تحقيقات وتقارير

كرونولوجيا احتجاجات الشباب المغربي: من دعوة افتراضية إلى غليان الشارع

كرونولوجيا احتجاجات الشباب المغربي: من دعوة افتراضية إلى غليان الشارع

الطاهر الطويل

أعادت النقاش حول حدود «الحق في التظاهر»

الرباط ـ : إلى حدود مساء الخميس الأخير، تواصلت احتجاجات الشباب في المغرب لليوم السادس، وكانت انطلاقتها منذ مساء السبت 27 أيلول/سبتمبر، بدعوة جماعة أطلقت على نفسها «جيل زِدْ 212» عبر تطبيق «ديسكورد»، حيث عاشت مدن مغربية عديدة على إيقاع مطالب اجتماعية. في البداية، ظهرت الدعوة وكأنها مجرّد مبادرة رقمية عابرة، تحولت إلى حراك شبابي أعاد إلى الواجهة أسئلة الصحة والتعليم والتشغيل، وأشعل نقاشًا واسعًا حول الحريات العامة وحدود المقاربة الأمنية، كما كشف عن أزمة ثقة متفاقمة بين جزء كبير من الشباب من جهة، والحكومة والأحزاب السياسية من جهة ثانية.

شرارة البداية

أكد خبراء أن الحكومة لم تلتقط الإشارات في السابق، لأن احتجاجات اليوم لما يسمى «جيل زِد» ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لعام 2024 وتحديدا شهر تشرين الأول/أكتوبر، حين خرج طلاب كليات الطب والصيدلة إلى الشارع. ورفعوا شعارات تطالب بتحسين ظروف الدراسة وضمان الحريات الطلابية. وشهدت هذه الحركة مقاطعة للدروس ومسيرات في الرباط ومدن جامعية أخرى، وأدّت إلى محاكمات واعتقالات قبل أن تُبرَّأ مجموعة من الطلبة لاحقًا، لتؤكد بذلك قدرة الجيل الجديد على خلق زخم احتجاجي من داخل الفضاء الجامعي.
أما الوصول إلى هذا الوضع الحالي، فقد جاء في نهاية أيلول/سبتمبر مع انطلاق ما عُرف بـ «احتجاجات جيل زِدْ»، وما بدأ بدعوة في العالم الافتراضي انتهى بموجة واسعة في الواقع، وخرج آلاف الشباب في مدن عديدة مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة وأغادير ووجدة وإنزكان وغيرها، للاحتجاج على تردي الخدمات العمومية في الصحة والتعليم وارتفاع معدلات البطالة وغلاء المعيشة.
وإذا كانت الدعوات قد اتخذت طابعا رقميا افتراضيا بحكم أنها انطلقت أساسًا من وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الساحات العامة والشوارع شكلت مسرحًا للتجمهر. سرعان ما واجه المحتجون تدخلات أمنية قوية أسفرت عن مئات الاعتقالات، وعن إصابات في صفوف المدنيين ورجال الأمن. كما سُجّلت لأول مرة ثلاث وفيات في سياق هذه التحركات، ما زاد من حدة التوتر.
هذه الاحتجاجات المستجدة، الممهورة ببصمة «جيل زد»، حملت عنوانًا واضحًا: «الاحتجاج السلمي من أجل الحقوق الاجتماعية». كما كشفت عن واقع اجتماعي يعيشه الشباب المغربي المتمثل في نسبة بطالة مرتفعة تفوق 35 في المئة في صفوفهم، وضعف الثقة في قدرة المؤسسات على الاستجابة لمطالبهم. ومن جهة أخرى، أبرزت قدرة الجيل على استخدام الفضاء الرقمي كأداة للتنظيم والتعبئة، واستعدادهم لمزج المطالب الاجتماعية بالسياسية والأخلاقية. ورغم أن الدولة أعلنت عن استعدادها للحوار، فإن المطالب الجوهرية المتعلقة بتحسين التعليم والصحة وضمان العدالة الاجتماعية ما زالت عالقة، وفق المحتجين.
يمكن القول إن الكرونولوجيا الاحتجاجية الحالية في المغرب أعلنت عن دخول جيل جديد إلى الفضاء السياسي والاجتماعي بأساليب مختلفة، تجمع بين الاحتجاج الميداني والتواصل الرقمي، بين المطالب الحياتية المباشرة والشعارات ذات البعد الوطني والدولي.

