الصحافه

شهادات فلسطينية في صحف عبرية.. الروائي يسري الغول يرسم من غزة ملامح الموت المحيط به

شهادات فلسطينية في صحف عبرية.. الروائي يسري الغول يرسم من غزة ملامح الموت المحيط به

وديع عواودة

الناصرة-  خاطب الأديب الروائي الفلسطيني يسري الغول، المصمّم على البقاء وزوجته وأطفالهما الأربعة داخل مدينته، غزة، رغم القصف وحملة “القبضة الحديدية” عليها، الإسرائيليين بلغتهم، واضعًا مرآة قبالتهم لمشاهدة بشاعاتهم وفظائعهم، وهو يرسم ملامح الموت المحيط به وبأهالي المدينة.
في مقال ترجمته صحيفة “هآرتس” العبرية من العربية يقول يسري الغول مخاطبًا العالم والإسرائيليين أيضًا: “لا أعرف كم يومًا تبقّى لي لأعيش، لأن الموت يحاصرني من كل جهة، ويحاصر مدينة غزة النازفة دون توقّف. لا أعرف بأي شكل سأموت: ربما برصاصة تطلق من مسيّرة تطير في السماء المليئة بالدخان والنار، وربما بشظايا قنبلة انشطارية، وربما بقذيفة من بارجة عسكرية تطلق من سواحل غزة النار علينا عشوائيًا… وربما بصاروخ خائن من طائرة استطلاع، أو طائرة حربية من طراز “إف 16″. ما أعرفه فقط هو أنني لا أفكّر كيف سأموت، بل أعرف أين ستُلقى جثتي. يا ترى، هل أسقط بين الركام قريبًا من بيتي خلال هربي مع الأولاد من القذائف، أم يتطاير لحمي في الشارع المكتظ بالخيم. ربما أدفن دون وداع زوجتي ووداع من تبقى من عائلتي. في مخيلتي أرسم المنظر: نحن نهرول نحو مخيم الشاطئ، والسماء تمطر نارًا، والصواريخ تنفجر حولنا، فأسقط أرضًا وأرى طفلي الصغير ينزف ويتأوه، فأمدّ له يدي، أبكي وأحاول الوصول إليه، لكنني أكتشف أنني تحوّلت إلى قطع متناثرة، والكلاب الضالة صارت تتجول في محيطي لافتراس ما تبقى من لحمي. هناك بين لحظة الموت ولحظة الوعي تعود الذاكرة إلى الوراء، إلى الأيام التي كنت أحلم فيها أن يكبر أولادي نحو مستقبل زاهر، فقد شاهدتهم أطباء يداوون قلوب الناس ومهندسين يبنون حياة جديدة من وسط الخراب، بيد أن المحتلين قرروا خلاف ذلك: بعيون الجنود الإسرائيليين الشباب فإن الأولاد الفلسطينيين ليسوا جديرين بالغد، وأحلامهم ليست سوى تهديد يجب محوه. أموت بصمت، فيما العالم يرقب جثتي التي لا يوجد لها أي معنى بالنسبة له. عالم يكتفي بالجلوس مقابل التلفاز ومتابعة المشاهد وكأنها فيلم رعب طويل: يدمع أحيانًا، وأحيانًا يمل، لكنه لا يصرخ. القصة قصة أديب وعائلته مثلها مثل قصص عشرات آلاف قتلوا على يد جنود شباب لا يحبّون الفراشات..”.

ويمضي الغول في تبيان تراجيديا غزة المستباحة من قبل “الجيش الأكثر أخلاقية”، الذي يتصرف كالكتائب والمليشيات المنفلتة، كما تؤكد حتى صحيفة “هآرتس” العبرية، اليوم الأربعاء، في عنوانها الرئيس: “أموت فيما ينام زملائي الأدباء، وأنا أتنزّه فوق الغيوم والطائرات والأقمار الاصطناعية والنجوم والمجرات، وأصعد إلى رب العالمين، وريح حامية خفيفة تحمل روحي إلى هناك، نحو السماء الأخيرة حيث مليون طفل مع أجنحة من فولاذ يرافقونني”.
يسري الغول، مؤسس تجمع قرطبة للثقافة في غزة، الذي صدرت له عدة أعمال أدبية منها “على موتها أغنّي” و”خمسون ليلة وليلى”، يرفض مغادرة شمال القطاع رغم المذبحة اليومية، ويخلص للقول، في مقال موجع، ربما ما زال فيه أمل بأن “يوعى الضمير”، ضمير العالم: “بعد هذه الإبادة، عمليات القتل والخراب التي تنفذها إسرائيل بواسطة جيشها ودعم أغلبية مواطنيها… لن تقوم لها قيامة بعد”.

الكاتبة والمترجمة الإسرائيلية المناهضة للصهيونية والاحتلال إيلانه هامرمان، التي تقول إنها على اتصال دائم مع الغول، ويزوّدها بيوميات الحرب، تقول إنها تلقت منه هذه الكلمات التي تترجمها للعبرية، وتنشرها في “هآرتس”، وتؤكد أن إسرائيل التي تقوم بعمليات الإبادة، القتل والتدمير بواسطة جيشها وبدعم معظم مواطنيها، “لن تقوم لها قيامة بعد”.

صرخة طبيب فلسطيني

وفي مقال مشابه، سبق للدكتور عز الدين شهاب، طبيب فلسطيني، باقٍ هو الآخر في شمال قطاع غزة، نشرته أمس صحيفة “هآرتس”، وسيلة الإعلام العبرية الممتنعة عن طمس وتشويه الحقائق، والتي تنقل الوجع الفلسطيني وتشارك في فضح جرائم الحرب الإسرائيلية، قال: “أكتب من غزة، من تحت الأنقاض، وتحت السماء. ما زلت أتنفس حتى الآن. أكتب هذه الكلمات، ليس كطبيب، ولا كابن، ولا كرجل. أكتب كشخص نزل إلى أعماق الجحيم وعاد، ليس بنبوءة، بل بصمت يعتصر الحلق وجرح تحت الأظافر. ما أنتم على وشك قراءته ليس رسالة، إنه اعتراف. صرخة. توثيق لمحنتنا. وربما، أياً كان، دع الله يغفر لي، ربما دعاء أخير. نحن محاصرون في دوامة، داخل عجلة ضخمة من المعاناة التي تسحقنا. وكل ذلك من صنع البشر. ليس القدر من يجوعنا، ولا السماء هي من تقصفنا. إنه منطق الأقوياء، طقوس العنف، الحسابات الباردة للجغرافيا السياسية. هؤلاء جعلوا شوارعنا مسالخ”.
ويقول إنه يستيقظ كل صباح على نفس السؤال: “هل البطارية قد نفدت؟ ليست بطاريتي، فقد فرغت منذ زمن، بل بطارية هاتفي”.
ويمضي في وصف محنته كإنسان وطبيب: “أحتاجها أن تصمد وقتًا كافيًا لأتمكن من شحنها مرة أخرى في المستشفى، كي أبقى مرتبطًا بشيء يذكّرنا أننا ما زلنا جزءًا من عالم الأحياء. لا ماء. لا فطور. لا “روتين”. هناك فقط دلو ملطخ بآثار الملح، مليء بمياه البحر، حيث كان الحوض من قبل. أغسل وجهي، ليس لتنظيفه، بل لأتذكر أنني ما زلت جسدًا ودمًا، لم أصبح رمادًا بعد. لا آكل. نأكل مرة واحدة في اليوم، عندما نتمكن من ذلك. نحفظ ما تبقى للطعام المشترك في منتصف النهار: أرز، عدس، صمت. أصل إلى المستشفى، ويستقبلني الطبيب بقائمة النواقص: نفدت الزرعات العظمية. لا يوجد بروميثازين. لا يقين. لا أمل”.
ويؤكد الطبيب الفلسطيني عز الدين شهاب أن “الأرضيات حمراء”، لافتًا إلى أن ما يقوله ليس مجازًا، ولا تعبيرًا شعريًا.. إنها حمراء. ويضيف: “أسأل نفسي: هل دمنا أصلاً أحمر؟ هل نحن مصنوعون من نفس المادة، من نفس المعاناة، من نفس النفس الإلهية التي كانت في يوم ما تملأ رئات الإنسان؟”.
ويخلص د. شهاب إلى إطلاق صيحة للعالم الرسمي الأصم: “هنا يموت الأطفال من أجل الرياضة، والعالم يسمي ذلك “دفاعًا”. والعالم يراقب. والعالم لا يفعل شيئًا. لذلك أكتب هذه الكلمات كشاهد. كنبي. كإنسان محكوم عليه بمصيره، كطبيب، كروح شبحية. أكتب لأن على أحدهم أن يفعل ذلك. لأنه إذا متنا دون أن يتحدث أحد، فلن يجد حتى الله عظامنا. أكتب من قطاع غزة، تحت الأنقاض، تحت السماء، تحت التاريخ. ما زلت أتنفس. حتى الآن”.

“القدس العربي”:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب