
عبد الرحيم محمود: شاعر فلسطين وشهيدها

مروة صلاح متولي
رغم تقلبها بين فصول المأساة الطويلة، كانت فلسطين ولا تزال تفيض بالشعر، والشعر في فلسطين ليس ترفاً فكرياً، بل هو إعلان عن الهوية والوجود في وجه محاولات المحو والإبادة، وهو وسيلة مقاومة نابعة من قلب المعركة، يوصل الصوت الذي لا يراد له أن يسمع، ويحفظ للبلد مكانته الثقافية بين الأمم. من جيل إلى آخر، ومن حقبة إلى أخرى يبرز في فلسطين شعراء يعلون كلمتها ويرفعون صوتها، وعندما نحب أن نتحدث عن الشعر في فلسطين، نجد أمامنا قائمة طويلة من الشعراء المرموقين من أجيال مختلفة، وعندما ننظر إلى ماضي الشعر في هذا البلد الخصب شعرياً، يلمع من بعيد اسم عبد الرحيم محمود، كنجم مضيء يتلألأ مشعاً ببديع الكلم، وجميل المعاني والبطولة التي كللت بالشهادة.
مرّ هذا النجم سريعاً لكنه لم ينطفئ، فلم يعش على أرض فلسطين في هذه الحياة سوى خمسة وثلاثين عاماً، حيث ولد عام 1913 واستشهد عام 1948 تاركاً زوجة وثلاثة أبناء. كان الميلاد في بلدة عنبتا التابعة لمحافظة طولكرم شمال الضفة الغربية، أما الشهادة فكانت في حرب 1948 بالقرب من قرية الشجرة شمال فلسطين، وهي قرية رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي، وبين الميلاد والشهادة كانت مسيرة حافلة بالشعر والنضال، رغم قصرها، كأنما تكثف فيها الزمن وانضغطت السنوات لتجتمع حوادثها بإيقاع سريع.
فارس الكلمة والميدان
كان عبد الرحيم محمود من فرسان الكلمة ومن فرسان الميدان وساحة المعركة أيضاً، يمسك بالخيال في يد وبالبندقية في اليد الأخرى، وهو من أهم الثوار الذين شاركوا في الثورة الفلسطينية الكبرى التي امتدت من عام 1936 حتى عام 1939. تلقى الشاعر تعليمه الابتدائي في بلدته ثم انتقل إلى مدرسة كلية النجاح الوطنية في نابلس، تلك المدرسة العريقة التي طاف بين أرجائها خير شعراء فلسطين وأكابر أعلامها، فعندما كان الشاعر عبد الرحيم محمود طالباً في تلك المدرسة، كان من بين أساتذته الذين يدرسونه الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، صاحب القصائد الخالدة التي لا تموت، ومؤلف نشيد «موطني»، الذي يعد من أجمل الأناشيد الوطنية على الإطلاق.
كان إبراهيم طوقان معلماً وملهماً ومثلاً أعلى لعبد الرحيم محمود وصديقاً أيضاً، ثم تحول التلميذ أي الشاعر عبد الرحيم محمود إلى معلم في المدرسة ذاتها، ليكون من بين تلاميذه شاعر آخر هو الشاعر الفلسطيني الراحل خالد أبو خالد، وهكذا كانت مدرسة النجاح بؤرة التقاء، وحلقة اتصال بين ثلاثة شعراء من أكبر شعراء فلسطين. كان عبد الرحيم محمود صديقاً لوالد الشاعر خالد أبو خالد، الشهيد محمد صالح الحمد، الملقب بأبي خالد، أحد الخمسة الأوائل الذين انضموا إلى الشيخ عز الدين القسام في ثورة فلسطين الكبرى، وقد استشهد عام 1938 في معركة دير غسانة، ونكاد لا نجد حديثاً للشاعر الراحل خالد أبو خالد يخلو من ذكر عبد الرحيم محمود، الذي كان أستاذاً نادر المثال، وأباً ثانياً لأبناء الشهداء الذين كانوا يقيمون في قسم داخلي في مدرسة النجاح بمنحة دراسية.
ويروي خالد أبو خالد أنه لم يكن يدرسه وحسب، بل كان هو من علمه قراءة الشعر وحسن إلقائه، وعلمه أن يذهب إلى السينما والمسرح، وأن يتعرض لمختلف ألوان الفنون، وأن يمارس الرياضة البدنية، وأن تكون فلسطين حاضرة في كل ما يفعل، وكان كذلك يعلم التلاميذ حمل السلاح ويدربهم عليه، وعندما لم تكن تتوفر البنادق الحقيقية كان يعلمهم على نماذج خشبية، ويقول خالد أبو خالد إنه فقد أباً ثانياً بعد استشهاد عبد الرحيم محمود.
ترك الشاعر عبد الرحيم محمود ديواناً شعرياً يضم أكثر من سبعين قصيدة، بالإضافة إلى بعض الكتابات الأخرى، وما كان ينشره في الصحف والمجلات، ومن بينها مجلة «الرسالة» درة المجلات الثقافية المصرية في الثلاثينيات. وكان ملتزماً بالشكل الأصيل للشعر العربي، ينظم الشعر العمودي المقفى، ويغوص في بحور الشعر بإيقاعاتها المختلفة، وعنده نجد الكلمة الرفيعة الموزونة، والصورة الشعرية العميقة، وبلاغة المعنى وبراعة التعبير. وكم كانت اللغة العربية طيعة بين يديه، متمكناً منها أشد التمكن، كما لو أنه يستطيع أن يجمع محيطها الشاسع، وربما يعود ذلك إلى أن والده كان شاعراً هو الآخر، وفقيهاً تلقى تعليمه في الأزهر الشريف، فغمرته اللغة العربية منذ نعومة أظفاره، وامتلأت نفسه بمفرداتها وجمالياتها اللانهائية، كما لا يخفى تأثره بعيون الشعر العربي، وفطاحل الشعراء في العصور المختلفة، ما يدل على اطلاعه الواسع وربما حفظه لبعض القصائد القديمة أيضاً. كان يكتب بلغة فصيحة رصينة، لكنها كانت لغة زمانه المفهومة آنذاك والمفهومة في زماننا أيضاً، وقلما نجد في قصائده كلمة تتطلب البحث في المعاجم عن معناها، لكن حتى هذه المفردات الغريبة، أو القديمة غير المتداولة، كان يوظفها بجمالية لا تصد القارئ ولا تعرقل عملية القراءة، وربما يمكن فهمها من خلال سياق البيت الشعري.
سأحمل روحي على راحتي..
أول ما يذكر عند الحديث عن شعر عبد الرحيم محمود قصيدة «الشهيد»، التي تعد من أشهر قصائده إن لم تكن أشهرها، خصوصاً مطلعها المحفوظ والمتداول الذي يقول: «سأحمل روحي على راحتي.. وألقي بها في مهاوي الردى.. فإما حياة تسر الصديق.. وإما ممات يغيظ العدا». كانت هذه القصيدة بمثابة نبوءة واستشراف لما سيقع له في ما بعد، وربما كانت حديث القلب وشفافية النفس المتطلعة إلى الشهادة، فهي قصيدة عن كل شهيد من شهداء فلسطين، وعن نفسه أيضاً إذ يقول: «لعمرك إني أرى مصرعي.. ولكن أعد إليه الخطى.. أرى مصرعي دون حقي السليب.. ودون بلادي هو المبتغى». ورسم في تلك القصيدة صورة لموت الشهيد قل مثيلها، حيث استخرج جمالية كبيرة من قلب حزن رهيب: «كسا دمه الأرض بالأرجوان.. وأثقل بالعطر ريح الصبا.. وعفر منه بهي الجبين.. ولكن عفاراً يزيد البها.. وبان على شفتيه ابتسام.. معانيه هزء بهذي الدنا». كتب عبد الرحيم محمود قصائد أخرى عن الشهداء كقصيدة «بطل شهيد» وقصيدة «نداء الوطن» التي يقول مطلعها: «دعا الوطن الذبيح إلى الجهاد.. فطار لفرط فرحته فؤادي.. وسابقت الرياح ولا افتخار.. أليس عليّ أن أفدي بلادي».
فلسطين هي الموضوع الشعري الرئيسي في قصائد عبد الرحيم محمود، ولا يطغى عليها أي موضوع آخر بطبيعة الحال، رغم تناوله لمواضيع أخرى أحياناً، بل كانت فلسطين موضوع حياته أيضاً لا شعره فحسب، فيما قضاه من سنوات في هذه الدنيا. كرس العمر القصير من أجل الوطن في ساحات الجهاد والقتال، وفي ميادين الشعر والثقافة والتعليم، وتربية وإعداد النشء، الذين هم مستقبل البلاد ورجاله الذين سيدافعون عنه في الغد. كان عبد الرحيم محمود من الجيل الذي تصدى للمأساة منذ بداياتها، وأولى مراحل خطتها الجهنمية، ويعكس شعره قوة الروح الفلسطينية، وصلابة عزيمة الشعب الفلسطيني وجسارته منذ القدم، وخلال ما لاقاه على مدى عقود طويلة من ويلات وفقد ودمار، حيث ضياع الأرض واحتلالها، واقتلاع أهلها وتهجيرهم في الداخل والخارج، وهدم البيوت ومحو الملامح وتغيير أسماء المدن والأماكن، وقتل وإبادة وإزهاق أرواح مئات الآلاف من الفلسطينيين طيلة هذه العقود، نزيف لم يتوقف ولا تزال دماء فلسطين تسيل، ولا تزال تفقد شعباً وأرضاً، ولا تتوقف الخسارة عند هذا فحسب، صحيح أنه ليس بعد خسارة النفس خسارة، ولا مصيبة أعظم من فقد روح ومقتل إنسان، وإن اضطرت الشعوب أحياناً إلى أن تفدي أوطانها بأرواحها، وعلى الرغم من أن فلسطين لا تزال حية تنبض أرضها بهويتها الحقيقية من تحت الاحتلال، ولا يزال شعبها صامداً مبدعاً متفرداً بثقافته وإبداعاته وتراثه، معلناً عن أصالته التي لا يستطيع أن يختلق مثلها المحتل ويصنعها من لا شيء.
رغم كل ذلك نرى كم تعطلت مسيرة فلسطين الحضارية والثقافية، ولنا أن نتأمل حالها، لو نحينا هذا الكابوس جانباً للحظات باستخدام الخيال، ماذا لو استمرت فلسطين وأكملت مسيرتها تطوراً وفكراً وثقافة وبناء على ما كانت عليه في بدايات القرن العشرين، من نهضة حضارية وثقافية وازدهار الصحافة والإبداع، وكانت فلسطين مقصداً تجارياً مهماً ووجهة سياحية مفضلة للكثيرين، فمن مصر على سبيل المثال كانت الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد وأم الملك فاروق تفضل الذهاب إلى فلسطين بصحبة بناتها الأميرات، وكذلك كانت فلسطين البلد المفضل سياحياً لدى كثير من النخب المصرية في ذلك الزمن. وكما حرم الفلسطينيون من وطنهم، وانتزع منهم وانتزعوا منه، حرمنا نحن أيضاً من الجارة القريبة المزدهرة بقدراتها ومميزاتها. وكم من مواهب فقدتها فلسطين مع كل روح أزهقت وتزهق، فقد كان استشهاد عبد الرحيم محمود، على سبيل المثال، قتل للشعر أيضاً، ومعه مات شعر كثير لم ينظم وقصائد لم تقرأ، وأنقصت ذخيرة فلسطين الشعرية وثروتها الثقافية، ورغم أن الشعر لا يزال حياً في فلسطين ولم يمت يوماً، كان من الممكن أن يكون أكبر من ذلك بكثير. لا شك في عظم الشهادة كأسمى معاني الفداء في سبيل الوطن، ونوقن بأن الشهيد حي يرزق عند رب العالمين، في جنة عرضها السموات والأرض، لكن للفلسطيني أن يعيش ويحيا على أرضه أيضاً لا في السماء وحسب، وأن يأخذ فرصته في الوجود، التي تمنح لمرة واحدة فقط، أن يبدع ويتألق في شتى المجالات وأن يبني وطنه وينهض بأمته، ويصنع مجده الحاضر، لكن قدر الفلسطيني حتى الآن أن يخوض نضالاً طويلاً يكاد يقارب قرناً من الزمان، يحمل رايته الجيل تلو الآخر منذ أن سرقت فلسطين وتعرضت لأبشع احتلال في التاريخ. وعن ضياع فلسطين كتب عبد الرحيم محمود: «إذا ضاعت فلسطين وأنتم على قيد الحياة ففي اعتقادي.. بأن بني عروبتنا استكانوا وأخطأ سعيهم نهج الرشاد».
وعن الشعب الفلسطيني كتب قصيدة «الشعب الباسل» التي نشرت في مجلة «الرسالة» المصرية عام 1936، ويقول مطلعها: «شعب تمرس في الصعاب.. ولم تنل منه الصعاب.. لو همه انتاب الهضاب.. لدكدكت منه الهضاب». فهو يصف الشعب الفلسطيني بما فيه ويذكي روح النضال والمقاومة، ويذكر ما يتسم به من شجاعة وصلابة في مواجهة الخطوب، ونجد في القصيدة العزة والرفعة، واستحضار الهوية والارتكاز على الأصل والذات، ووضع الوطن عالياً في مكانه المستحق وكذلك الشعب الكريم الجسور. القصيدة حماسية بدرجة كبيرة، تلهب الشعور الوطني وتوقظ عزائم الرجال، وتحرك خطاهم وتسرع بها نحو ساحات المعارك.
تتعدد قصائد الفخر والحماسة في ديوان عبد الرحيم محمود، كما كتب أكثر من قصيدة عن العمال وحقوقهم، بالإضافة إلى قصائد تأملية في الكثير من جوانب الحياة، ومن قصائده اللطيفة التي نجد فيها ظرفاً وروحاً مرحة، إلى جانب ما تحتويه من معان حكيمة، قصيدة «فتبسم يا عزيزي» التي يخاطب فيها صديقاً عبوساً، ويقول في مطلعها: «إن تجد باب الأماني مغلقاً.. لا تكشر وتلم من سكره.. إن بواب الأماني مرح.. يبغض اليأس ويخشى الكشرة.. فتبسم يا عزيزي». وفي القصيدة يكرر جملة «فتبسم يا عزيزي» وكلمة تبسم أيضاً كثيراً، ويعرض مواقف تدعو للحزن والعبوس، لكنه يعرض الوجه الآخر أو الجزء الإيجابي في ما حدث، فمن خانه حبيب مثلاً فإنه قد أخلى مكانه في القلب لحب مقبل أجمل وهكذا. وقال أيضاً في قصيدة أخرى تدعو للتبسم والتفاؤل وحب الحياة: «اضحكي، فالعمر يا سمراء يمضي كالثواني.. وابسمي لسنا سوى لحن على ثغر الزمان».
وعن الحروب الثقافية وضرورة الانتباه والحفاظ على الهوية مع الانفتاح على العالم في الوقت نفسه يقول: «لا تأمنوا المستعمرين فكم لهم حرب.. تقنع وجهها بسلام.. حرب على لغة البلاد وأهلها.. ليست تشن بمدفع وحسام». كم كتب قصيدة طويلة عن وعد بلفور، وتحظى قصيدة «المسجد الأقصى» بشهرة واسعة، خصوصاً تلك الأبيات التي خاطب بها الأمير السعودي الذي كان يزور فلسطين، وتقول: «يا ذا الأمير أمام عينك شاعر.. ضُمت على الشكوى المريرة أضلعه.. المسجد الأقصى أجئت تزوره.. أم جئت من قبل الضياع تودعه؟».
كاتبة مصرية