مقالات

عن استباحة غزّة المدينة

عن استباحة غزّة المدينة

علي حبيب الله

لاستهداف غزّة المدينة أبعادٌ تتجاوز الأغراض الانتقامية أو الأمنية – الحربية، لتطال الجانب النفسي في الغزّيين، المتّصل بأمل النجاة وغريزة البقاء…

كلّ نقلٍ إعلامي، إخباريًّا كان أو خطابيًّا، حول الجاري مؤخرًا في مدينة غزّة، يظلّ – رغم صدق بعضه – أقلّ حقيقةً ممّا يصفه الغزّيون أنفسهم، الباقون في المدينة بعد أسابيع على حملة تركيمها وتهجير أهلها جنوبًا، وبعد عامين من وحشيّة الحرب على القطاع عمومًا.

والغزّيون، على اختلاف صرخاتهم من ويلات الحرب، فهم وحدهم الأحقّ في إنتاج خطاب إبادتهم. فقد يقول أيُّ منّا رأيًا صحيحًا حول الحرب، وقد تصدق مشاعر بعضنا عن غزّة والغزّيين، ومع ذلك، تبقى الحقيقة في غزّة، وفيما يقوله الغزّيون وحدهم فقط. لأنّ هذه الحرب، لم تكشف عن العجز والخذلان والتواطؤ، إذ فضحت كلّ ذلك حروبٌ سابقة، إنما “الادّعاء” هو أهمّ ما كشفته وتفضحه هذه الحرب.

لا يُنتج الغزّيون خطاب صمودهم ولا هزيمتهم، تلك الثنائية التي يداوم من هم خارج دفع كلفة الحرب وميدانها، من الفلسطينيين والعرب عمومًا على إنتاجها؛ إنما يُنتج الغزّيون خطاب بقائهم ونجاة أطفالهم، كما قال لنا أحد الغزّيين مؤخرًا.

عامان، ولم تقف فيهما ماكينة الحرب يومًا. تروح وتجيء بأسنانها في لحم الغزّيين على مدار الساعة. وعلى الرغم من ضيق أفق وقف هذه الحرب القذرة، خصوصًا بعد تعثّر المسار التفاوضي، مع استهداف طاقمها القيادي الحمساوي في عاصمة الدولة الراعية لوساطة إنهاء الحرب: الدوحة، ما يزال للغزّيين ما يمكنهم الأسف عليه غير أرواحهم: غزّة المدينة نفسها، والتي لا يقلّ، بالنسبة للغزّيين، قصف عمارها وتاريخها العمراني وجعًا عن قصف أعمارهم.

مدينةٌ يعود إرثها وتاريخها إلى قرابة ٥ آلاف عام، يُجرى حذفها في تعتيمٍ متعمّد على مدار وضح نهار وعتمة ليل الأيام الأخيرة.

لقد جاءت الحرب على جباليا، والشاطئ، والنصيرات، والمغازي، وسائر المخيمات، وبلدات شمال القطاع وجنوبه، من بيت حانون وبيت لاهيا إلى دير البلح ورفح. ومع ذلك، يظلّ للنيل من غزّة المدينة نفسها غصّةٌ أشدّ وطأة في نفوس الغزّيين.

يقول لنا أحد الغزّيين من مهجره: “كلّ مخيّم في غزّة وحيّز ديمغرافي في قطاعها عملت الحرب على مسحه، يمكن إعادة بنائه أو التعويض عنه، أو حتى نسيانه على مستوى الحيّز والفضاء، بوصفهما الـ’مكان’. بينما المدينة التي تطاولها وحشيّة ماكينة الحرب مؤخرًا تطاول وجود الغزّيين أكثر من أيّ وقت مضى خلال عامي الحرب، فقد جاءت هذه الأخيرة على ما لم يعد ممكنًا إعادته أو إعادة بنائه من معالمها العمرانية وعوالمها الاجتماعية والإنسانية. فمن يعيد لنا الجامع العمري؟”.

قصفَت طائرات سلاح الجوّ الإسرائيلي الجامع العمري في الثامن من كانون الأوّل/ديسمبر 2023، ودمّرته كليًّا. ذلك الجامع الذي ظلّ يجمع بين جدرانه وتحتها كلّ إرث غزّة الروحي، المتقلب بتقلّبات الزمان على مدار تاريخ المدينة، منذ مئات، بل آلاف السنين.

هذا الاستهداف غير المسبوق للمدينة، منذ بدء الحرب، لا يسعى إلى “تركيم” غزّة، إنما إلى “ترميلها” – أي تحويلها إلى رمل – بحسب ما نقله أحد النواب العرب في الكنيست عن بعض القادة في الحكومة الإسرائيليّة الفاشية الشهر الماضي.

حملة القصف التي شنّها سلاح الجوّ الإسرائيلي على أبراج المدينة ومجمّعاتها السكنيّة في الأسابيع الأخيرة، تذهب في مسعاها ليس إلى تفريغ المدينة من سكّانها فقط، بغرض تهجيرهم ومنعهم من العودة إليها، ولا بحجة استخدام الأبراج من قبل المقاومة لمراقبة ورصد مواقع جيش الاحتلال، إنّما بغرض مسح وحذف كلّ منشأة ومعلم ما يزالان قامَين، ويدلّان الغزّيين – من خيام نزوحهم المحيطة بهما – على أمل البقاء واستئناف شروطه إنْ توقّفت الحرب.

لاستهداف غزّة المدينة أبعادٌ تتجاوز الأغراض الانتقامية أو الأمنية – الحربية، لتطال الجانب النفسي في الغزّيين، المتّصل بأمل النجاة وغريزة البقاء.

كان النزوح، على قسوته، إلى جنوب القطاع ممكنًا حتى آخر شهرين من الحرب، تمامًا كما كان الخروج من القطاع إلى خارجه في السنة الأولى متاحًا لبعض الغزّيين عبر معبر رفح، مقابل مبلغ من المال. غير أنّ هذا المبلغ لم يعد كافيًا الآن لتغطية أعباء النزوح داخل القطاع نفسه، بسبب ارتفاع كلفة النقل، وقلّة الخيام، وحتى المساحات المتوفرة لنصبها، والتي باتت تُؤجَّر بأثمان باهظة.

كلّما طالت الحرب، طاولت فطرة كثيرين من الغزّيين، ونالت من أواصر التراحم والتكافل التي عرفوها. وبفعل هذا كلّه، صار النزوح أكثر قسوة إلى الحدّ الذي آثر فيه بعض الغزّيين الموت عليه.

لا يغطي غزّة سوى رماد الحرب، الذي صار لونًا للموت اليومي فيها. مدينة منزوعة من كلّ سبل النجاة، بما في ذلك أدوات تغطية الموت إعلاميًا، بعد قطع شبكة الإنترنت عن مئات آلاف الغزّيين في الأيام الأخيرة.

ولا غطاء قيادي لغزّة، لا في داخلها ولا في خارجها، خصوصًا بعد استهداف قادة “حماس” في الدوحة، والذين غُيّبوا عن المشهد الإعلامي، رغم التأكيد على نجاتهم من الاستهداف، لتُترك غزّة وأهلها بلا واجهة قياديّة، تدلّهم على وجهة الحرب ومصيرها.

بينما شبح القتل، قصفًا أو نزوحًا أو جوعًا، وفي الأيام الأخيرة عطشًا كذلك، يخيم على غزّة. فقد تصاعدت وتيرة القتل في المدينة إلى الحدّ الذي باتت فيه حصيلة الشهداء لا تُعَدّ ولا تُحصى.

كلّ ما اعتقدنا أنّ من شأنه إيقاف الحرب لم يوقفها، لأنّ غزّة – في وقوفها بوجه إبادتها – افتقدت إلى وقفة عربية – إسلامية، رسميّة وشعبيّة. والذين وقفوا مع غزّة، وبعضهم ما زال، وقف بعض العرب خلف حكومة نتنياهو في وجوههم.

غزّة، القطاع عامة، والمدينة خاصّة، تئنُّ إبادةً بكلّ ما تعنيه الكلمة… بلا نصير، ولا بشير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب