
الهجوم الإسرائيلي على قطر عربدة غير مسبوقة
بقلم الدكتور يوسف مكي
في يوم الثلاثاء الماضي، الموافق التاسع من أيلول/ سبتمبر، شن الطيران الإسرائيلي هجوما على العاصمة القطرية، الدوحة استهدف منطقة كتارا التي يقيم فيها وفد حركة حماس المفاوض، في عملية أطلق عليها قمة النار. والهجوم الإسرائيلي هو الأول من نوعه، الذي تشنه إسرائيل على دولة خليجية، وعضو مؤسس في مجلس التعاون الخليجي. وكان ذلك مبعث استياء وغضب بالغين من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، والدول العربية جمعاء.
ومبعث الاستياء ليس فقط، لأن إسرائيل استهدفت قيادات فلسطينية، تتمركز في الدوحة، ولكن لأن الوفد الذي جرى استهدافه، وصل للدوحة لمناقشة مقترح تقدم به الرئيس الأمريكي لوقف إطلاق النار بين حماس والإسرائيليين، مقابل الافراج عن الأسرى المحتجزين لدى الحركة منذ اندلاع ما بات معروفا بطوفان الأقصى. وقد لعبت القيادتين القطرية والمصرية، دور الوسيط بين الاحتلال الإسرائيلي، وبين حركة حماس، بموافقة أمريكية إسرائيلية. واستمر قيامهما بدور الوساطة منذ 7 تشرين/ أكتوبر 2023، حتى تاريخ العدوان على الدوحة. وقد بلغت وقاحة نتنياهو حد الإعلان عن نيته بتكرار تلك العملية، كون ما جرى لم يحقق أهدافه.
إن طبيعة العدوان وظروف توقيته ومكان حدوثه، وكونه عربدة غير مسبوقة هو ما يعطي معنى دقيقا للعنوان الذي تصدر هذا الحديث. فالذين جرت محاولة الاغتيال الفاشلة بحقهم، ليسوا مقاتلين في الحركة، بل قادة سياسيون، اتخذ بعضهم من الدوحة مقرا رئيسيا له، بموافقة أمريكية. ومقر إقامتهم ليس بعيدا عن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية، في المنطقة هي قاعدة العيديد الجوية، والتي استخدمتها الولايات المتحدة مرارا وتكرارا، أثناء الحصار على العراق، وفي غزوه عام 2003.
توصيف ما جرى بالعربدة، لا ينسحب فقط على السلوك الإسرائيلي، بل أيضا على السلوك الأمريكي، وتصريحات الرئيس دونالد ترامب، الذي وصف العدوان بالعمل النبيل، الذي استهدف مجموعة من الإرهابيين، حسب توصيفه. وهو بذلك يقصد وفدا جاء لمناقشة مبادرة لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى، صادرة عن الرئيس الأمريكي نفسه.
نحن لن نناقش في هذا الحديث، كيف جرى تأسيس حركة حماس، بتشجيع إسرائيلي، في ظرف أقر فيه القادة العرب، بأن منظمة التحرير الفلسطينية، هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وكان هدف الاحتلال، من ذلك، هو نفي وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، وأن هناك من يتنافس معها في هذا المجال.
التطورات اللاحقة، جعلت من حماس، حركة مقاومة بالفعل، قدمت كبار قادتها على مسرح النضال الفلسطيني، بدءا من مؤسسها الشيخ أحمد ياسين وإسماعيل هنية وصالح العاروري وعبد العزيز الرنتيسي وسعيد صيام ومحمد الضيف ويحيى السنوار، والقائمة طويلة. وكان العدد الأكبر من تضحياتها، قد أخذ مكانه بعد طوفان الأقصى.
ورغم أن المعلن لعدد الشهداء من المدنيين، شيوخا وأطفالا ونساء، جراء القصف اليومي على القطاع، وسياسة التجويع والتعطيش التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي، قد تجاوزت ثلاثة وستين ألف شهيد، فإن بعض التقديرات تشير إلى أن هذا العدد هو أقل بكثير من العدد الحقيقي للقتلى، الذي تصل به بعض التقديرات إلى مائتي ألف شهيد وأضعافهم من الجرحى.
صحيح أن خسائر الفلسطينيين كثيرة بكل المقاييس، لكن المكاسب ليست بالقليلة أيضا. فلأول مرة منذ نكبة فلسطين، يتعرف العالم بأسره، على حقيقة الممارسات الفاشية للاحتلال الإسرائيلي. ولأول مرة أيضا، يعيش الكيان الإسرائيلي، عزلة دولية غير معهودة على مستوى العالم بأسره، تبز ذلك الذي تعرض له نظام الفصل العنصري، في جنوب أفريقيا. ويكفي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو بات غير قادر على الطيران في أجواء بعض الدول، وأن فرقه الرياضية تحرم من المشاركة في عدد من الدول الأوروبية، التي كانت حتى الأمس القريب تعد حليفة لإسرائيل.
الممارسة الإسرائيلية الأخيرة التي جرت في قطر، ليست معهودة بالمطلق في تاريخ الدبلوماسية، ولا في تاريخ المفاوضات. فما من حركة تحرر وطني في العالم أنجزت استقلالها إلا وكانت المفاوضات مع المحتل هي بداية تتويج عملية الاستقلال. هكذا كان الوضع مع الجزائر، حيث تفاوض الثوار مع محتليهم، بعد منازلة أسطورية. وهكذا أيضا تفاوض الأمريكيون مع ثوار فيتنام للتوصل إلى وقف إطلاق النار، في مدينة باريس بالعاصمة الفرنسية. وحصل ذلك أيضا في المفاوضات الأمريكية مع لاوس وكمبوديا، وقبل ذلك في بداية الخمسينيات حين تفاوض ثوار كوريا الشمالية، مع غرمائهم الأمريكيين.
ما حدث في الدوحة، ليس له من معنى سوى إصرار الاحتلال على استمرار عملية الإبادة التي يمارسها بحق الفلسطينيين، مع ادراكه باستحالة احتلال القطاع واخضاع شعبه. والأكبر من ذلك، أن ما جرى بالدوحة، حمل معنى لا مبالاة حكومة بنيامين نتنياهو بأرواح الأسرى الإسرائيليين، الذين تقلصت أعدادهم كثيرا، بفعل استمرار القصف الإسرائيلي، على الأماكن المدنية.
لا ينبغي أن يقف العالم مكتوفا، أمام العربدة الإسرائيلية، وضمنها العدوان على قطر. وليس يكفي أن تصدر بيانات الإدانة والشجب الخجولة عن مجلس الأمن الدولي، وبقية المنظمات الإنسانية، فقد ثبت للعالم بأسره، أن هذا الغول المتوحش، لا تفيد فيه بيانات الشجب والاستنكار، بل لا بد من عمل جدي، قادر على لجمه.