تحقيقات وتقارير

حرب المياه المؤجلة بين إثيوبيا ومصر: هل ينهار التفاوض وينفجر السد؟

حرب المياه المؤجلة بين إثيوبيا ومصر: هل ينهار التفاوض وينفجر السد؟

رغم تواتر الحديث عن سيناريوهات الصدام، فإنّ ثمة عناصر تقيّد أيّ خيار عسكريّ مباشر. فلا إثيوبيا دولة ضعيفة عسكريًا يمكن ابتزازها بسهولة، ولا مصر متحرّرة من أكلاف أيّ تصعيد على أمن قناة السويس والتزامات الطاقة…

افتتحت إثيوبيا رسميًا سدّ النهضة الكبير، في 9 أيلول/ سبتمبر الجاري، كأكبر مشروع كهرومائي في أفريقيا، لتُكرّس واقعًا هيدرو-سياسيًا جديدًا على النيل الأزرق؛ على اعتبار أن المحطة ذات القدرة البالغة حوالي 6000 ميغاواط، والتي كلفت نحو 5 مليارات دولار منذ إطلاقها عام 2011 بتمويل محليّ في معظمه، غدت راية أديس أبابا للاعتماد على الذات ولطموح إقليميّ غير خفيّ. بالنسبة للقاهرة، التي قامت حضارتها واقتصادها على النهر، كان الافتتاح خلاصة صدمة استراتيجية تأخر إعلانها، إذ سارعت مصر إلى إيداع رسالة لدى مجلس الأمن تتهم فيها إثيوبيا بانتهاك القانون الدولي وتحتفظ لنفسها بجميع التدابير للدفاع عن مصلحة تعتبرها وجودية. ليست القضية هنا نزاعًا ضيقًا على المياه، بقدر ما هي صدام سيادات وهويات وحضارات أعرق من أخرى ونماذج تنمية؛ ما ينذر بصدام أوسع من ذي قبل.

مئة عام من المعاهدات

بدأت الرواية القانونية المصرية في مطلع القرن العشرين بمعاهدتي 1902 التي وقعتها بريطانيا (بالنيابة عن مصر والسودان) مع إثيوبيا بخصوص ترسيم الحدود المائية والحصص التعبوية؛ واتفاقية 1929، التي وقعتها مصر مع بريطانيا العظمى التي كانت تستعمر عدة دول في أفريقيا حينها، والتي نصت على أن تكون حصة مصر من المياه 48 مليار متر مكعب سنويًا من مياه النيل، ثم تكرست باتفاق 1959 مع السودان الذي قسّم مياه النيل بمنح مصر 55.5 مليار م³ والسودان 18.5 مليار م³، مقرونًا بحق فعليّ في تعطيل مشروعات أعالي النهر.

في المقابل، رأت دول المنبع، وعلى رأسها إثيوبيا، أن تلك الترتيبات نتاج عصر استعماري لا يعكس موازين العدالة والواقع الديمغرافي والاقتصادي الجديد، فدفعت بمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول الذي تبلور في الاتفاق الإطاري التعاوني عام 2010، وهو ما رفضته القاهرة والخرطوم.

حاولت واشنطن والبنك الدولي رأب الصدع بين 2019 و2020، وبلغت المحاولة حدّ إعلان وزارة الخزانة الأميركية عن نص جاهز للتوقيع، لكن أديس أبابا رأت في ذلك انحيازًا، فتعثرت الجولة وانهارت. وفيما استهلكت الطاولات المستديرة رصيدها، واصلت إثيوبيا على الأرض ملء الخزان وتشغيل التوربينات تجريبيًا وبناء شبكة نقل عالية الجهد، معتمدةً على تعبئة داخلية وسندات محلية، وعلى قروض توريدية صينية لعمود الشبكة الكهربائية الفائقة. بذلك تحصّن المشروع من أدوات الضغط الغربية، وتعمق في الوقت نفسه حضور بكين في معادلة الطاقة الإثيوبية. ومع تدهور أوضاع السودان داخليًا، وجدت القاهرة نفسها تدفع قضيتها بعبارات التهديد الوجودي في المحافل، وتكرّس تدويل الملف عبر رسائل لمجلس الأمن، فيما ظل الاتحاد الأفريقي إطارًا تفاوضيًا من دون أدوات إنفاذ.

منافذ الاقتصاد والتنمية

يمثل السد أكبر مشروع تنموي في تاريخ إثيوبيا وأحد أضخم السدود في أفريقيا. يمتد السد على طول 1.8 كيلومتر بارتفاع يبلغ نحو 145 مترًا، وبجدار تصل سماكته إلى 130 مترًا عند القاعدة و11 مترًا عند القمة، ليغطي مساحة تقدر بـ 1680 كيلومترًا مربعًا ويختزن خلفه خزانًا ضخمًا تصل سعته إلى نحو 74 مليار متر مكعب من المياه. بلغت كلفته الإجمالية حوالي 4.2 مليار دولار، ليصبح استثمارًا استراتيجيًا يوفر لإثيوبيا قدرة على توليد أكثر من 6 آلاف ميغاواط من الكهرباء، ما يتيح إيصال الطاقة إلى أكثر من 60 مليون مواطن.

إلى جانب البعد الكهربائي، يفتح السد المجال أمام توسيع قطاع الصناعات التحويلية والبتروكيميائية، وجذب الاستثمارات الأجنبية في مجالات البنية التحتية والزراعة، مع تعزيز القدرة على تصدير الكهرباء إلى دول الجوار وتحويلها إلى مورد مالي ثابت. كما وفر المشروع منذ إطلاقه آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في مجالات البناء والهندسة والنقل والخدمات، وأسهم في تطوير شبكة الطرق والاتصالات المحيطة به، مما يحفز حركة التجارة الداخلية ويرفع من معدلات النمو الاقتصادي.

بذلك، يتجاوز السد كونه منشأة مائية لتوليد الطاقة ليصبح رافعة تنموية شاملة، ورمزًا للمشروع القومي الإثيوبي، غير أن هذا البعد التنموي يصطدم في المقابل بمخاوف مصر والسودان من تأثيراته على حصص المياه، ما يضعه في قلب معادلة دقيقة تجمع بين التنمية الاقتصادية الإثيوبية والأمن المائي لدول المصب.

أنهى الافتتاح مرحلة القلق من بناء السد، وفتح مرحلة كيفية إدارة السد وتحدياتها، وتحوّل السؤال من الخرسانة إلى التشغيل وتنفيذ قواعد الملء والإفراغ عبر دورات النديّة والجفاف والمسؤوليات القانونية، بحيث يتفاعل مخزون النهضة مع السد العالي في أسوان. عمومًا، تؤكد أديس أبابا أن المشروع مولد للطاقة غير مستهلك للمياه، وأن التحكم الدقيق في المنحنيات سيمنع الضرر. في المقابل، ترى القاهرة أن تشغيلًا بلا قواعد ملزمة لإدارة مخاطر الجفاف يهدد أمنها القومي مباشرة. والحق أن الحسم لن يكون في الخرائط، بل في منحنيات التصريف، وجداول الموازنة، وبروتوكولات الجفاف. حتى اليوم لم تُسجَّل اضطرابات كارثية في مجرى النهر، لكن ذلك ارتبط بسنوات فيضان مواتية وملء تدريجي أكثر منه بوجود قواعد مشتركة؛ على أساس أن الاختبار الحقيقي هو أول موجة جفاف ممتدة تُدار بقرارات أحادية.

محددات الدور الأميركي والإسرائيلي

دخلت واشنطن على خطّ الأزمة بقوة في عهد إدارة ترامب الأولى، حين تولّت وزارة الخزانة رعاية نص تفصيليّ للملء والتشغيل، ورفضت إثيوبيا النص معتبرةً أنه يحمّلها التزامات تتجاوز المنصة الأفريقية. في عهد بايدن، تنحّى ملف النيل قليلًا لمصلحة ملفات أثقل كحرب تيغراي والعقوبات الحقوقية، فباتت واشنطن تؤيد شكليًا مقاربة الاتحاد الأفريقي أولًا من دون أن تملك جولة وساطة جديدة. وإذ اختارت إثيوبيا تمويل اللبّ الصلب للمشروع ذاتيًا وربطت الشبكة بقروض صينية، تقلّصت أدوات الضغط الأميركية. عمليًا، تستطيع واشنطن أن تدعو وتسهّل وتربط مساعدات بمعايير شفافية، لكنها لا تستطيع فرض اتفاق السد من خارج إرادة الأطراف. أضف إلى ذلك أن حرب السودان جعلت سلامة السدود وصوت الخرطوم عاملًا هشًّا، ما زاد كلفة الفراغ التفاوضيّ في لحظة تشغيل حسّاسة. لم تتمتع قضية سدّ النهضة بحيّز كافٍ على أجندة واشنطن لعام 2025، إذ تركت إدارة ترامب إرثًا من انعدام الثقة بين إثيوبيا وواشنطن، وهو ما انعكس لاحقًا على أي محاولة أميركية للتوسط في الأزمة خلال إدارات لاحقة؛ ليظلّ السد قائمًا كأمر واقع بعد تدشينه، بينما بقيت مرجعية مسودة واشنطن حاضرة في الخطاب المصري كمثال على صيغة اتفاقية لم تُستكمل.

ليس من الدقة الادعاء بأن واشنطن موّلت السد أو أن إسرائيل بنته، على أساس أن التقارير الإعلامية الصادرة تثبت أن تمويل قلب وهيكل السد كان إثيوبيًا غالبًا، وأن القروض الصينية شقّت الطريق أمام شبكة النقل لا قلب السد. الرابط الإسرائيلي الأشد تأثيرًا اليوم مرتبط بالطاقة أكثر عبر توسّع توريد الغاز إلى مصر حتى 2040، يخلق علاقة اعتماد متبادلة تعاقب التصعيد وتُكافئ الاستقرار. إن كان ثمّة دفع خارجيّ، فهو بنيويّ لا مؤامراتيّ؛ فأميركا تميل إلى إدارة المخاطر بأدوات أفريقية، وإسرائيل ترجّح كفة التهدئة عبر الطاقة، والصين تراهن على انسيابية التشغيل لأنها احتكّت بالشبكات أكثر من نزاع المعاهدات.

عمومًا، تتردّد في الخطاب العام المصري روايات عن دعم إسرائيليّ خفيّ للمشروع، هندسيًا أو أمنيًا أو سياسيًا، يُقصد به الضغط على القاهرة، إلا أن موادّ موثوقة تُثبت تمويلًا أو بناءً مباشرًا تكاد لا تُرى، فيما يحذّر باحثون من توظيف هذه الروايات للتعبئة الداخلية أكثر من استنادها إلى أدلة صلبة. مع ذلك، تحضر إسرائيل في المشهد بطرق غير مباشرة ومؤثرة، إما عبر ترابط طاقويّ متصاعد مع مصر بعد توسعة عقود غاز ليفياثان، ما يخلق اعتمادًا متبادلًا يرفع كلفة أيّ مقامرة عسكرية أو قطيعة سياسية. وثانيًا، عبر تمدّد دبلوماسيّ في القرن الأفريقي والبحر الأحمر تغذّيه اعتبارات أمن الممرات البحرية وموازنة النفوذ الإيراني والروابط الخليجية، وهو تمدد يمنح أديس أبابا وزنًا إضافيًا في شبكة توازنات دقيقة. وثالثًا، عبر سرديات التكنولوجيا التي تتناقلها المنصات من دون توثيق رصين. يمكن القول هنا إن دور إسرائيل ليس مائيًا بقدر ما هو طاقويّ وسياسيّ، يميل إلى تثبيت الاستقرار ورفع كلفة التصعيد لدى كل من مصر وإثيوبيا.

مأزق مصر ونشوة إثيوبيا

تعاملت مصر مع النيل لما يزيد على مئة عام كخطّ تدفّق يمكن التنبؤ به أكثر منه حوضًا يخضع لتقلّبات الطبيعة والسياسة؛ وجاء سدّ النهضة ليحوّل اليقين إلى تباين، ويفرض انتقالًا من منطق الحقوق الحجمية إلى منطق القواعد. عمليًا، تحتاج القاهرة إلى هندسة حزمة من ترتيبات الحدّ الأدنى تحتوي على بروتوكول جفاف ذكيّ بمشغّلات مائية واضحة، وجداول إطلاق معلنة مسبقًا، وآلية تحكيم تقنية سريعة تُطفئ الأزمات قبل استفحالها. في الداخل، لا تكفي العناوين الكبرى عن أكبر محطة معالجة وخطط تحلية، بل يلزم تحجيم زراعة المحاصيل الشرهة للمياه، وتعميق إعادة الاستخدام، وموازنة الاستثمار بين مياه الشرب والزراعة، على نحو يُحوّل المحفظة المائية من شعار إلى أرقام وواقع تفاعلي مع أزمة محتملة كلفتها عالية؛ اقتصاديًا وأمنيًا وربما عسكريًا. أمّا على مستوى الحوض، فمع وجود مخزون إثيوبيّ ضخم يعلو مجرى النهر، لم يعد خزان أسوان صاعق الأمان الوحيد، وصار التنسيق التشغيليّ العابر للحدود شرطًا لتجنّب الصدمات النظامية.

كسبت أديس أبابا معركة الوجود، إذ إن السدّ قائم ويولّد، لكنها لم تكسب بعد معركة الثقة لدى الجوار. ومع الانتقال إلى التشغيل بكامل القدرة، تلوح ثلاث مغريات خطرة، تتضمن: إغراءُ تحويل بوابة الكهرباء إلى بديل عن قواعد مائية ملزمة، بما يُغذي سرديات تسليح المياه كلما انخفض الهطل؛ وإغراء توظيف الخزان كورقة نفوذ في نزاعات جانبية أو كرمز لعودة قوة الدولة ضمن خطاب عن نافذة إلى البحر الأحمر، بما يوسع دوائر التوجس ويُقحم أطرافًا إضافية في الملف؛ وإغراءُ التوسع سريعًا في منظومة السدود مستندةً إلى تمويل صينيّ للشبكات من دون حلحلة فجوات الكيلومتر الأخير داخل إثيوبيا نفسها أو بناء جسور الثقة مع الجوار. الأنفع لإثيوبيا، ولو بدا أقل إثارة، هو طريق الشفافية المُعلنة لبيانات التشغيل، واتفاق نحيف لإدارة الجفاف، وسجلّ أداء يُثبت جديّتها في تزويد الجيران، كينيا وجيبوتي والسودان، بطاقة مستقرة، لتُحوّل قابلية التنبؤ إلى ميزة تنافسية.

فتيل حرب المياه

رغم تواتر الحديث عن سيناريوهات الصدام، فإنّ ثمة عناصر تقيّد أيّ خيار عسكريّ مباشر. فلا إثيوبيا دولة ضعيفة عسكريًا يمكن ابتزازها بسهولة، ولا مصر متحرّرة من أكلاف أيّ تصعيد على أمن قناة السويس والتزامات الطاقة. تفتقر مصر إلى القدرة اللوجستية لشنّ هجوم بعيد المدى في الأراضي الإثيوبية من دون قاعدة برّية وسيطة، كما أن إثيوبيا تمتلك دفاعات جوية لا يُستهان بها، وتجربة قتالية ممتدة. حتى في حالة اتخاذ القرار بالضربة، فإنّ الأثر المائي لن يكون فوريًا، لأن السد خرسانته كثيفة وموقعه يحصّنه، والخزان قد يفرغ ببطء، ما يعني أن الرهان على جدوى استراتيجية الضربة الوقائية صار محدودًا. في المقابل، من شأن أيّ مغامرة عسكرية أن تستفزّ ردّ فعل إثيوبيّ يُقوّض فرص الحلّ السلميّ، ويخلق فراغًا قد تستثمره أطراف دولية وإقليمية في موازين البحر الأحمر والقرن الأفريقي. إضافة إلى ذلك، قد يؤدي الانزلاق إلى صراع مفتوح إلى تعطيل شبكات الكهرباء، وإغراق آلاف السكان، والتسبب بموجات لجوء، ما يجعل الخيار العسكري محفوفًا بتبعات إنسانية وجيوسياسية ثقيلة.

لهذا، لا تبدو الحرب الخيار الأول أو حتى المحتمل في المرحلة الحالية، وإن ظلّت كإمكانية مطروحة ضمن قائمة سيناريوهات محدودة. الخيار الأرجح هو الاستمرار في التفاوض تحت الضغط الدوليّ وتدويل القضية بشكل ممنهج، إلى جانب تحفيز مشاريع التعاون الإقليمي، واستغلال نفوذ شركاء رئيسيين مثل الصين والولايات المتحدة لحثّ إثيوبيا على توقيع اتفاق تشغيل ملزم، ولو في حدّه الأدنى. قد تسهم وساطات خليجية أو أفريقية في رعاية حوار جديد يتجاوز منطق المكاسب الصفرية إلى نموذج شراكة مائية عادلة ومستدامة. في الوقت نفسه، تحتاج القاهرة إلى تنويع أدواتها، بين الدبلوماسية، والضغط القانوني، والتعاون الأمنيّ، والتكامل الاقتصادي، وتدعيم الأمن الغذائي والمائي محليًا، في مسعى لتأمين مصالحها دون انزلاق إلى مواجهات عسكرية مكلِفة وغير مضمونة النتائج.

أما أديس أبابا، وقد أصبحت تمتلك خزانًا ضخمًا ومصدرًا للطاقة، فإنّ مسؤوليتها مضاعفة في طمأنة الجيران وتحقيق توازن بين طموحات التنمية واحترام حقوق دول المصبّ. ستظلّ معركة السرديات حاضرة في كل خطاب، لكنّ الرهان الأذكى هو تحويل السد من مشروع سياديّ إثيوبيّ إلى منصة إقليمية للتعاون، تستفيد منها دول حوض النيل كافّة، وتؤسس لنموذج أفريقيّ قادر على التوفيق بين الحقّ في التنمية والحقّ في الحياة.

عرب 48

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب