مقالات

السويداء: ما بين مظاهر الإقطاعية والحركة العاميّة (3)

السويداء: ما بين مظاهر الإقطاعية والحركة العاميّة (3)

علي حبيب الله

كان للدولة العثمانية كبير دور في تعاظم نفوذ عائلة الأطرش وتمكينها على حساب عائلة حمدان المؤسِّسة، وذلك بعد تراجع نفوذ هذه الأخيرة في الجبل بعد أكثر من 150 سنة من مشيختها السياسية عليه…

(هذه المادة هي الثالثة من بين أربع مواد متّصلة بالسويداء وسيرة دروز جبل العرب في التاريخ الحديث، ننشرها تباعًا على موقع عرب 48).

بات جبل حوران منذ أواسط خمسينيّات القرن التاسع عشر يُعرف بـ”جبل الدروز”، لتغدو هوية الجبل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر متّصلة بدروزه الذين تمكّنوا فيه بعد متوالية هجراتهم إليه منذ أواخر القرن السابع عشر، والتي ظلّت قائمة حتى مطلع القرن العشرين. وكان أكثر ما أكسب جبل حوران هوية جماعية – مذهبية متصلة بالدروز ليس تسميته عليهم منذ خمسينيّات القرن التاسع عشر فحسب، إنما الاستقلال الذاتي الذي منحه الوالي العثماني في دمشق رشيد باشا للدروز في حوران سنة 1866 (1)، ممّا مثّل اعترافًا عثمانيًّا ضمنيًّا بالجبل بصفته جبل الدروز. غير أنّ تحوّلات كبرى على مستوى السويداء والجبل عمومًا بدأت تأخذ منحىً مصيريًّا في هذه المرحلة لناحية تاريخ الجبل ودروزه فيه.

صاحب الحَميّة

كنّا قد ذكرنا في مقالة سابقة من هذه السلسلة أنّ الطرشان (عائلة الأطرش) أطاحوا بالحمدانيّين (عائلة حمدان) الأسرة المؤسِّسة للوجود الدرزي في السويداء وجبل حوران، والتي بقيت على رأس زعامته حتى خمسينيّات القرن التاسع عشر. وقد أطاح الطرشان بالحمدانيّين على مرحلتين: الأولى مع حادثة “أمواس الحلاقة” سنة 1859، حيث هاجم الطرشان على أثرها الحمدانيّين وطردوهم من قرية عرَى، إحدى أبرز معاقل مشيخة آل حمدان (2). والثانية بعد عشر سنوات، في سنة 1869، حيث هاجم الطرشان بزعامة إسماعيل الأطرش السويداء، أهم وآخر معقل طُرد منه آل حمدان، ليُطاح مع مطلع سبعينيّات القرن بمشيختهم على الجبل بلا رجعة.

تعود جذور عائلة الأطرش إلى الجد عبد الغفّار الأطرش، وقد قدِم هذا الأخير من الجبل الأعلى بالقرب من مدينة حلب. وصل عبد الغفّار في أواخر القرن الثامن عشر قرية “برمانا” في جبل لبنان، ثم نزح أحد أبنائه منها إلى قرية “بقعسم” في منطقة إقليم البلان، ومن هناك انتقل إلى قرية “مرجانة” في حوران (3). ومن مفارقات التاريخ أنّ الزعيم وشيخ مشايخ حوران واكد الحمدان هو من منح محمد الأطرش والد إسماعيل إذنًا للنزول والإقامة في قرية “القريّا” معقل عائلة الطرشان، بعد تنقّله في حوران بين قرى “عريقة” ومنها إلى “العفينة” ثم إلى قرية “رساس”. ويُذكر أنّ محمدًا كان أصمًّا لا يسمع فُلُقّب بـ”الأطرش”، ومن هنا جاء اسم العائلة. وبعد محمد جاء ابنه إسماعيل الذي سيرتبط اسمه بتأسيس نفوذ الطرشان في القريّا وجبل حوران عمومًا بعد إطاحته بمشيخة آل حمدان وزعامتها السياسية على الجبل.

كان للدولة العثمانية كبير دور في تعاظم نفوذ عائلة الأطرش وتمكينها على حساب عائلة حمدان المؤسِّسة، وذلك بعد تراجع نفوذ هذه الأخيرة في الجبل بعد أكثر من 150 سنة من مشيختها السياسية عليه. وعن عوامل انحصار نفوذ الحمدانيّين تقول صاحبة كتاب “انتفاضات الدروز” إنّ أسباب ضعف الحمدانيّين تعود إلى التنافس الداخلي بين “بيت عرَى” و”بيت السويداء” حول منصب “الشيخ الأوّل”، وانقسامهم بحيث لم يعد بإمكانهم المحافظة على وحدة الجماعة إلى جانبهم، إضافة إلى عزل أنفسهم عن الجماعة (4).

استغلّ إسماعيل الأطرش غضب فلاحي جبل الدروز على الزعامة الحمدانية، ووضع نفسه في طليعة الغاضبين من الوضع، كما بادر بنفسه إلى حماية التجّار الذين اعتاد بدو حوران نهبهم، بينما لم يكن واكد الحمدان زعيم الحمدانيّين في ستينيّات القرن التاسع عشر يعير ذلك اهتمامًا، ما رجّح كفّة الطرشان اجتماعيًّا وسياسيًّا في الجبل على حساب الحمدانيّين حتى إسقاطهم. وكان ذلك بالتنسيق مع الوالي العثماني في دمشق، إلى أن صار يُطلق دروز الجبل على إسماعيل الأطرش لقب “صاحب الغيرة والحَميّة” (5).

قصور البازلت السمراء

توفي إسماعيل الأطرش سنة 1869، وخلفه ابنه إبراهيم الذي غدا شيخ الجبل الأوّل. ولم يكن وصول الطرشان مجرّد استبدال لمشيخة سياسية بأخرى على الجبل، لأنّ إبراهيم الأطرش صار في سبعينيّات القرن التاسع عشر موظفًا عثمانيًّا لا مجرّد زعيم محلّي. وفي مطلع ثمانينيّات القرن التاسع عشر رُفع إلى منصب قائمقام على الجبل، وأصبح بمثابة متسلّم أوكلت إليه مهمّة جمع الضرائب في الجبل، إلى حد صار فيه إبراهيم الأطرش موظفًا عثمانيًّا أكثر منه زعيمًا درزيًّا محلّيًا مع اعتماره الطربوش الأحمر (6). كما أُلحق الجبل نفسه بعد فصله عن متصرّف حوران بالوالي العثماني في دمشق، ما يعكس شكل التحوّلات الإدارية والسياسية في علاقة جبل الدروز بالدولة العثمانية مع إطلاق هذه الأخيرة إصلاحاتها المعروفة بـ”التنظيمات”.

وقد تكثّفت هذه التحوّلات مع صعود عائلة الأطرش التي انقسمت على نفسها بين إبراهيم الأطرش المتنفّذ العثماني، وبين أخيه شبلي الأطرش الذي ظلّ أكثر ارتباطًا بدرزيّته وتقاليد الجبل المحليّة، لا بل خاصم أخاه إبراهيم، وعارض العثمانيين كذلك (7). ما يعني أنّ دروز جبل السويداء لم ولن يكونوا يومًا كتلة اجتماعية – سياسية موحّدة ومتراصّة.

كما جرت عملية تطويع جغرافيا جبل الدروز أو ما يمكن تسميته “عثمنة الجبل”، إذ بنى السلطان العثماني في هذه المرحلة أوّل قلعة عثمانية في منطقة “المزرعة”، وقلعة أخرى أصغر منها بالقرب من قرية “عرى” (8). ولم تقف التحوّلات عند الجانبين الإداري والسياسي، إنما ترتّب عليها تحوّلات اجتماعية شكّلت منعطفًا في مستقبل دروز الجبل ومصيرهم. فقد تنفّذ الطرشان، وتحول أبناء إسماعيل الأطرش المؤسس – وكانوا ثمانية – إلى عائلة ملّاكة للأرض “شبه إقطاعية”، تحكّمت في تجارة قمح حوران الذي قيل إنّه وحده خلّص أبناء جبل حوران من الخدمة العسكرية الإلزامية في ثمانينيّات القرن التاسع عشر. لتغدو الأطرش الأكثر ثراءً في الجبل إلى حدّ قيل إنّ البغل كان ينهار تحت حمل الذهب الموجود بحوزتهم (9).

