ديفيد هوكني: يزرع الفن كأرض خصبة للابتكار

ديفيد هوكني: يزرع الفن كأرض خصبة للابتكار
وصلتُ إلى باريس هذا العام مثقلة بالحزن، متأملة أن يكون الفن دليلي للانغماس من جديد في الحياة. عند عودتي إلى هذه المدينة، تستيقظ داخلي الرغبة في الكتابة، ويتعمّق شغفي بالانغماس في هذه المدينة التي تتنفس الفن في كل زاوية وتغذّي إبداع الفنانين عبر العصور.
أتوقف عند عبارة ديفيد هوكني: «العالم جميل جدا إذا نظرتَ إليه، لكن معظم الناس لا يُمعنون النظر. إنهم يكتفون بتفحّص الأرض أمام خطاهم ليتمكّنوا من السير، ولا ينظرون إلى الأشياء حقا بعمق وبشغف. أما أنا، فأفعل». وأتأمل كيف يمكن لهذه النظرة العميقة أن تغيّر طريقتنا في رؤية الحياة، فهذه الكلمات تلهمني وتذكّرني بأن الانغماس في الواقع يتطلب احتضان كامل أبعاده، الألم والأمل معا، وهذا يفتح لنا آفاقا جديدة للجمال ويجدّد إحساسنا وصلتنا بالحياة.
بهذه الروح، قادتني خطاي إلى معرض ديفيد هوكني الأخير في باريس، حيث تتجسّد هذه النظرة العميقة للحياة، في لوحات مغمورة بالضوء والألوان، لتعيد إليّ ذلك الإحساس المفقود بالفن وبالعالم. شكّل معرض ديفيد هوكني الأخير فرصة للغوص في عالم فني غني بالألوان والخيال، رحلة ممتدة عبر سبعة عقود من الإبداع، حيث تتلاقى الواقعية والشاعرية، والتقنيات الكلاسيكية مع الابتكار الرقمي، لتجعل من كل لوحة نافذة جديدة إلى رؤية الفنان الفريدة للعالم.
رحلة إبداعية
ديفيد هوكني، واحد من أعظم الفنانين المعاصرين وأكثرهم تأثيرا، يعرف كيف يحوّل اللحظة اليومية إلى مشهد بصري ينبض بالألوان والحياة. منذ بداياته في برادفورد، مرورا بفترات الإقامة في لندن وكاليفورنيا، وصولا إلى استكشافاته الرقمية الحديثة، استطاع هوكني أن يجمع بين الرسم الكلاسيكي والابتكار التكنولوجي، بين البورتريه والمناظر الطبيعية، ليخلق عالما فنيا متفردا. أعماله ليست مجرد صور للواقع، بل دعوات للتأمل، للاستمتاع بالضوء والألوان، وللاكتشاف المستمر لما يختبئ وراء تفاصيل الحياة اليومية.
يأخذ هوكني زواره ومتلقيه في رحلة إبداعية شخصية عبر فنه، ضمن أحد أكثر معارض العام شهرةً وإقبالاً. قدمته مؤسسة لويس فويتون «ديفيد هوكني، 25 تذكّروا أنهم لا يستطيعون إلغاء الربيع»، وذلك من ربيع باريس حتى بداية سبتمبر/أيلول من هذا العام. وهو أضخم معرض استعادي يُخصَّص للفنان على الإطلاق. يضم المعرض أكثر من 400 عمل (1955 ـ2025)، في احتفاءٍ غنيّ يستكشف الحديقة الإبداعية لفنان يزرع الفن كأرض خصبة للابتكار.
كل زاوية وركن في مؤسسة لويس فويتون تتفتح بألوان هوكني الزاهية ومناظره الطبيعية الخصبة: لوحات زيتية، رسومات فحم، فيديو، وأعمال رقمية أنجزت على الآيفون والآيباد.. إنها أنطولوجيا غير مسبوقة جُمعت بفضل إعارات من مجموعات دولية وكنوز من استوديو الفنان نفسه. وبإشراف هوكني ومتعاونيه جان- بيير غونثالفيس دي ليما وجوناثان ويلكينسون، صُممت كل قاعة لتكون بمثابة فسحة فنية تُتيح للمتلقي الانطلاق في مغامرة بصرية نادرة في عالمه الإبداعي الممتد على مدى سبعة عقود.
العلاقات الحميمة
يستقبلنا هوكني في الطابق الأرضي للمتحف، بمجموعة مختارة من الأعمال الرمزية الممتدة من خمسينيات القرن العشرين حتى سبعينياته، بما في ذلك بدايات هوكني في برادفورد (صورة والدي 1955)، وفترته في لندن ثم كاليفورنيا، حين بدأ يستخدم ألوانا زاهية ومشرقة، مع عناصر مستمدة من البوب آرت، مثل استخدام الموضوعات اليومية والسطوح المسطحة والأشكال الهندسية البارزة. تشهد على ذلك بركة السباحة ـ ذلك الموضوع الذي أصبح علامة فارقة في مسيرته ـ في لوحتيه الشهيرتين «اندفاعة أكبر» و»بركة مع شخصين»، حيث يرى تأثير الضوء الأمريكي والسماء الزرقاء والبركة كرموز بصرية. إلى جانب لوحتين رئيسيتين أخريين من سلسلة البورتريهات المزدوجة: السيد والسيدة كلارك وبيرسي، التي تُظهر الزوجين مع قطهم، ما يعكس توازنا بين الألفة والهدوء. كذلك لوحة كريستوفر إيشروود ودون باكاردي، تُظهر العلاقة بين الكاتب والفنان، حيث يُحتفى بحبهما في فترة كان التعبير عن الميول الجنسية غير التقليدية يُعتبر تحديا اجتماعيا. فأتت أعماله تعبيرا صريحا عن تجربته الشخصية وحياته العاطفية، وغالبا ما كانت توثق العلاقات الحميمة، الأصدقاء، والعشاق، وتستكشف الديناميكيات الشخصية والعاطفية بطريقة مرحة وملونة، بدلا من الالتزام بالرموز أو التأطير النظري للفن.
بالإضافة إلى ذلك، يُظهر هوكني في أعماله الرقمية الحديثة، مثل سلسلة لوحاته الزهرية، اهتماما بالعلاقات الحميمة والتواصل، ما يُبرز تطور اهتماماته الفنية والشخصية، وكيف تثري هذه العلاقات فنه، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من تطور أسلوبه.
الطبيعة ومناجاتها
خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، ترسّخت الطبيعة في أعمال ديفيد هوكني، بلوحات مناظر طبيعية غنية وحقول لونية متفجّرة. وهنا يبدو لنا جوهر المعرض حيث يدور حول السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من مسيرة هوكني الإبداعية. في يوركشاير (المكان الذي عاش وعمل فيه جزءا مهما من حياته) والتي تعتبر المهد الفني والطبيعي لأعمال الفنان الريفية، فيحوّل شجيرة زعرور بسيطة إلى ترنيمة بهيجة ولامعة للربيع (أزهار مايو/أيار على الطريق الروماني)، وتبلغ ملاحظاته الدقيقة لتحوّلات الفصول ذروتها في المشهد الشتوي الضخم أشجار أكبر قرب ووتر. يغطي المعرض أعماله من لوس أنجلس إلى يوركشاير، وصولاً إلى نورماندي اليوم، ويمثل فرصة رائعة للتعرف على أحد أعظم عباقرة الفن شهرةً، الذي لا يزال يجرب التقنيات الحديثة لخلق الجمال والروعة. استخدم التصوير الفوتوغرافي كطريقة للرسم بالكاميرا، والتقط مرور الوقت في صوره بالبولارويد، وبهجة الربيع، على جهاز آيباد، ويوضح لنا لماذا لا يمكن إلا للرسم أن ينقل عظمة جراند كانيون بدقة.
يقدّم المعرض نحو 60 بورتريها لأصدقائه وأقاربه، ورسوما ذاتية بألوان الأكريليك، أو على جهاز الآيباد، إلى جانب بورتريهات رقمية للزهور، مؤطرة كأنها أعشاب حديثة، تعكس قدرة هوكني على دمج التقنيات الحديثة في فنه.
يبلغ المعرض ذروته في الطابق العلوي، مع سلسلة من الاستنساخات التي تحتفي بأساتذة الرسم الأوروبي، من العصور القديمة حتى الفن الحديث، مرورا بالنهضة المبكرة والفن الفلمنكي. وبشغفٍ خاص بالأوبرا، سعى ديفيد هوكني إلى إعادة ابتكار تصميماته المسرحية التي بدأها منذ السبعينيات، فيجد المتلقي نفسه منغمسا في هذه التجربة الموسيقية والبصرية داخل أضخم فضاء للعرض في المؤسسة يجمع بين الموسيقى والصورة، مستلهما من شغف الفنان بالأوبرا وعالم المسرح.
في النهاية، لا يقدّم ديفيد هوكني مجرد معرض استعادي، بل يزرع فينا يقينا بأن الربيع لا يُلغى أبدا، وأن الفن يظل البذرة الأبدية للحياة والجمال. يفتح أمامنا أبواب عالمٍ ملوّن يتجدد، كما تتجدد الفصول في لوحات تنبض بالحياة، وتُذكّرنا بأن الجمال حاضر دوما لمن يُمعن النظر. وبين باريس التي احتفت به هذا العام، وألوانه التي لا تعرف الانطفاء، نجد أنفسنا أمام تجربة فنية تزرع الأمل وتعيد إلينا شغف الاكتشاف من جديد.
تشكيلية لبنانية