احتجاجات ومواجهات وتخريب

كانت بداية الاحتجاجات مساء السبت 27 أيلول/سبتمبر 2025، حيث خرج مئات الشباب في مدن كالرباط والدار البيضاء وطنجة وأغادير ووجدة وفاس والقنيطرة وغيرها في مسيرات غلب عليها الطابع السلمي، رافعين شعارات اجتماعية، وشهدت تدخلات أمنية من أجل تفريق المتظاهرين، انتهت بعدد من الاعتقالات.
الأحد 28 أيلول/سبتمبر، توسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل مدناً جديدة، حيث ارتفعت أعداد المشاركين من فئات عمرية شابة تطالب بتجويد التعليم العمومي وضمان حق العلاج والتشغيل.
ومع حلول الاثنين 29 أيلول/سبتمبر، سجلت مواجهات متفرقة بين محتجين وقوات الأمن، خاصة في الرباط والدار البيضاء، بعد ما حاولت السلطات تفريق تجمهرات اعتبرتها «غير قانونية» لغياب الترخيص المسبق.
الثلاثاء 30 أيلول/سبتمبر، بلغ التوتر ذروته مع تسجيل أعمال تخريب وإضرام نيران في سيارات ومرافق عمومية، خصوصاً في مدن إنزكان وأيت عميرة ووجدة وأغادير. كما حاول بعض المحتجين، ومعظمهم من المراهقين، توسيع دائرة التخريب وعرقلة السير العمومي، ما أدى إلى اعتقالات واسعة وإصابات في صفوف الأمن والمتظاهرين.
شهدت ليلة الأربعاء 1 تشرين الأول/أكتوبر أخطر تطورات الاحتجاجات، إذ أعلنت السلطات عن مقتل شخصين في مدينة القليعة (جنوب أغادير) بعدما حاولوا اقتحام مركز للدرك والاستيلاء على السلاح والذخيرة. وأكدت السلطات أن عناصرها استعملوا أسلحتهم في «إطار الدفاع الشرعي عن النفس». بالتوازي، أُصيب أكثر من مئتين وستين من أفراد الأمن خلال موجة عنف وصفت بالأعنف منذ بداية الحراك.
في اليوم الموالي، الخميس 2 تشرين الأول/أكتوبر، ووسط استمرار التوتر، خرج رئيس الحكومة عزيز أخنوش ليعلن عن استعداد حكومته لفتح حوار مع المحتجين، مؤكداً تفهّمه لمطالبهم الاجتماعية، في خطوة رآها مراقبون محاولة لاحتواء الغضب الشعبي. ورغم ذلك، واصل الشباب احتجاجاتهم في مدن عديدة لليلة السادسة على التوالي، فيما تحدّثت تقارير عن ارتفاع حصيلة القتلى إلى ثلاثة، إضافة إلى مئات الموقوفين.
مع نهاية الأسبوع، بدا واضحاً أن الاحتجاجات لم تعد حدثاً عابراً، بل تحوّلت إلى نقاش وطني واسع على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام. بينما استمرت السلطات في التأكيد على أن قراراتها «محكومة بضرورة التوازن بين الحق في التظاهر السلمي وحفظ الأمن والاستقرار»، وشددت منظمات حقوقية على رفضها لما وصفته بـ«القمع والعنف»، مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين.
في المقابل، لم يخفِ الرأي العام تخوفه من مشاهد التخريب التي رافقت بعض المسيرات، إذ شبّهها البعض بأحداث الشغب في مباريات كرة القدم، بينما رأى آخرون أنها «محاولة لركوب موجة المطالب الاجتماعية وتحويلها إلى فوضى».

الموقف الرسمي

وزارة الداخلية أعلنت بوضوح أن السلطات العمومية منعت هذه التجمعات، باعتبارها غير مؤطرة قانونيًا ومجهولة المصدر. الناطق الرسمي باسم الوزارة، رشيد الخلفي، أوضح أن قرار المنع «محكوم بالتوازن بين حق المواطنين في التظاهر السلمي (الفصل 29 من الدستور)، وبين حق المجتمع في الأمن والاستقرار (الفصل 21 من الدستور)».
وفي تطور لاحق، أصدرت النيابة العامة بيانًا ذكرت فيه أنها فتحت تحقيقات قضائية بشأن أحداث العنف والتخريب، مؤكدة على ضرورة «تطبيق القانون بحزم» ضد المتورطين في الاعتداء على الممتلكات ومحاولات اقتحام المؤسسات الأمنية. لكنها شددت في المقابل على أن «الحق في التظاهر السلمي مكفول بالدستور والقانون، شرط احترام الضوابط القانونية.

