
لقاء ألاسكا خيبة أخرى لترامب
بقلم الدكتور يوسف مكي
قبل وصوله إلى سدة الحكم بالبيت الأبيض، كرر دونالد ترامب عدة مرات، أنه لو كان بالحكم، لما حصلت العملية العسكرية الخاصة التي أطلقها بوتين في أوكرانيا بتاريخ 24 شباط/ فبراير 2022. واتهم غريمه الرئيس جوزيف بايدن بالتسبب في اندلاع تلك الحرب. أشاد ترامب بشخصية بوتين، وتحدث عن علاقته القوية به، وكرجل أعمال ناجح، قادر على عقد الصفقات، أشار الرئيس الأمريكي، أنه سيتمكن من إجراء صفقة مع الرئيس الروسي حول القضية الأوكرانية.
أختار الرئيس ترامب، ولاية ألاسكا الأمريكية، لتكون مكانا للقاء الذي وصف بالتاريخي، بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقبل الأخير الدعوة، التي أخذت مكانها بتاريخ 15 آب/ أغسطس قبل حوالي أسبوعين من هذا التاريخ, وتعمد الرئيس الأمريكي، أن يكون القاء في ولاية يحمل الروس حنينا وعلاقة وجدانية بها. وهي صفة لازمت أيضا علاقتهم بأوكرانيا، المحملة بمواريث قومية وتاريخية، حيث كانت الأخيرة جزءا من الامبراطورية الروسية، منذ أيام القياصرة، واستمرت كذلك في عهد الاتحاد السوفييتي، حين صنفت كييف، عاصمة أوكرانيا بالمدينة الثانية، في العهد السوفييتي.
ولاية ألاسكا، كانت جزءا من ممتلكات قيصر روسيا، وصل إليها المكتشف الدنماركي الذي عمل في البحرية الروسية، فينوس بيرنغ، وهو يبحر في المضيق الذي يفصل بين أسيا والقارة الأمريكية عام 1728. حدثت مواجهات عنيفة، بين السكان الأصليين والروس، انتهت بحيازة الروس للمنطقة.
في عام 1867، باعت موسكو ألاسكا إلى واشنطن مقابل 7.2 مليون دولار، وأثارت صفقة البيع في حينه انتقادات حادة بالولايات المتحدة الأمريكية، وأطلق على شراء منطقة تبلغ ضعف مساحة ولاية تكساس، تسمية “جنون سيوارد” نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، الذي عقد صفقة البيع. ومنذ ذلك الحين، باتت الاسكا جزءا من الولايات المتحدة.
يعتبر احتياطي النفط في ألاسكا من أكبر الاحتياطات في الولايات المتحدة الأمريكية، بما يجعل الصفقة التي عقدت مع الروس زهيدة للغاية، بكل المقاييس.
لماذا اختار الرئيس الأمريكي، ترامب عقد القمة مع بوتين، في ولاية ألاسكا، هل كان ذلك للتذكير بعظمة بلاده، وتفوقها في عقد صفقات ناجحة، أم ليثير شجونه وحنيه إلى ماض تليد تسبب أجداده في نهايته. أسئلة ليس بالمقدور الإجابة عليها بسهولة. وما يهمنا في هذا الحديث هو تقييم مستوى نجاج هذا اللقاء التاريخي، أو عدم نجاحه.
عول ترامب كثيرا، على نجاج لقائه بقيصر روسيا الجديد، بوتين. وبالغ في توقعاته بأن لقاءه سيضع حدا للحرب الروسية على أوكرانيا. وتصور كعادته عندما يتيه في أحلامه، أن حلفاءه الأوروبيين، سيخضعون لرغابته، كما كان حالهم، باستمرار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع بقية الرؤساء الأمريكيين. بل وحلم وذكر ذلك علنا، بأن لقاءه التاريخي، مع بوتين سيجعله بطل سلام عالمي، ويمنحه جائرة نوبل للسلام، ، لكن الأمر بدى مغايرا تماما لكل توقعاته.
فلا الرئيس الروسي، قبل بعرضه السخي، الذي عنى لو تحقق، قبول ترامب، بعودة شبه جزيرة القرم، إلى روسيا الاتحادية، ومعها مناطق أخرى تعادل مع القرم، مجتمعة عشرين بالمائة، من الأراضي الأوكرانية. كما تعهد بعدم ضم أوكرانيا مستقبلا إلى حلف الناتو. لم يقبل بوتين بهذا العرض، ليس لأنه لم يكن سخيا، بل لإدراكه بعدم قدرة الرئيس الأمريكي، على تحقيقه، ولقناعته أن استمرار استخدام القوة هو السبيل الوحيد لتحقيق اهدافه، باطلاق عمليته العسكرية الخاصة.
ومن جهة أخرى، فإن الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، لم يقبل بعرض الرئيس الأمريكي، مستندا في ذلك، على دعم الدول الأوروبية، وبشكل خاص الدعم الألماني والفرنسي، الذي قدموا ولا يزالون يقدمون بسخاء كل وسائل الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي في الحرب الدائرة مع روسيا.
النتيجة الواضحة، أن لقاء ترامب الأخير ببوتين، كان فشلا ذريعا له، وبالضد من كل توقعاته. لكنه لا يتوقف أبدا عن مواصلة أحلامه. فيتصور أن بإمكانه استنساخ تاريخ مضى مع الصين، تاريخ توقفت أحداثه مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر للصين، فتارة يلوح بزيادة الضرائب على الصين الشعبية، وتارة أخرى، يهدد بتقديم المساعدات العسكرية لحكومة تايوان. وينقلب على كل ذلك، بتصور إمكانية احداث صراع سياسي بين روسيا الاتحادية والصين الشعبية، وفك تحالفها العسكري والسياسي، رغم ما هو معروف عن استحالة فك عرى هذا التحالف على الأقل في هذه اللحظة التاريخية.
التاريخ لا يعيد نفسه، إلا في صورة مأساة، والامبراطورية الأمريكية، التي نهضت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، وطبقت قانون مارشال وإعادة الإعمار، ونشرت مظلتها النووية فوق القارة الأوربية، لم يعد لها وجود الآن، وترامب أول من يدرك ذلك. فقد رأى بأم عينه، كيف رفض الاوربيون سياساته، وكيف تحدته الدنمارك، عندما تحدث عن نيته ضم منطقة جرين لاند لأراضيه. كما سخرت منه الحكومة الكندية، حين تحدث عن امكانية ضم أراضيها للولايات المتحدة.
ولعل ما يهمنا في هذا الحديث، نحن العرب، أن قوة الإرادة، وتوفير مستلزماتها، هو الذي يتكفل بهزيمة مشاريع الهيمنة والغزو، ويعيد للأمة حضورها ونهضتها، ويجعلها ترسا فاعلا في معادلة كونية، ليس بها مكان للضعفاء.