مقالات

إيران: النظام والبرنامج النووي

إيران: النظام والبرنامج النووي

ناصر السيد النور

بعد أربعة عقود من اندلاع الثورة الإيرانية، تصل المواجهة المفترضة بين الولايات المتحدة وأمريكا إلى نقطة التصادم المباشر، منذ أن انطلقت الحرب بينها وبين إسرائيل في الثالث عشر من شهر يونيو، وهي حرب بالمعايير الجيوسياسية ربما تصعد حدة الأخطار المحتملة لانتشار الصراع في منطقة ظلت دوما ساحة للحروب والتنافس الدولي، لأهميتها في أكثر من صعيد تنافسي عالمي، وهو مفهوم إن لم يكن بالمعنى العسكري، فعلى الأقل بمنطق المصالح الاقتصادية، في بؤرة شديدة الأثر على اقتصاد العالم الغربي، وتحظى كذلك بأهمية في السياسية الخارجية للولايات المتحدة، ومنظومة الناتو تحديدا.
بدخول الولايات المتحدة الحرب وضربها مواقع المفاعلات النووية في نطنز وفوردو وأصفهان، تكون قد صعّدت المواجهة إلى أقصى مدى عسكري ضد النظام الإيراني، الذي سيواجه قوة عسكرية مفرطة في شدة تدميرها، تنطلق دون غطاء شرعي للحرب مساندة لإسرائيل. وما لا يحتاج لإعادة النظر في سبب دخول الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس ترامب، متجاوزا الإذن من الكونغرس أعلى هيئة تشريعية مستخدما قراره الشخصي هو، مساندة إسرائيل وإضعاف برنامج إيران النووي لصالح إسرائيل أيضا، وظل دخول إيران للنادي النووي هاجسا لكل الإدارات الأمريكية والقوى الغربية. وإيران بما تمثله من بعد عقائدي في المنطقة المحيطة والسياسات العربية، على وجه التحديد، أصبحت بقوتها العسكرية المتصاعدة بؤرة توتر بما يتجاوز الروابط الدينية، إلى التهديد المباشر لنظم وعروش في منطقة تجثم فيها القواعد الأمريكية.

المصير الذي ينتظر إيران والمنطقة محكوم بمدى تمدد الحرب وما تجره من أزمات متلاحقة قد لا تحتملها أوضاع المنطقة الهشة

تحول السياسات الأمريكية تجاه إيران في سياق التوتر، الذي شابها عقب ثورتها الإسلامية ـ بعد أن كانت حليفا لنظام الشاه ـ إلى عداء مفتوح بما يؤكد قول عراب الدبلوماسية الأسبق هنري كيسنجر موصيا بألا تعتمد العلاقات بين البلدين على الجوانب الشخصية، بل على حقائق الواقع الاستراتيجية والاقتصادية. وهو ما لم يحدث إلا في أضيق حدود، وبينما ظلت علاقات البلدين باردة ولا يضيف طرفها الآخر (الأمريكي) إلا مزيدا من العقوبات التي أنهكت اقتصاد إيران المعتمد بشكل رئيس على صادرات النفط المقيدة بالعقوبات. وما أعقب الضربة الأمريكية من تصريحات أقرب إلى الهواجس حتى في الداخل الأمريكي من ردة الفعل الإيراني، الذي لن يكون ضربات موجهة ضد الأراضي الأمريكية بحكم الجغرافيا، أو القدرة العسكرية والتقنية ولكن بما سيتخذه من إجراءات في المنطقة ذات الحساسية العالية، ضد سياسات الولايات المتحدة وخطر تعرض مواطنيها لمخاطر في المنطقة، وقد قامت منذ أيام بإجلاء طواقمها الدبلوماسية من عدة دول في المنطقة. فالتقديرات الأمنية على محدودية توقعاتها تضع احتمال انفلات موجات الغضب الذي لا يمكن التنبؤ بمدى انتشاره ومكان انفجاره وطبيعة أهدافه.
ومنذ أن انطلقت الاعتداءات الإسرائيلية وبكثافة الاستهداف للقوة التدميرية لإيران واغتيال قيادات بارزة في الحرس الثوري، هددت إسرائيل باغتيال رأس النظام المرشد الأعلى علي خامنئي وبدأ التفكير في تغيير النظام برمته، أو هكذا بدا المشهد قابلا للتغيير بعد فراغ الفضاء السيادي الإيراني وضرب عمقه دون تصدٍ يذكر. وتغيير النظام الإيراني أمر مرغوب فيه من دول المنطقة، لما يمثله من نفوذ ممتد في بلدان المنطقة وعواصمها، وما يثيره من قلق بوجوده ضمن منظومات اجتماعية وسياسية مزعزعة في محيط يغلي بالأزمات، ولكن التغيير بالنهج الذي تصرح به الإدارة الأمريكية يخشى من نتائجه، أكثر من سقوط النظام نفسه الذي ستتداعى عنه مصائر تخشاها قيادات المنطقة أكثر، وتدرك مخاطرها في مدى قريب ينذر بالتدهور أكثر من تصورات منطقة خالية من نظام نووي يعلن عن أهدافه الاستراتيجية. وبما أن معركة الردع التي تقودها الولايات المتحدة ضربا لبرنامج إيران النووي، أو مساندة لإسرائيل ستقود إلى التساؤل حول ما هو مقرر ومرسوم له في السياسات الاستراتيجية البعيدة التي تعمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، الذي ترددت كثيرا محاولات رسمه بما يتوافق مع السياسات الأمريكية وطموح إسرائيل، مع ضعف للموقف العربي أو انسحابه من دائرة الفعل. ومع أن هذه السيناريوهات مشكوك في جدواها العملية، حتى لو خرجت إيران من منظومة الشرق الأوسط بتكوينه التقليدي. فالمواجهة بين إسرائيل وإيران ما زالت مستمرة على نحو لم يكن متوقعا، خاصا من الجانب الإيراني الذي أظهرت قدراته الصاروخية مدى استطاع فيه الوصول إلى العمق الإسرائيلي.
ولكن هل أخطأ النظام الإيراني في تقديراته العسكرية، أم سترمي به هواجسه العقائدية إلى نهايته؟ إن جزءا من المشكلات التي تحيط بالنظام، سياساته الخارجية وطبيعة تركيبة منظومة مؤسساته الداخلية، ما جعل تقديراته العقائدية تسبق أولويات السياسة، وحقائق القوة ليجد نفسه معزولا في مواجهة قوة بحجم الولايات المتحدة. ومن ثم تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة من التدخل لتنفيذ سياساته الإقليمية إلى حصار مطبق في دائرة سيادته المنتهكة، ونظام يوشك على التهاوي من الداخل والخارج، إلا أن الخطر الداهم الذي يواجه النظام من الخارج، أمريكيا وإسرائيليا، قد يعطي شرعية لبقائه ولو بدوافع ودواع وطنية. وإذا كان البرنامج النووي الإيراني الذي هو في طور التخصيب، وعلى ما شهده من حدة تجاذب بين وكالة الطاقة الذرية والدول الغربية، التي أكدت عدم السماح لها بامتلاك للسلاح «الخطير»، الذي تقف وراءه سياسات تهدد إسرائيل دولة وشعبا كما تتذرع؛ فإن الضربات الأمريكية لمشروعها النووي، يدفع بها إلى عناد نووي آخر تستمر فيه إلى ما تبقى لها من إمكانيات توسع في مشروعها النووي الطموح. ولأن النظام وضع سياساته وأهدافه الاستراتيجية وراء سلاح طالما استخدمته القوى العظمى في الردع والتوازن، يكون من الصعب عليه التراجع عنه، بل يطمح لامتلاكه بما يحقق له ما لم يحققه بالسلاح التقليدي، كلاعب يخشى منه أكثر من الخشية عليه بموازين الرعب النووي. وبهذه الضربات للمواقع الثلاثة وتأكيد الرئيس الأمريكي على اكتمال تدميرها إيذانا بانتهاء البرنامج النووي الإيراني، ومع نفي طهران لهذه المزاعم يظل المشروع النووي مهددا قائما للنظام برمته.
ولا تغيب القضية الفلسطينية التي لم تعد ضمن أولوية أجندات القرارات العربية، التي شكلت أجندة رئيسية في سياسات إيران وتحرير القدس الذي حشدت له الشعارات، وكونت الفيالق على الأقل في رمزية أذرعها في المنطقة، حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. وضرب العمق الإسرائيلي بهذه الكثافة، وعلى مدى زمني قياسي، قد يعيد الشارع العربي لا الأنظمة إلى قضية العرب المركزية، ولو في أضيق حدود تسمح بالتعبير. فالتعاطف الذي يبديه العالم إنسانيا مع واقع غزة وحصارها، وإبادة سكانها وشن إسرائيل لحرب خارج حدودها، يضع الولايات المتحدة في وضع حرج إزاء سياسات رئيسها الجامح بلا حدود قد يكون قابلا للتصعيد على أكثر من مستوى. ولو أن الولايات المتحدة تتصرف منفردة في نظام عالمي مختلة موازينه ولا تملك مؤسساته الأممية إلا أن تعبر بالطريقة التي ندد بها الأمين العام للأمم المتحدة، واصفا الضربات الأمريكية بالتصعيد الخطير. فالمصير الذي ينتظر إيران والمنطقة محكوم بمدى تمدد الحرب وما تجره من أزمات متلاحقة قد لا تحتملها أوضاع المنطقة الهشة.
كاتب سوداني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب