ثقافة وفنون

«بوّابة الذكريات» لآسيا جبار: حين تتقاطع منافي الأبوية والاستعمار

«بوّابة الذكريات» لآسيا جبار: حين تتقاطع منافي الأبوية والاستعمار

نورالدين قدور رافع

■ تعد الذاكرة منطلقا مهمّا لسرد فنّي يحمل بين طياته جراح الماضي، وهواجس اغتراب تعيشه الذات الساردة، إنّه مكان لا حدود له يحتوي على هويات منفية عن أرضها وحلمها في الحياة، تلك الحياة الآخذة في الأفول بمجرد أن «أبواب الذكريات» تستعيد لحظات العائلة والأصحاب والمدرسة والاستعمار، لتجسد «الصراع القائم بين التاريخ والذاكرة» على مسرح نص روائي عنوانه «لا مكان لي في بيت أبي» للجزائرية آسيا جبار.
النصوص حلبة لإفراغ ذاكرة معطوبة، ومنفية عن إرثها وماضيها المتقلب في سرديات تسارع لطلب الاستقلال، وتتناقض عند مشروعها الوطني، والرواية باعتبارها فنا إنسانيا عابرا للثقافات، قد تجاوزت معايير التصنيف البورجوازي لها، في زمن أصبحت الكلمة فيه معولا لهدم أساطير الذات المُستعمَرة، عبر فتحها سجلات الماضي لا لإعادة كتابته فحسب، بل لتشريحه ونقده وصياغة هامشيته، وما بين أيدينا سردية باذخة الحضور، وذاكرة غنية تحيلنا إلى نصوص منفية، حيث الجزائر البيضاء تتوارى خلف تاريخها الوطني.

النّفق الطويل

ما يفوق الخمسين عاما، تفتح آسيا جبّار نوافذ نحو عالم خاص، حيث الذاكرة والتاريخ والهوية ترسم ملمحا لنص سَخِي في الذاتية، أقصد تلك «الإحالات الضمنية» التي تختفي خلف كلمات الشوق واللوم والندم، وعن المستعمَرة كأرض منفية عن التاريخ.
هي سيرة ذاتية عن رحلة الطفولة زمن الاستعمار الفرنسي، كيف كانت تستلهم الفتاة الصغيرة تمردها في وطن اسمه العائلة، أو بالأحرى بيت يقوده شخص متعلم ومتسمك ببعض عادات قومه، وما بين الأب المنغمس في طيات النظام الاستعماري التعليمي، وأم تزاول مهامها كامرأة بسيطة تتلحف الحايك، وتعتمر مجالس النّسوة والحمام بشيء من النميمة، تتضح ذاكرة شديدة الحساسية، لماض عاين صراعا وجوديا مع المستعمِر والمستعمَر.
استطاعت آسيا جبار ضمن سيرتها الذاتية، أن تفي حضورها في الأمكنة المستلبة حقه، وأن تمنح «صراع الرغبات» بين الفتاة الصغيرة والأبوية طريقا نحو فهم مآلات التغيير والخروج من نفق التاريخ، فإن تُمنع من ركوب الدراجة وممارسة يومياتها كطفلة عادية، قد صاغ هويّة مخالفة لمن يفترض أنّهم مستعمَرون، ومستعمِرون يمارسون حياتهم بجميع لذّاتها، إذ ظلت سلطة الأب وحرصه اللامحدود على عدم استثارة القيم والماضي، تغبط المكان بالرفض والقسوة، إذ بات موت أخيها الصغير، مدرجا ضمن لائحة النسيان.
إنّ الإشكالية التي طرحتها جبّار عبر روايتها، تكمن في التمييز بين الذاكرة والتأريخ، والصراع القائم بينهما، للخروج من نفق الإلغاء والتعتيم الممنهج، والاختزال الهش للتجارب البشرية في التاريخ الكبير، عبر الكتابة الصريحة والجريئة للذاكرة، بدل الركون للتاريخ، كونه موضوعا لا مكان فيه للخطاب السردي، ومع أنّ آسيا غاصت في تفاصيل ذاكرتها، ويومياتها من الطفولة والمراهقة والحب والسفر والأصدقاء، فهي كانت تبحث عن صوت الحرية، وخلاص يأبى أفول الطفولة مبكرا في بلدان الشمس، ليكون حضورا ضمن سردية المنافي.

نحو وجهة مجهولة

حين سافرت جبّار إلى حيث الزمن يأخذ أبعادا إنسانية أكثر من كونه مقدسا يرفض الاندثار، جلبت صورا لأطلال ظلت قائمة في ذاكرتها، بلغة استولت على معنى البيت والعائلة والإخوة، فالصمت إزاء الذات أخطر، والنظر إلى أخطاء تدرك لحظاتها، انطوى على صياغة خطاب سردي كان غرضه التحرر من قيود تاريخية وثقافية، ترفض الفنّ في قالبه الاستعماري. حاولت آسيا الرجوع للخلف بخطوات متأنية، نحو زمن تراكمت فيه هواجس الدراسة والانتماء والاستقلال، إذ إنّ جبّار حيّدت نوعا ما بحسّها النّقدي النّسوي سرديات تاريخية متعلقة بالشرط الكولونيالي، وخاضت تجربة الاعتراف الذاتي للبورجوازية التقليدية، وتشابكت مع التمييز الحاصل في فضاء استعماري بالغ الحساسية، في الحافلة والمطعم المدرسة وحبها للموسيقى، تلك الأطلال التي سردتها آسيا في روايتها، صاغت نصا صامتا غير آبه بأحداث غيّرت مجرى تاريخنا، نص يحكي عن منافيها، وخيباتها، وأحلامها، وآمالها في أرض بدت شرارة أكتوبر/تشرين الأول 1953 انقساما آخر للوطن.
حينما عادت الكاتبة الجزائرية إلى البيت، كان المكان مجهولا غير آهل ولا مُرتّب، أرادت استعادة أثاثه وصوره ودفئه وصراخه وأوامره، سافرت جبّار إلى حيث آمنت أنه خلاص لذاتها، واستلقت بين طيّات دوائر محبوكة تكتب منافيها المتصارعة مع التاريخ والذاكرة، أسمعتنا صوت النّسوة، كونهّن هامشا يصعب منحهنّ هوية تليق بهنّ، واستطاعت أن تجعل هوس العفة ولباس الحايك والجسد، لغة بمعانيها الوافرة، والمتصارعة مع الذات المستعمَرة.

إلى غياتري سبيفاك

ما الذي يجعل البيت لا مكان فيه لشيء مبهم، أعني أنّ ثمة أشياء كثيرة ساقتها جبّار في نصها السردي عن المكان، والذي يفترض أن يكون عنوانا للهوية والاستقلالية والرخاء، وبالضرورة للأمن المرجو تحقيقه، سواء كان داخليا أو متعلقا بالروابط الاجتماعية للمكون العائلي.
داخل البيت كانت الحروب الصغيرة صامتة، تختفي بين سلطة التقاليد والأبوية والتاريخ العريق، وكل يرسم ملمحا للطفلة التي لا تريد الخروج من كونها فتاة، يحق لها أن تأخذ حيزا ولو بسيطا في رقعة جغرافية، تحبس الهويات في علاقات مضطربة ومتداخلة وقلقة أحيانا، فالواقع الذي فرضه البيت كان متعلقا دائما بإرادة الأب، وسلطته على بسط التقاليد والقيم التي من شأنها أن تسلب اللحظة تنوعها، ففي الجزائر المستعمَرة كل له طائفته، تقولها آسيا.
ليس من السّهل أن تتخلص الذاكرة من عقدة التاريخ والهوية، حتى إن بدت في صراعها معهما خلاصا له نحو الأبدية، إنّها أثر فني بالغ التوتر تجاه التبعية الجاثمة على ذوات مقهورة، حتى إن كانت نوعا من البورجوازية التي سلبها تاريخ الثورة حضورا متأخرا بعد الاستقلال، ففي نص جبّار اختصار لنصف قرن من البوح المتأخر، والمعالجة الذاتية لموضوع الذاكرة، وانتقال نحو الاعتراف الكامل لخصوصية الذاكرة، وهشاشتها أمام سطوة التأريخ، حيث تأخذ الأقلام حبر التخوين والتمجيد، في سبيل استرضاء صراع الرغبات.
إلى سبيفاك تبدأ سرديتها الذاتية، مهدية إليها هذا العمل الفني المترامي بخيوطه نحو مسارات كثيرة، يسبر التاريخ والهوية والاستعمار، لا ليجعل منها موضوعات جدلية، بل ليخلص الذات التابعة منها ويمنحها حضورا إنسانيا بسيطا.
كان النص باذخا في نقده للسلطة الأبوية وإطلالة رمزية على التاريخ الوطني والمجتمعات النسوية المترامية بين أطراف الهويات المستلبة وحضور البورجوازية التقليدية، إلا أنّه لم يخل من تصوّر نمطي للهامش، كون تقاليد لباس الحايك ولغته صورة للعاجز عن مواكبة الفنون الاستعمارية، وهذا الإلغاء وإن لم يكن متعمّدا كون الكاتبة انهالت بذاكرتها على ذاتها تسردها، فإنّه يرجع إلى إشكالات كتابة السير الذاتية للذاكرة، في سياق مختلف عن ماضيها الذي طوى صفحاته بين الهوية والتاريخ.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب