
احتفال جان بياجيه بشارل باليه

توفيق قريرة
أقدم للإذاعة الثقافية التونسية حصة أسبوعية، أعرض فيها كتابا في اختصاص اللسانيّات غالبا ما يكون أجنبيا. والحقيقة أنّ الحصة فرصة لي كي أقرأ وأختار لمن تابعني، بعض الكتب التي لا تصل سريعا إلى القارئ العربي الذي ما يزال يجهل الكثير من المعطيات عن عالم اللسانيّات. الحصة برقية إذ لا تدوم غير دقائق خمس تعلمت أن أقدّم فيها مفاتيح الكتاب وأفكاره الأساسية وأترك فرصة البحث لمن رغب فيه.
عثرت منذ أسبوع على كنز مهمّ: تقديم عالم البيولوجيا والبيداغوجيا الشهير السويسري جان بياجيه (1896- 1980) Jean Piaget لكتاب ألفه أحد أبرز تلامذة فردينان دي سوسير أب اللسانيات الحديثة السويسري شارل باليه (1865- 1947) Charles Bally. الكتاب الذي قدّمه بياجيه عنوانه بالفرنسية Le langage et la vie، أي اللغة والحياة وصدر لأوّل مرة عام 1913، في العام نفسه الذي توفّي فيه أستاذه دي سوسّير، وقبل ثلاث سنوات من نشر دروس في اللسانيات العامة. لكنّ بياجيه قدّم كتاب اللغة والحياة في طبعته المنقحة التي صدرت عام 1927 يقول بياجيه: «قامت دار النشر بمبادرة طيبة عندما طلبت من شارل بالي أستاذ اللسانيات في جامعة جنيف إصدار طبعة ثانية من مؤلّفه الصغير الذي صدر سنه 1913 وأصبح الآن شهيرا بعنوان «اللغة والحياة» ويضيف متحدّثا عن مضمون الكتاب: «فإلى جانب الصفحات التي تحدّثت عن آليات تطوّر اللغة ووظائفها، تجد دراسة شاملة عن الأسلوبية واللسانيّات، وفصلا عن آليّات التعبير اللغوي وآخر عن اللغة الموروثة، واللغة المكتسبة وأخيرا دراسة تربويّة رصينة عن اللغة الأمّ وتكون الفكر». في الفقرة كثير من الأفكار ينبغي توضيحها عن ظرفية صدور الطبعة الأولى، وصدور الثانية وعن مضامين الكتاب في علاقتها بالدرس اللساني الكلاسيكي والدرس اللساني المجدّد. أوّل ما ينبغي أن يلاحظ أنّ زمن الطبعة الثانية هو زمن بات فيه كتاب دروس في اللسانيات العامّة (وقد كان باليه أحد ناشريه) معروفا؛ وهو زمن بدأت فيه بذور اللسانيّات بالظهور، وقد يكون السبب في إصدار طبعة منقحة من الكتاب هو، إضافة معطيات تتعلق بالتصوّر غير التاريخي ولا المقارني للسانيّات. فمن المعلوم أنّ اللسانيات العلمية التي جاء بها كتاب دروس في اللسانيات العامة، كان من أبرز أدوارها إبطال الدراسات التاريخية، أو التطورية وتكريس الدراسة الآنية للغة؛ وأن تكون اللسانيات موضوع دراسة لذاتها، وليس كما في فقه اللغة موضوعا مساعدا لعلوم أخرى. وما نكتشفه في مضامين الكتاب بعيني جان بياجيه، أنّ شارل باليه ما زال في مرحلة وسطى بين النقلة العلمية والتقليد السائد في تدريس اللغة.
عرف جان بياجيه بأنّه صاحب مذهب البنيوية الوراثية، ومعلوم أنّ دي سوسّير أسس عبر كتابه المذكور البنيوية اللغويّة، ولا يمكن أن نردّ بنيوية بياجيه إلى بنيوية دي سوسّير، بحكم أنّ بنيوية الأوّل لها أساس زماني، إذ يدرس تشكل التكوين وتطوّر أبنيته عبر الزمان، بينما ترتكز بنيوية دي سوسّير على أساس آني بالنظر إلى عمل اللغة وأبنيتها الفرعية في لحظة زمانية معلومة من غير عناية بالتطوّر. وكان شارل بالي يرغب في أن يكون وفيّا لمعلّمه دي سوسّير بأن يدرس عبر علم الأسلوبية المبتدع لسانيّات الكلام، ولكن ليس الكلام اليومي، بل الأدبي. غير أنّ الكلام الذي هو موضوع الأسلوبية، ينبغي ألا تنغلق فيه اللغة على ذاتها، بل تنفتح على النفسي والاجتماعي، لأنّه من هاتين البوابتين يمكن أن يصل الأسلوبي وعبر اللغة إلى سبر أغوار الفكر. فنحن حين نتكلم نجعل اللغة في علاقة حيّة بالفكر. لذلك تعرّف الأسلوبية لديه بأنّها دراسة ارتباط اللغة بالفكر، لا بالفكر المنطقي، بل بالفكر الحيّ. في هذا الإطار يقول بياجيه: «إنّ السيد بالي الذي يتمتّع بقدرات تحليلية رفيعة في علم النفس ومعرفة معمّقة في علم الاجتماع، إلى جانب كونه لسانيّا بارزا، قدّم إسهامات ثمينة جدّا في الدراسات النفسية الاجتماعيّة».
كان شارل بالي أسلوبيّا من 1905 حتى 1929 بعد صدور الطبعة الثانية من كتابه، ولا شكّ أنّ اللسانيات التطورية التاريخية والآنية، وانفتاحه على العلوم قد وجّهت جميعها دراسته الأسلوبية، توجها يجعل اللغة فيها معبرا إلى النفس والبنى الاجتماعية والفكرية. كان يريد من وراء كلّ ذلك أن يجد في اللسانيّات إطارا لأسلوبيته، هذا العلم الجديد الذي يريد له بالي أن يكون فوق الأنساق.
هذه النزعة قد تكون هي التي شدّت عالما قادما من مجالات علمية أخرى بيولوجيه بالأساس إلى اللسانيّات. ربّما كانت فكرة البنيوية مغرية وهي تطبّق على منتج له أعماقه البيولوجية والذهنية هو اللغة. ولكنّ بياجيه، ككل علماء البيولوجيا، لا يغريه أن تنعزل اللغة بنفسها عن التحوّلات والتطوّرات الحادثة على الذهن البشري، ومنتجاته اللغوية والاجتماعية والنفسية. ثمّ لم لا يكون سانحا التفكير في بنيوية أخرى بدلا من أن تنغلق على الأبنية اللغوية؛ بنيويّة تحفر في الأصول والنشأة، حين تكوّنت هذه الملكة اللغوية عند البشر: من هنا سينشأ تفكير عرفاني يدمج الذهن واللغة والثقافة في الجرن نفسه ويدرسها جميعا.
الحفر في الذهن قد يجعل باحثا مثل بياجيه يرنو إلى دراسة تطوّر الذكاء، وبما أنّ الثقافة البيولوجية متاحة فإنّ تطوّر الذكاء لا يدرس من غير ربط بالعمليات النفسية أو العرفانية كما نقول اليوم؛ وهذه العمليات من الممكن أن تقود صاحبها إلى الكيفيات التي تبنى بها المعارف. هذا المسار ليس بعيدا عن مسار شارل بالي ولذلك تقاطعا؛ إذ يبحث الأسلوبي مؤمنا إيمان الحادسين، بأنّ اللغة هي مفتاح المفاتيح وروح المعارف، وأنّ اللغة هي منتج ذكيّ وإن شئت قلت إنّه يمكن أن تكون دليلا على تطوّر الذكاء، وأنّنا ونحن ننتج الكلام نقدّم صورة بيّنة عن فكرنا الذكيّ. تدرس الأسلوبية وسائل التعبير المتاحة للغة، والعمليات العامة التي تستخدمها للتعبير من خلال الكلام عن ظواهر العالم الخارجي، وكذلك الأفكار والمشاعر، وبشكل عام، كل تحركات حياتنا الداخلية. رحلة كلّ منهما إلى حياتنا الباطنية: داخل الذهن، ولكن لكلّ وسائله: واحد يعتمد الوسائل الطبية والبيولوجية المتطورة، والثاني يعتمد الدلالة بالمعنى القديم الذي يعني إن غابت عنك الأشياء ولم تجد لها كاشفا، فاستدلّ عليها، أي أطلب لها الدليل، وليس أبرز دليل من اللغة.
يسافر بياجيه سفرا مريحا، مستعينا بوسائل العلم الحديثة ويسافر باليه سفرا كادّا لأنّه يريد أن يصل إلى المنابع نفسها، ولم يستجلب لها وسائلها الكافية غير وسيلة اللغة والحياة. لكنّ الحياة عند كليهما تعني شيئا مختلفا حياة بيولوجية تطوّرية عند بياجيه، وحياة فيها لغو الكلام الدال على روح الفكر والموصل إلى الكليات النفسية والاجتماعية. في مرحلة ما، يلتقي العالمان ويقرأ أحدهما للثاني ويقدم له أفكاره كما رآه الأوّل ولكن بعين الثاني.
حدث هذا من قرن تقريبا في عالم عاش حربا كونية ومجاعات، وسيعيش أزمة عالمية بعد قليل: أزمات لم تميّز بين اللساني والبيولوجي، بل وحّدت بينهما في الاهتمامات ولم يتصالف عالم البيولوجيا على عالم الأسلوبية، أو اللسانيّات بكونه صاحب اليد الطولى، وعلم الثاني شعبيّ بروليتاريّ .كتب بياجيه دون عقد تفوّق ودون امتهان علم لعلم، وقدما درسا للبشرية ثلاثي البنود أوّلا: كن عالما منفتحا على بقية العلوم، ثانيا: ابحث معي عن حقيقة أدركتها أنت بوسائلك وأدركها بوسائلي وسنلتقي؛ ثالثا : تواضع أيها الباحث ثمّ تواضع ثمّ تواضع.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية