رحلة في السرد التركي: مختارات من قصص التحوّل والحداثة

رحلة في السرد التركي: مختارات من قصص التحوّل والحداثة
عن دار الخليج للنشر والتوزيع صدر مؤخرا كتاب مترجم جديد للروائي والناقد والمترجم الأردني أسيد الحوتري بعنوان «إسطنبول تقول: مختارات من القصة التركية الحديثة». عندما نقول «القصة الحديثة»، فإننا نشير إلى القصص التي كُتبت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع ظهور الحداثة، وهي فترة شهدت تغييرات في أساليب السرد والمواضيع والرمزية والتجريب الفني. أما «القصص المعاصرة» فهي تلك التي كُتبت بدءا من النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم.
الترجمة لا تعني النقل اللغوي المباشر من لغة إلى أخرى، فلكل لغة قواعدها وأسلوبها الخاص، وبالتالي، فإن النقل الحرفي قد يجعل النص غريبا وغير مفهوم، وأحيانا يفقد روحه ودلالاته. وهذا ما يدركه الناقد الحوتري، فترجم هذه القصص بحرفية وإبداع، كما فعل في كتابه المترجم السابق «حدث في الآستانة».
كُتبت قصص هذا الكتاب، كما ذكر المترجم في مقدمته، خلال المرحلة الانتقالية الحاسمة من الدولة العثمانية إلى الجمهورية التركية الحديثة، ويضم الكتاب سبع قصص لكتّاب ينتمون إلى تيارات فكرية وأدبية مختلفة، ولهذا فهي قصص تعكس روح الشعب التركي بتنوّعه الفكري والاجتماعي وتجربته الإنسانية التي تتقاطع أحيانا مع تجارب الإنسان في كل بقاع الأرض، من حيث الصراع الداخلي والرغبات والتحديات والتناقضات داخل النفس البشرية. وقد عمد المترجم إلى تقديم نبذة عن كل قاصّ قبل ترجمة قصته، وهو تمهيد مهم وتعريف بفكر الكاتب وثقافته.
القصة الأولى: ثعبان في (عالمداغ)
سعيد فائق أباصيانك
قصة سريالية، ينتقل فيها الراوي بين الواقع والحلم والخيال واللاوعي، ويظهر فيها الحنين من خلال استرجاع الذكريات التي تبدو أحيانا كالهذيان. يتحدث عن برودة المدينة الجديدة، إسطنبول، بشوارعها وسكانها، حتى إنه يصف العلاقة الزوجية بالبرود: «حتى الأزواج الذين ينامون معا في سرير مذهّب، ينامون كالعزّاب». لكنه يربك القارئ عند وصفه لأحد أحياء إسطنبول (عالمداغ)، إذ يصوّره في البداية مكانا جميلا، ثم يتحدث عن ثعبان الحيّ، وبطل القصة بانجو، والماعز، والحجل، والأرنب، والقطة المقتولة! هي قصة سريالية تحتاج إلى أكثر من قراءة، لما فيها من رموز وما تخفيه بين سطورها.
القصة الثانية: خيالات
فخري جلال غُكتولغا
قصة غرائبية كتبها طبيب نفسي
الكتابة الغرائبية في الأدب تعني، باختصار، سرد الواقع وما خلفه بطريقة مرعبة أو غامضة، أو مفزعة، تُنتج الدهشة والحيرة والتأويل لدى القارئ. وهو سرد غير مألوف، يثير القلق أحيانا، كما فعل غُكتولغا من خلال الغوص في أعماق كابوس مخيف لشخص كان يعمل مدرسا. تظهر الشخصيات من خلال الكابوس: درويشان، العبد، الفتاة، والصراع…
قصة تطرح أسئلة، وتفتح أبواب التأويل.
القصة الثالثة: الصقر الرمادي
والأفعى الصفراء
حسين نهاد أطِز
برع الكاتب في تصوير الواقع البشري من خلال صراع رمزي بين صقر وأفعى؛
خبث، وسياسة، وشجاعة.. نهاية القصة تدفع القارئ إلى التأمل والتفكير.
القصة الرابعة: طريق
أحمد حمدي طانپنار
قصة نفسية تغوص في أعماق النفس البشرية، يرويها الكاتب مخاطبا القراء، مثيرا دهشتهم بكلماته الفلسفية:
«أشعر بأن هذه الحياة التي أعيشها ليست حياتي أبدا، لدرجة أنه لو جاءني شخص ما في أي لحظة من الزمن، وصاح في وجهي: قُم! لقد جاء دورك، كن نفسك!».
يطرح الكاتب أسئلة عن الهوية والوعي والوجود، مسلّطا الضوء على تناقضات الشخصية ودفئها وبرودها. قصة فلسفية أبدع طانپنار في نقش كلماتها ووخز القارئ، ودفعه للتأمل العميق.
القصة الخامسة: الطاحونة
صباح الدين علي
في هذه القصة، لم يكن صباح الدين علي يكتب فقط، بل كان يعزف ألحانا حزينة مع بطل قصته أطماجا. شعرتُ أحيانا أن الكاتب يرسم لوحة حزينة، تثير في النفس مشاعر إنسانية عميقة. هي قصة عشق حزينة، ذات نهاية صادمة، برع الكاتب في عزف تفاصيلها ورسم مشاهدها. لا يسعني في هذا المقام إلا أن أشكر المترجم على اختياره الموفّق لهذه التحفة الفنية لتكون جزءا من هذا الكتاب.
القصة السادسة: رسالة إلى أبي
أوغوز أطاي
كُتبت القصة بأسلوب سردي مبتكر يجمع بين القصة والرسالة. تظهر بين سطورها ملامح الصراع أو التباين بين جيلين: الأب الصارم الذي نشأ في مجتمع تقليدي، والابن الذي يسعى إلى الوعي والتغيير. تتجلى مشاعر الخذلان والاغتراب العاطفي في العلاقة بين الأب وابنه. قصة تمزج بين المشاعر والرمزية وروح التمرّد.
القصة السابعة: طبيب الأسنان
رشاد نوري غونتكن
استخدم الكاتب لغة بسيطة وواضحة، حملت بين سطورها سخرية ووجعا إنسانيا.
تظهر معاناة الدكتور تحسين من شقيقه السكير حسن، الذي يتنقل في كلامه بين الإنكار، ولوم الآخرين، والظروف، إلى جلد الذات. قصة إنسانية تشير إلى تآكل رابطة الأخوة وتحولها من المحبة إلى المنفعة.
اختيارات موفّقة جدا قدّمها الناقد الحوتري مشكورا لنماذج إبداعية من القصة التركية الحديثة. وقد جاءت ترجماته كاشفةً عن تنوّع الأساليب والموضوعات، وعن غنى التجربة السردية في تركيا، عبر مراحلها المختلفة. ولعلّ الحوتري يُفرد في ترجماته المقبلة مساحةً لكتّاب آخرين، فنطّلع على مزيد من الأصوات والرؤى التي تعكس تنوّع المشهد الأدبي التركي.
روائي أردني