، يمر بتحالفات استراتيجية مع محور المقاومة، وينتهي بإصلاح الجيش وتطهيره من الارتزاق الخارجي. هذه ليست شعارات، بل دروس تعلمناها من الجزائر وإيران ولبنان، حيث صارت مقاومة التطبيع جزءًا من مشروع السيادة الوطنية.
إن السودان وفلسطين معركتان متلازمتان، ومن يفصل بينهما فهو إما جاهل أو خائن. لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية في السودان تحت حماية دولة احتلال، ولا يمكن أن تتحقق العدالة في الخرطوم إذا بيعت القدس. لقد قالها الأستاذ ميشيل عفلق: (إذا ماتت فلسطين ماتت الأمة)، واليوم يمكن القول، إذا طُعنت فلسطين بخيانة السودان، فقد طُعنت انتفاضة ديسمبر الثورية في قلبها.
في الوقت الذي يكشف فيه التحالف الإمبريالي الصهيوني عن مشروع إسرائيل الكبرى، وتتحول فلسطين إلى محرك لتاريخ البشرية، يظهر نصر الدين عبد الباري وكأنه خارج من كهوف الخرافة ليدعو (الكيان الصهيوني) الديمقراطي لإنقاذ السودان. فيا لبؤس الطالب والمطلوب… فلسطينياً وسودانياً.
الخيانة لن تكون قدرًا، بل هي جولة في معركة أطول. الرد الحقيقي على عبد الباري ومن سار على خطاه، هو تحويل الذاكرة السودانية إلى سلاح، والتمسك بالهوية الوطنية والقومية كحصن، وربط تحرر السودان بتحرير فلسطين. فلا حرية مع التطبيع، ولا كرامة مع الاستسلام. لأن فلسطين ليست قضية خارجية بالنسبة للسودان، بل هي مرآة لهويته القومية وامتداد لثورته. فمن يفرط في القدس سيفرط في الخرطوم، ومن يساوم على فلسطين سيساوم على دماء شهداء انتفاضة ديسمبر الثورية.