اتّسع التوطّن الدرزي على نطاق أوسع في جغرافيا جبل حوران ما بين ستينيّات وثمانينيّات القرن التاسع عشر، خصوصًا بعد الهجرة الدرزية من جبل لبنان على أثر الحرب الأهليّة فيه سنة 1860 إلى جبل حوران. كما توزّع أبناء إسماعيل الأطرش الثمانية على قرى محيطة بقريتهم الدرزية الأم “القريّا” ليشيّدوا في هذه القرى قصورهم البازلتية المشرئبّة من الحجر في الجبل، ما جسّد هوّة اجتماعية – طبقية في جبل الدروز بين زعمائه وفلاّحيه الدروز، حتى على مستوى مظاهر الزي واللباس، إذ احتكر الزعماء الحق في احتذاء الحذاء الأحمر “الصرماية الحلبيّة” دون سواهم (10)، ما مهّد لأهم حركة اجتماعية – شعبية ثورية في الجبل عُرفت باسم “حركة العاميّة”.

الحركة العاميّة 1889-1890

اتّصلت حركة العاميّة (1889-1890) بفلاّحي جبل الدروز على مشايخهم من آل الأطرش تحديدًا، لتكون أوّل ثورة فلاحين هزّت جبل الدروز. و”العاميّة” تعبير مشتقّ من عامة الشعب، وقد انبثقت عاميّة جبل الدروز من “عاميّة” جبل لبنان التي ظهرت في أحداث كسروان سنة 1858. لا بل، وبحسب صاحبة كتاب “انتفاضات جبل الدروز”، يمكن اعتبار “عاميّة جبل الدروز” صورة مسبقة عن “عاميّة جبل لبنان”، خاصة وأنّ الأغلبية الساحقة من السكان الذين استوطنوا جنوب جبل الدروز، حيث مركز الحركة العاميّة، هم من الوافدين الذين جاؤوا من جبل لبنان بعد أحداث سنة 1860 (11).

يعود حراك الحركة العاميّة إلى ما قبل انتفاضتها سنة 1889، إلى أحداث سنة 1880 عندما اشتبك الدروز مع بدو اللجاة في الجبل، ما دفع الجنود الأتراك حينها للتدخّل إلى جانب البدو وفتح النار على الدروز، وقتل نحو 70 درزيًّا منهم (12). ولاحقًا، لما سطا بدو اللجاة سنة 1888 على قافلة قمح درزية تحمل 60 حِملًا وقتلوا اثنين من مرافقيها، طفح كيل فلاّحي دروز الجبل، فكانت شرارة الانتفاضة العاميّة.

لم تعد الحركة العاميّة احتجاجًا على انعدام الأمن في الطرقات ونزاعاتهم مع البدو، إنما تحوّلت إلى انتفاضة على مرحلة برمّتها، وضدّ العثمانيين ونفوذ الطرشان شبه الإقطاعي في الجبل. إذ وصل الاحتقان من سياسة إبراهيم الأطرش إلى حدّ غليان فلاّحي المقرن القبلي (الجنوبي) الدروز بعد أن ضاقوا ذرعًا بالامتيازات الإقطاعية التي منحها العثمانيون لآل الأطرش إلى حدّ حوّل فيه آل الأطرش بعض فلاّحي القرى في الجبل أقنانًا. وأكثر من ذلك، فقد اتّبع الطرشان المتنفّذون سياسة الطرد والترحيل لبعض فلاّحي القرى من أراضيهم، فضلًا عن دور بعض العائلات الدرزية المنافسة لنفوذ آل الأطرش في الجبل مثل آل عامر (13).

في شهر نيسان/أبريل 1889 عقد فلاّحو أربع قرى ثائرة في جبل السويداء، هي: عرمان وملّح ومتان والهوّيا اجتماعًا وأصدروا وثيقة احتجاج ضدّ التعدّيات والامتيازات الإقطاعية التي تمتع بها الطرشان في الجبل. وممّا بيّنته الوثيقة وقتها، التحاق بعض مسيحيّي جبل الحوران بالحركة العاميّة ومطالبها، فكان المدعو نعمان أبو غانم وأصله من كفر نبوخ في جبل لبنان واحدًا من الاثنين اللذين نصّا الوثيقة في حينه (14).

اندلعت الاشتباكات المسلّحة في ذلك العام بين العاميّة وبين إبراهيم الأطرش قائمقام الجبل والشيوخ المرتبطين بسلطته، وذلك بعد أن رفض إبراهيم مطالب الفلاّحين. ما استدعى تدخّل دمشق على خطّ المواجهة، وكذلك القناصل الأجانب فيها. فكانت هذه أوّل مرّة تتدخّل فيها دمشق والسلطات العثمانية في شؤون وخلافات دروز حوران الداخلية. ولمّا تلاحقت الأحداث وازدادت تعقيدًا سنة 1889-1890، عمّت أخبار جبل الدروز بلاد الشام كلّها، ما استدعى تدخّل وفود من دروز فلسطين وجبل لبنان من أجل التوسّط والمصالحة (15). ممّا يبيّن لنا السيرة التاريخية لتفاعل دروز فلسطين في حيفا والجليل مع دروز جبل الدروز في حوران وقضاياهم. ولم تكن هذه المرّة الأخيرة التي تنشط فيها حركة وفود دروز بلاد الشام من أجل الوساطة والمصالحة أو المؤازرة فيما بينها، بصرف النظر عن سياقات تدخل هذه الوفود في التاريخ الحديث.

وقد نجحت جهود الوساطة في البداية، وانصاع زعماء آل الأطرش المتنفّذون ومن معهم من شيوخ ومنتفعين في الجبل لمطالب الفلاّحين، خصوصًا في قرى المقرن القبلي، حيث استطاعت هذه الأخيرة سنة 1890 انتزاع سيادات الطرشان التقليدية على قراهم، كما انتزعوا ثُمن الأرض الزراعية في كل قرية من قراهم، أي نصف ربع الأرض الزراعية التي كان يمتلكها الشيخ أو الزعيم شبه الإقطاعي، كما فرضوا إقامة “لجان أهلية – محلية” تتكفّل بإدارة شؤون كل قرية.

إلّا أنّ تدخّل السلطات العثمانية العسكري في الأزمة قد غيّر من مسارها، بعد أن قاد ممدوح باشا متصرّف حوران حملة عسكرية بالتنسيق مع إبراهيم الأطرش كان الغرض منها ضبط النظام في جبل السويداء وإحكام السيطرة العثمانية عليه أكثر ممّا كان تدخّلًا لصالح طرف ضدّ آخر. فكانت معركة “الشقراوية” الأكثر دموية ومأساوية في ذاكرة الحركة العاميّة، والتي راح ضحيّتها المئات بين قتيل وجريح من دروز العاميّة، بعد احتلال ممدوح باشا السويداء وهدم ثلاثة أرباعها على رؤوس أهلها (16).

لم تبلغ حركة العاميّة في النهاية إلا واحدًا من أهدافها: زرع الخوف في قلوب شيوخ وإقطاعيّي الأرض من الطرشان في القرى الأربع الثائرة بالأخص. غير أنّ السلطات العثمانية ظلّت على موقفها الداعم لسلطة إبراهيم الأطرش وزعامته على الجبل. ومع ذلك أسّست حركة العاميّة في جبل السويداء لمرحلة جديدة من تاريخ الدروز فيه، على المستوى الداخلي والخارجي، وخصوصًا بعد أن صار سؤال السلطة العثمانية ودورها في مصير الجبل أكثر تماسًا ومساسًا بالنسبة للدروز فيه، والذين ما إن تجاوزوا العاميّة وأيامها الدامية حتى كانوا على موعد مع ما عُرف بعد سنوات بـ”الحملة الحورانية” على الجبل.

إحالات:

(1) شيبلر، برجيت، انتفاضات جبل الدروز-حوران: من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال 1850-1949، دار النهار والمعهد الألماني للأبحاث الشرقية، ط1، بيروت، ص97.

(2) راجع: حبيب الله، علي، السويداء: دروز حوران والرحلة الأولى إلى نجران (1)، موقع عرب 48، نشرت في تاريخ: 7/8/2025.

(3) أبو راشد، حنا، جبل الدروز – سلطان باشا الأطرش، مكتبة زيدان العمومية، ط1، مصر 1925، ص51.

(4) شيبلر، برجيت، المرجع السابق، ص98.

(5) العيسمي، شبلي ومجموعة مؤلفين، محافظة السويداء، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1962، ص56.

(6) أبو راشد، حنا، المرجع السابق، ص101.

(7) شيبلر، برجيت، المرجع السابق، ص109.

(8) المرجع السابق، ص108.

(9) حنّا، عبد الله، العاميّة والانتفاضة الفلّاحية في جبل حوران، ط1، دمشق، 1990، ص355.

(10) المرجع السابق، ص191.

(11) شيبلر، برجيت، المرجع السابق، ص123.

(12) المرجع السابق، ص123.

(13) المرجع السابق، ص124-125.

(14) حنّا، عبد الله، العاميّة والانتفاضة الفلاحية في جبل حوران، ص194.

(15) شيبلر، برجيت، المرجع السابق، ص132.

(16) المرجع السابق، ص136.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب