تقدير موقف: العدوان على قطر… ردّة الفعل الدولية ودلالاتها السياسية

تقدير موقف: العدوان على قطر… ردّة الفعل الدولية ودلالاتها السياسية
عكست قمة الدوحة مستوىً لافتًا من الحضور والتمثيل السياسيَين، يشير إلى التعامل بجدية مع الخطورة التي باتت تشكلها السياسات الإسرائيلية على المنطقة * لم يرتق البيان الختامي للقمة إلى مستوى اتخاذ خطوات عملية تتناسب مع خطورة العدوان الإسرائيلي
شهدت الدوحة قمّةً عربية وإسلامية طارئة في 15 سبتمبر/أيلول 2025، ردًّا على العدوان الإسرائيلي الذي تعرّضت له دولة قطر في يوم 9 من الشهر ذاته. وشارك في القمّة رؤساء دول وحكومات يمثلون سبعًا وخمسين دولة عربية وإسلامية. وبرز فيها التضامن الكبير مع قطر، بما عكس مكانة هذه الدولة ومتانة شبكة علاقاتها الدولية. وحاولت القمّة بلورة رد جماعي مؤثر، وشهدت نقاشًا حول طبيعة الإجراءات السياسية والدبلوماسية الواجب اتخاذها ردًّا على العدوان الإسرائيلي غير المسبوق على دولة تقوم بدور الوسيط. وحمل الخطاب العام للقمّة تشخيصًا واضحًا لخطورة السياسات الإسرائيلية، مع إجماع الدول المشاركة على استنكار استهداف الوسيط والمفاوض، والتأكيد على الطابع المارق لدولة الاحتلال، وأن عدم الرد سوف يشجع إسرائيل على التمادي في اعتداءاتها على الدول العربية والإسلامية.
رفض دولي لسابقة الاعتداء على وسيط
استجلب العدوان الإسرائيلي على قطر حالة من الاستنكار الدولي الكبير؛ فهو دليل على أن سياسات حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة أخذت تتجاوز حدود الصراع في غزة ولبنان وسورية، لتشمل استقرار المنطقة برمّتها، كما أن الهجوم حلَّ بوسيطٍ يبذلُ منذ نحو عامين جهودًا مضنية للتوصل إلى اتفاق لوقف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، التي أسفرت حتى الآن عن استشهاد نحو عشر السكان وجرحهم.
ورسخ العدوان الإسرائيلي تصورًا على المستوى الدولي بأن الحكومة الإسرائيلية باتت تعمل دون خطوط حمراء، ودون اعتبار للأعراف الدولية وحتى الأعراف السائدة في التعامل بين البشر. وقد انعكس هذا التصوّر في سلسلة من الاتصالات وزيارات التضامن التي شهدتها قطر، والبيانات الرسمية التي صدرت عن مختلف دول العالم، والتي تندد بالعدوان الإسرائيلي وترفضه باعتباره تقويضًا للأسس التي قام عليها النظام الدولي وطرائق التعامل بين الدول. وقد تجلى ذلك بوضوح في كلمات ممثلي الدول في الجلسة الطارئة التي عقدها مجلس الأمن، بدعوة من الجزائر، لمناقشة تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطر. وأصدر المجلس بيانًا رئاسيًا، بإجماع أعضائه، يدين الهجوم مع التأكيد على أهمية وقف التصعيد ودعم سيادة قطر وسلامة أراضيها، رغم أنه أغفل الإشارة صراحةً إلى مرتكب العدوان (إسرائيل)، وذلك لضمان تأييد الولايات المتحدة الأميركية للبيان. واعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بالإجماع، قرارًا بعقد نقاش طارئ حول الهجوم الإسرائيلي على قطر.
وعقد وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية، في 14 سبتمبر/أيلول، اجتماعًا في الدوحة، في إطار التحضير للقمة العربية الإسلامية الطارئة، حذّروا خلاله من أن عدم اتخاذ إجراءات عملية وملموسة لمواجهة العدوان الإسرائيلي قد يؤدي إلى سلسلة من التداعيات الخطيرة تدفع نحو المزيد من الخسائر والدمار الإقليمي. ودعا رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، المجتمع الدولي إلى التوقف عن التعامل الانتقائي ومعاقبة إسرائيل على جرائمها المستمرة، بما في ذلك المجازر المرتكبة في حق المدنيين في غزة واستمرار سياسات التوسع الاستيطاني، ورفض أي تقدم في مسار إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، في إشارة واضحة إلى الدعم الأميركي لإسرائيل، الذي تجلى في محاولة وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، التخفيف من وطأة العدوان على الدوحة، مؤكدًا أن “ما حدث قد حدث”. وشدد على أن الهجوم “لن يغير من طبيعة العلاقة القوية مع إسرائيل”.
مخرجات القمة العربية الإسلامية الطارئة
عكست قمة الدوحة مستوىً لافتًا من الحضور والتمثيل السياسيَين، وهذا يشير إلى الجدية التي تتعامل بها الدول العربية والإسلامية مع الخطورة التي باتت تشكلها السياسات الإسرائيلية على المنطقة. وقد جاء ذلك واضحًا في البيان الختامي الذي أقرته القمة، والمؤلف من خمسة وعشرين بندًا، وبرز بوصفه إطارًا جامعًا للموقف العربي الإسلامي، رابطًا بين الاعتداء على قطر ومجمل السياسات الإسرائيلية في المنطقة. فلم يقتصر على إدانة الهجوم المباشر على الدوحة وما خلّفه من ضحايا وأضرار، بل اعتبره امتدادًا لسياسات إسرائيلية ممنهجة من إبادة وتطهير عرقي وحصار واستيطان (البندان 1–2). وأكد البيان أن الدفاع عن قطر هو دفاع عن جميع الدول العربية والإسلامية؛ ما يحوّل الاعتداء إلى قضية أمن جماعي (البنود 3–5، 8، 25)، ويجعل أي استهداف لدولة عربية أو إسلامية تهديدًا للنظام الإقليمي برمّته.
على المستوى الدبلوماسي، شدّد البيان على الدور المركزي لقطر في جهود الوساطة لوقف الحرب على غزة، والإفراج عن الأسرى، والتوصل إلى تسوية سياسية (البندان 6، 20). ويعكس هذا التأكيد المتكرر اعترافًا وتثبيتًا لأهمية الوساطة القطرية، وإبرازًا لكون الاعتداء على قطر استهدافًا للعملية الدبلوماسية ذاتها. أما الموقف من إسرائيل، فقد تجاوز إدانة العدوان الأخير ليشمل رفض محاولات فرض الأمر الواقع، وسياسات التهجير، واستخدام الحصار أداةً للحرب، مع التحذير من خطط الضم والاعتداءات على دول الجوار، والدعوة إلى فرض عقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالسلاح، وإعادة النظر في عضويتها في الأمم المتحدة (البنود 7، 10–17). ودعا البيان الدول كافة إلى اتخاذ تدابير قانونية وفعالة لمنع إسرائيل من مواصلة اعتداءاتها، بما يشمل دعم الجهود الرامية إلى إنهاء إفلاتها من العقاب، ومساءلتها عن انتهاكاتها وجرائمها، وفرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالأسلحة والمواد ذات الاستخدام المزدوج، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها، والشروع في إجراءات قانونية ضدها، غير أن هذا الطرح بقي ضمن منطق التصرف الفردي لكل دولة، من دون بلورته ليكون تحركًا مشتركًا، فخلا من آليات تنفيذية واضحة.
وأعاد البيان التأكيد على مرجعية حدود 1967 وتجسيد الدولة الفلسطينية، والترحيب بمخرجات “إعلان نيويورك” ومؤتمر حل الدولتين (البنود 9، 18–19، 21–23). وأولى أهمية للمساءلة الدولية، من خلال الدعوة إلى تفعيل أوامر المحكمة الجنائية الدولية وأحكام محكمة العدل الدولية المتعلقة بجرائم الحرب والإبادة في غزة (البند 24).
وعلى الرغم من أهمية القمة لناحية التضامن مع قطر واستخدام لغة أكثر حدة في صياغة الموقف من إسرائيل وسياساتها، إضافة إلى مستوى الحضور والتمثيل الكبير، فإن البيان الختامي لم يرتقِ إلى مستوى اتخاذ خطوات عملية تتناسب مع خطورة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والضفة الغربية، وانتهاك سيادة قطر، والاعتداءات المتكررة على سورية ولبنان، فخلا من أي إجراءات عملية لمواجهة إسرائيل، رغم ثقل الكتلة العربية والإسلامية المشاركة. فالتصريحات التي رافقت القمة تجاوزت سقفها المعتاد، غير أن البيان لم يتضمن ترجمة عملية لها، حتى في مستواها الرمزي، مثل سحب السفراء، أو إغلاق الأجواء في وجه الطيران التجاري الإسرائيلي، أو فرض عقوبات صريحة على إسرائيل. وخلا من أي محاولة للضغط على الولايات المتحدة لتعديل سياساتها تجاه إسرائيل؛ إذ جرى ذكرها في البيان بصفتها وسيطًا، على الرغم من توافر أدوات ضغط اقتصادية كان يمكن استخدامها، خصوصًا في مواجهة إدارة دونالد ترمب الأكثر حساسية للعقوبات الاقتصادية. وإلى جانب ذلك، أحال البيان مهمة التصدي للتغول الإسرائيلي إلى المجتمع الدولي، بدلًا من أن يتبناها المجتمعان العربي والإسلامي، فضلًا عن أن استمرار حرب الإبادة على غزة تقتضي اتخاذ تدابير فورية وقطعية لوقفها.
“تفعيل” آليات الدفاع المشترك الخليجية
على هامش القمة العربية الإسلامية الطارئة، عُقِدَت قمة خليجية استثنائية، جاءت أيضًا في إطار التضامن مع عضو في التكتل الخليجي ضد عدوان خارجي، وفي إطار التحذير من أي تكرار لهذا العدوان. وقد جاء ذلك واضحًا في توجيه قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بعقد اجتماع عاجل في الدوحة إلى مجلس الدفاع المشترك في مجلس التعاون، يسبقه اجتماع للجنة العسكرية العليا، لتقييم الوضع الدفاعي لدول المجلس ومصادر التهديد في ضوء العدوان الإسرائيلي على قطر. ووجه قادة المجلس القيادة العسكرية الموحدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل آليات الدفاع المشترك وقدرات الردع الخليجية. وفي هذا السياق، جرى التأكيد على أن أمن دول المجلس وحدة لا تتجزأ، وأن أي اعتداء على قطر هو اعتداء على جميع دوله، مع الاستعداد لتسخير كل الإمكانات لدعم الدوحة في مواجهة أي اعتداء يقع على أراضيها. وقد شكل هذا الاجتماع حدثًا لافتًا، أخذًا بالاعتبار عجز دول الخليج العربي تاريخيًا عن بلورة عقيدة دفاعية وأمنية مشتركة. ويحمل توجهًا نحو دراسة الخيارات الفعلية لدول المجلس في ضوء فشل مقاربة الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة، ومراجعة التحالفات الأمنية والاقتصادية القائمة، وقد يشكل ذلك فرصة لإعادة صياغة العقيدة الأمنية لدول المنطقة.
خاتمة
عكست المواقف الدولية والعربية والإسلامية التي شهدها مجلس الأمن والقمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة حالةً من الاستنفار تجاه الخرق غير المسبوق الذي ارتكبته إسرائيل في حق الأعراف الدولية من خلال هجومها على الوسيط القطري ومحاولة قتل أعضاء الوفد المفاوض لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”. ورغم ارتفاع سقف الخطابات، وإدراك خطورة ما فعلته إسرائيل واحتمال تماديها إذا لم يتم ردعها، فإن الإجراءات العملية لم ترقَ إلى مستوى جسامة الانتهاكات الإسرائيلية؛ إذ خلا بيان مجلس الأمن وبيان القمة العربية الإسلامية من أي قرارات فعلية للرد على العدوان الإسرائيلي، بل غابت الإشارة إلى إسرائيل في بيان مجلس الأمن، في حين لم يتجاوز بيان القمة العربية الإسلامية إطار التنديد المعتاد بالعدوان الإسرائيلي، ولم ينجح في استثمار المناخ الدولي الراهن المتجه نحو فرض حالة من العزلة المتزايدة على إسرائيل. وإلى جانب ذلك، أبقى البيان أدوات الضغط المتاحة للدول العربية والإسلامية ضمن حدود الدعوة إلى مراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، من دون أن يقرّ التزامًا جماعيًا أو آلية إلزامية، مكتفيًا بفتح الباب أمام الدول لاتخاذ خطوات فردية في هذا الاتجاه، مفوتًّا بذلك فرصة مهمة لوضع حد للممارسات الإسرائيلية ومنع تكرار اعتداءاتها على دول المنطقة، فضلًا عن وقف حرب الإبادة التي ترتكبها في غزة. أما بالنسبة إلى دول الخليج العربية، فإن النقاش حول إعادة تفعيل منظومة الدفاع المشترك قد يفتح آفاقًا لمقاربة أمنية جديدة، ولا سيما بعد التغيير العميق الذي شمل بيئتها الأمنية بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ ما يستلزم جسر الهوة القائمة بين احتياجاتها الأمنية ومصالحها الاقتصادية، والذي يتطلب بالضرورة وضع مقاربة جديدة تحكم العلاقة مع الولايات المتحدة، وغيرها من القوى الرئيسة على الساحة الدولية.