في فلسطين التاريخية: «طلعة الدم» وصراع السرديات

في فلسطين التاريخية: «طلعة الدم» وصراع السرديات
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
لم يكن الوضوح ينقص تصريحات بعض وزراء الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، حول توسيع مخطط E1 الاستيطاني على نحو يفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها؛ في موازاة مصادقة لجنة التخطيط والبناء في دولة الاحتلال على إنشاء 126 وحدة سكنية جديدة في مستوطنة صانورــ محافظة جنين، التي زارها بتسلئيل سموترتش وألقى خطبة نارية هناك. بالتوازي، أيضاً، سوف يسمح المخطط بربط مستوطنة معاليه أدوميم بمدينة القدس المحتلة، بما يستكمل فصلها عن النطاق الجغرافي الفلسطيني.
هذا على مستوى وزراء اليمين المتدين المتطرف والفاشي، أمثال سموترتش وإيتمار بن غفير، وذهاب زميلهما شلومو كرعي إلى درجة التصريح بأنّ ضفتَيْ نهر الأردن الشرقية والغربية «جزء من أرض إسرائيل»؛ فضلاً عن تلميحات بنيامين نتنياهو نفسه إلى مفهوم «إسرائيل الكبرى»، والترويج هنا وهناك لفرض سيادة الاحتلال على كامل الضفة الغربية. أمّا المستويات الأخرى للسيرورة ذاتها فإنها تشهد صراع السرديات، أو بالأحرى السعي إلى تكييفها أو إعادة تأويلها أو حتى تزييفها، في ميدان آخر مختلف من حيث الوظيفة والأداء والجدوى: علم التنقيب عن الآثار.
ولا يخطئنّ أحد الظنّ حول تابعية هذا الجهاز، لأنه خاضع بدوره لسلطة وزارة الحرب الإسرائيلية، بالتقاسم مع وزارة التراث التي يتولى حقيبتها المتطرف عميحاي بن إلياهو صاحب الدعوة إلى قصف قطاع غزّة بقنبلة نووية. التنسيق، المباشر أو الالتفافي، وثيق بين «الوحدة الآثارية للإدارة المدنية في وزارة الدفاع»، وللمرء أن يلاحظ مقدار الأضاليل في التسمية ذاتها أوّلاً؛ وبين «سلطة الآثار الإسرائيلية»، التي عهدت إليها حكومة الاحتلال بالإشراف على التنقيب الآثاري في الضفة الغربية، خلافاً لنصوص اتفاقيات أوسلو التي وزّعت الصلاحيات بين المناطق A وB وC.
وأحدث التقارير حول أنشطة الجهازين تتحدث عن تنقيب، مسعور كما يصحّ الافتراض، في قلعة «طلعة الدم» التي أقامها البيزنطيون فوق تلّ على ارتفاع 275 متراً فوق سطح البحر، لتأمين الطرق بين القدس وأريحا والأردن؛ وذلك في أعقاب، ولمجرّد، العثور على لوحة فسيفساء صغيرة داخل كيس رملي، دفعت الآثاريين الإسرائيليين إلى صرخة أرخميدية: وجدناها! هذه ليست بيزنطية، ولا صليبية، بل هي عبرانية أوّلاً وأخيراً.
هنا توجب أن يشارك الساسة في الهتاف، بلسان عاميت هاليفي عضو الكنيست عن حزب الليكود وصاحب التشريع الذي قضى بإخضاع الضفة الغربية للتنقيب الآثاري الإسرائيلي: «هذه هي البقعة الأهمّ في العالم، حيث ولدت الأمّة اليهودية. هنا وقف إبراهيم قبل 3700 سنة، وشعبنا عاد من مصر قبل 3200 سنة، وتاريخنا سوف يتعاقب هنا على امتداد قرون آتية». وليس هذا التصريح مفاجئاً، بالطبع، لأنّ ملفّ الآثار في فلسطين التاريخية يتجاوز التنقيب عن التاريخ في باطن أرض مكتظة بأسفار وأديان وأنبياء وحروب، وهو بالتالي صراع سرديات تخصّ الماضي والحاضر والمستقبل على قدم المساواة.
وتلك حال تعيدنا، من جديد، إلى كتاب نيل سيلبرمان «نبيّ من بين ظهرانيكم»، 1994، حيث تُطلعنا سيرة إيغال يادين على عشرات الأمثلة حول التفاقم المَرَضي لذلك الهوس الآثاري، وكيف تحوّل التنقيب عن تراثات يهودية في فلسطين التاريخية إلى «ترخيص شعري للاستيطان الإسرائيلي المعاصر». الرقيمات والألواح المكتشفة قُلبت إلى ما يشبه عقود ملكية للأرض في باطنها وما فوقها من عمران وزراعة ومساكن؛ مع فارق أنها، عند المستوطنين والساسة والآثاريين الإسرائيليين، سواء بسواء، مواثيق مقدّسة مكتوبة بمداد الآلهة!
وإذْ تُستعاد اليوم تخرصات حول «يهودا والسامرة» تارة، أو «إسرائيل الكبرى» تارة أخرى؛ فإنّ أمثال نتنياهو وسموترتش وبن غفير وكرعي ليسوا بحاجة إلى فسيفساء هنا أو رقيم هناك؛ إلا، بالطبع، حين يتوجب الأمر حشد جموع الإسرائيليين خلف خلائط الهستيريا والخرافة والاستيهام.