أوروبا وأمريكا: ثقة مهزوزة وشراكات إجبارية

أوروبا وأمريكا: ثقة مهزوزة وشراكات إجبارية
عبد الباسط سيدا
التوجس الأوروبي من سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقرارته الفجائية المتعارضة في الكثير من الأحيان، بات واضحاً مكشوفاً لا يمكن التغطية عليه. وتعود جذور هذا التوجس إلى فترة ولاية ترامب الأولى حين أعلن عن زيادة الرسوم الجمركية على الخامات والمنتجات الأوروبية المصدرة إلى أمريكا. كما أن الود الحميم بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان مثار تساؤل وحذر الأوروبيين، يدفع بهم إلى التحسّب مما قد يحصل على صعيد التحالفات الدولية الكبرى في سياق تحولات الاهتمامات الجيوسياسية، وتبدّل أولويات القوى الكبرى المتنافسة في ميادين التكنولوجيا والاقتصاد والطرق التجارية وخطوط الغاز والنفط والذكاء الاصطناعي والقوة العسكرية.
كما كان لتذمّر ترامب المستمر من نفقات حلف الناتو، وتصريحاته بخصوص عدم استعداد الولايات المتحدة لتحمّل المزيد من الأعباء المادية، ومطالباته المتواصلة بضرورة أداء الأوروبيين لواجباتهم؛ هذا بالإضافة إلى شكوك الأوروبيين بخصوص مدى التزام ترامب بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي، وهي المادة التي تعتبر أن أي اعتداء على أي عضو في الحلف هو بمثابة اعتداء على الحلف مباشرة، كل ذلك، وربما غيره، أثار مخاوف الأوروبيين، حتى أن بعضهم تحدث عن البدائل، ومن بين هذه البدائل البحث في امكانية بناء قوة لتأمين الدفاع الذاتي.
ومع انتهاء فترة ولاية ترامب الأولى، ومجيء جو بايدن تنفّس الأوروبيون الصعداء؛ وعادت أمريكا إلى المنظمات والمشاريع الدولية التي كانت قد انسحبت منها بناء على قرارات ترامب (مثل منظمة اليونسكو واتفاقية باريس للمناخ). وكان من الواضح تركيز إدارة بايدن على الحلف الأطلسي؛ والعمل على استعادة ثقة الشركاء الأوروبيين؛ ودعم الأنظمة الديمقراطية، وتشجيع الدول للسير على الطريق الديمقراطي، وذلك في أجواء تصاعد مخاطر قوى اليمين المتشدد في دول أوروبية عديدة، الأمر الذي ينذر بزعزعة استقرار المجتمعات، وتنامي النزعات التمييزية بكل أشكالها.
ومع ظهور بوادر هجوم روسي وشيك على أوكرانيا (24 شباط/فبراير 2022)، حذر بايدن بوتبن بقوة ووضوح من تبعات ما يخطط له، وأكد بصريح العبارة التزام الولايات المتحدة بدعم ومساندة أوكرانيا في حال تعرضها لأي هجوم. كما أكد في الوقت ذاته أن روسيا ستخضع لعقوبات غير مسبوقة تنهكها؛ وهذا ما حصل عبر تشكيل تحالف أوروبي واسع تحت مظلة الناتو بقيادة الولايات المتحدة، أخذ على عاتقه مهمة مدّ أوكرانيا بأحدث الأسلحة النوعية والمعلومات الاستخباراتية والمدربين والامكانيات الاقتصادية. كل ذلك أدى إلى عجز روسيا، رغم امكانياتها العسكرية الكبيرة، عن تجاوز حرب الاستنزاف على الحدود والغارات الجوية سواء بالمقاتلات أو المسيرات، وإخفاقها في إحداث اختراقات بنيوية أساسية تهدد مستقبل أوكرانيا ونظامها السياسي.
والأوروبيون، رغم كل تبايناتهم البينية،على قناعة راسخة بأن انتصار بوتين في أوكرانيا معناه فتح الطريق أمام نزعاته التوسعية العدوانية تجاه أوروبا، لا سيما دول البلطيق والدول الاسكندنافية وفنلندا. فبوتين يدرك أن هذه الدول ستكون منافساً قويا في القارة القطبية الشمالية الواعدة في ظل التحولات المناخية، وذلك من جهة تشكل ممرات مائية جديدة ستحدث فارقاً في عمليات النقل التجاري والعسكري؛ هذا إلى جانب اكتشاف معادن كثيرة في المنطقة؛ بالإضافية إلى أهمية هذه المنطقة الاستثنائية من الناحية العسكرية. فالدول المذكورة تمتلك الامكانيات المادية، والقدرات التقنية والمعرفية، إلى جانب الخبرات، التي تمكنها من الاستثمار المستقبلي في المشاريع التي تفتح الآفاق أمام الاستفادة من موارد القارة القطبية وموقعها، وتستطيع هذه المجموعة بالتنسيق مع الدول الشريكة في القارة المعنية (الولايات المتحدة وكندا)، سد الطريق على الأطماع الروسية التي تستهدف السيطرة على أكبر قسم من القارة، والاستئثار قدر الإمكان بمواردها والاستفادة العسكرية من موقعها.
ولا تقتصر أطماع روسيا على القارة القطبية وحدها؛ بل تمتد لتشمل الدول الأوروبية المجاورة لها أو القريبة منها. وهي تعتبر أوكرانيا بوابة مشروعها الامبراطوري؛ لذلك كان التماسك الأوروبي اللافت في مواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا، وكان التعويل على الولايات المتحدة في مقدمة الخيارات الدفاعية التي وضعتها الدول الأوروبية في حساباتها. ولعل هذا ما يفسر سرعة اتخاذ قرار الانضمام إلى الحلف الأطلسي من قبل كل من فنلندا والسويد. كما يلقي الضوء على عملية تسريع إجراءات الموافقة على طلبيهما، رغم مساعي تركيا لعرقلة هذه الخطوة لأسباب مختلفة، من بينها إلزام السويد بالتضييق على نشاطات حزب العمال الكردستاني على أراضيها.
وما دفع بالأوروبيين نحو التضامن مع أوكرانيا، وتقديم الدعم السخي لها بمختلف أنواع الأسلحة والأموال، هو ثقتهم بإدارة بايدن التي أبدت حرصها على تمتين العلاقات مع حليفاتها الأوروبيات، والالتزام بضمان أمنها.
وقد تمكنت القوات الأوكرانية بفضل الدعمين الأوروبي والأمريكي من التصدي للعدوان الروسي، بل تمكنت من إنجاز اختراقات واضحة تمثّلت في القيام بعمليات نوعية في العمق الروسي.
إلا أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير 2025 أثارت الهواجس الأوروبية من جديد؛ وهي الهواجس المتمحورة حول الضغوط الأمريكية الاقتصادية، ورغبة ترامب في التنصّل من التزامات معاهدة الأطلسي الدفاعية.
وكان التصرف غير المعهود دبلوماسياً مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من قبل ترامب ونائبه جي دي فانس في البيت الأبيض (شباط/ فبراير 2025) بمثابة الصدمة التي بثت الرعب في صفوف الأوروبيين؛ إلى جانب التهديد بزيادة الرسوم الجمركية، وهو الأمر الذي من شأنه إلحاق أفدح الخسائر بالصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة التي تعد الشريك الأكبر المضمون لمعظم الدول الأوروبية، لا سيما الاسكندنافية وألمانيا. وأوروبا وفق المعطيات الحالية لا تستطيع أن تستغني عن علاقاتها مع أمريكا التي تضمن لها الاستثمارات والشراكات الاقتصادية والتكنولوجية والبحثية في مختلف المجالات.
وفي مقابل هذه العلاقات الحيوية، هناك المخاوف الأمنية الخاصة بامكانية تحمل المزيد من النفقات الدفاعية داخلياً وفي أوكرانيا خاصة بعد تصريحات نائب الرئيس الأمريكي حول ضرورة تعهد الأوروبيين بتحمل العبء الأساس في ميدان الضمانات التي تطالب بها أوكرانيا. هذا بالإضافة إلى التهديدات الروسية؛ وكل ذلك عمق، وسيعمق، الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها العديد من الدول الأوروبية نتيجة الظروف غير المستقرة على المستويين العالمي والأوروبي.
وجاءت زيارة الرئيس الروسي بوتين إلى ألاسكا حيث استقبل استقبال الفاتحين من قبل ترامب، لتثير الشكوك الأوروبية من جديد بشان ما يفكر فيه الأخير، ويخطط له ويسعى لتنفيذه تحت عنوان: العمل لإيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا. فالإشارات التي ظهرت حتى الآن من خلال الرسائل والتصريحات التي نشرها ترامب على منصته «تروث سوشيال» رسخت انطباعاً مفاده أن الولايات المتحدة مستعدة لفرض سلام على أوكرانيا بشروط بوتين التي تتجسد في الاعتراف بضم جزيرة القرم إلى روسيا، بالإضافة إلى مناطق أخرى في مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك؛ وعلاوة على ذلك التزام أوكرانيا بعدم الانضمام إلى الحلف الأطلسي، مقابل ضمانات أمنية ما زالت غير واضحة المعالم لأوكرانيا.
الأوروبيون هم اليوم في وضع لا يحسدون عليه. فهم من ناحية ملزمون بالمحافظة على علاقاتهم التجارية والأمنية الاستراتيجية مع أمريكا؛ إلا أنهم في الوقت ذاته غير مطمئنين لما توحي به تصرفات وتصريحات ترامب. ولكن مرة أخرى ليس أمامهم سوى ما يعتبرونه الحل الأفضل بالنسبة لهم في هذه الظروف، وهو التماسك واتخاذ موقف موحد في دعم أوكرانيا؛ وبذل الجهود لإقناع ترامب بضرورة الاستمرار في الدعم الأمريكي لها.
واللافت في هذه اللوحة، هو الاصطفاف البريطاني إلى جانب الدول الأوروبية، ومساعيها لتشكيل تحالف دولي لمساندة أوكرانيا، وبريطانيا معروفة بعلاقاتها الوثيقة التقليدية مع الولايات المتحدة والتزامها الدائم بالموقف الأمريكي في مقاربة القضايا الدولية بصورة شبه دائمة. لذلك يعد تواجد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى جانب قادة كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وفنلندا والاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي في الاجتماع مع ترامب في واشنطن لدعم الموقف الأوكراني خطوة مهمة للغاية. ويبدو أن الأوروبيين بذلوا جهوداً كبيرة لترطيب الأجواء بين زيلينسكي وترامب ومنع حدوث المزيد من المفاجآت غير السارة. وكان هناك تركيز من الجانب الأوروبي على موضوع الضمانات الأمنية التي لا بد أن تحصل عليها أوكرانيا في أي اتفاق قد يكون مع الروس، ضمانات تكفل عدم تعرض أوكرانيا لعدوان روسي جديد مستقبلاً.
هل ستنجح الدول الأوروبية في مساعيها؟ وهل سيستمع ترامب إلى مستشاريه ويقتنع بأن الركون إلى الحلفاء الأوروبيين أكثر فائدة بما لا يُقاس من الثقة بوعود بوتين؟
أم أن الأوروبيين سيلجأون إلى أسلوب إدارة الأزمة في تعاملهم مع إدارة ترامب لكسب الوقت، والحد من الخسائر قدر الامكان إلى حين قدوم إدارة جديدة بعقلية جديدة. إدارة تؤكد مجدداً أهمية إعطاء الأولوية لعلاقات الولايات المتحدة مع الحلفاء الأوروبيين؛ كما تلتزم بالمحافظة على مصداقية وهيبة الولايات المتحدة؟
فما يُطرح اليوم من استعداد أمريكي، وحتى روسي للموافقة على الضمانات الأمنية التي تطالب بها أوكرانيا؛ والحديث حول لقاء ثلاثي مرتقب يضم كل من ترامب وبوتين وزيلينسكي يوحي بامكانية الوصول إلى اتفاق ما بخصوص وقف إطلاق النار، وربما الإعلان عن مشروع اتفاق، ولكن التفاصيل التي تغري شياطين الأنس والجن كثيرة.
كل فريق له حساباته، وكل فريق يريد أن يحصل على مكاسب مقابل التسويات.
ولكن السؤال الهام بالنسبة إلينا الذي ينبغي أن يطرح هنا هو: ما تأثير كل ذلك على واقع منطقتنا التي تبدو مشلولة الإرادة مسلوبة السيادة، تنتظر نتائج تطبيق ما توافق أو سيتوافق عليه أولياء أمور المجتمع الدولي؟
*كاتب وأكاديمي سوري