البرلمان يدخل على الخط

تزامنًا مع الاحتجاجات، عقدت لجنة القطاعات الاجتماعية في مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان المغربي) اجتماعًا مطولًا استمر إلى ساعة متأخرة من الليل، بحضور وزير الصحة، ونقل مباشرة على الهواء عبر منصات التواصل الاجتماعي. وخصص الاجتماع لمناقشة الوضعية الراهنة للمنظومة الصحية والتدابير الحكومية لتسريع تنزيل إصلاحها وضمان حق المواطنين في العلاج. هذا النقاش البرلماني بدا وكأنه رد مؤسساتي مباشر على أحد أبرز أسباب الاحتجاجات، لكن النقاش الشعبي ظل يطرح سؤالًا أوسع: هل يكفي التشخيص والوعود أمام أزمة متراكمة منذ سنوات؟

ردود فعل حقوقية

تحركت العديد من المنظمات والجمعيات الحقوقية وحذرت جميعها من «القمع» و«العنف الأمني»، ودعت الحكومة إلى «الاحترام الصارم للحقوق والحريات الأساسية» والتعامل بانفتاح مع المطالب الشبابية. وشددت على ضرورة تنظيم المحتجين أنفسهم في أطر معلنة لحماية صدقية حركتهم من أي استغلال.
كما عبّرت عن تضامنها مع «المطالب الاجتماعية العادلة والمشروعة»، وأدانت ما سمته «كل أشكال القمع والعنف ومصادرة الحق في الاحتجاج السلمي»، مطالبة بإطلاق سراح كافة المعتقلين ووقف المتابعات القضائية.
وفي هذا الصدد، دعا «المجلس الوطني لحقوق الإنسان» (مؤسسة رسمية) إلى ضرورة ضمان الحق في التظاهر السلمي باعتباره حقًا دستوريًا ومكسبًا ديمقراطيًا، مشددًا على أهمية فتح تحقيقات عاجلة في حالات الوفاة والإصابات التي وقعت خلال الاحتجاجات الشبابية الأخيرة في عدد من المدن المغربية، لا سيما في «القليعة» التي شهدت وفاة ثلاثة أشخاص وإصابات في صفوف المحتجين والقوات العمومية.
وأكد في تقرير صدر الخميس 2 تشرين الأول/أكتوبر، متضمنًا خلاصات وتوصيات أولية عن مستجدات الأحداث، أن الاحتجاجات التي انطلقت في سياق سلمي، شهدت لاحقًا بعض الانزلاقات، سواء من خلال تدخلات أمنية اعتبرها المجلس غير ملائمة في بعض الحالات، أو من خلال مظاهر عنف خطيرة ارتكبها بعض المحتجين، بما فيها التخريب والرشق بالحجارة وإضرام النار في ممتلكات عمومية وخاصة.
وأضاف التقرير الذي تلقّت «القدس العربي» نسخة منه، أن «المجلس الوطني لحقوق الإنسان» رصد عددًا من التعبيرات والمحتويات المنشورة على منصات مثل «ديسكورد» وشبكات التواصل الاجتماعي، حمل بعضها دعوات صريحة وخطيرة للعنف، والتحريض على إحراق مؤسسات عمومية واستهداف مساكن مسؤولين، بل والترويج لخطابات التصفية الجسدية، بالإضافة إلى المساس الصريح بكرامة مواطنين ومواطنات أعربوا عن رفضهم للعنف أو لعدم مشاركتهم في الاحتجاجات. وأبرز أن العديد من هذه الدعوات صادرة من حسابات مجهولة أو حديثة الإنشاء، بعضها مرتبط بدول أجنبية.
أما منظمة «ترانسبرانسي ـ المغرب» فقالت إنها تدين ما أسمته «الترهيب» الذي تعاملت به السلطات العمومية مع الاحتجاجات السلمية للشباب، وطالبت بإطلاق سراح المعتقلين كافة، بدون قيد أو شرط. كما طالبت بضبط «البلطجية» التي تندس بينهم لشيطنتهم وتبرير منعهم من الاحتجاج السلمي أو اعتقالهم.
وذكرت المنظمة في بيان اطلعت عليه «القدس العربي»، أن «جيل زِد» فاجأ السلطات العمومية كما فاجأ العديد من الملاحظين باحتجاجاته السلمية المستمرة منذ يوم 27 أيلول/سبتمبر، معبّرًا عن مطالب مشروعة يضمنها الدستور المغربي والمواثيق الأممية المصادق عليها من طرف المغرب المتمثلة في الحق في خدمات عمومية جيدة في قطاعات الصحة والتعليم والتشغيل والسكن اللائق ومطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد. إلا أن السلطات العمومية، تلقائيا كعادتها ـ يضيف التقرير «لجأت للقمع والاعتقال والمحاكمات الزائفة عوض الانصات وتفهم الواقع المؤلم الذي تعرفه مختلف الخدمات العمومية منذ أن قررت السلطات العمومية منذ سنوات تبضيع هذه الخدمات بالتراجع في هذه القطاعات لصالح القطاع الخاص».
وبعدما نبّهت إلى خطورة «السياسات النيوليبرالية المتوحشة»، قالت «ترانسبرانسي ـ المغرب» إنه «كان بإمكان الحكومة أن تلتقط نداء المواطنة في احتجاجات المواطنات والمواطنين على كوارث مستشفى الموت بأغادير، عينة لتدني الخدمات الصحية في غالبية المستشفيات العمومية، إلا أن حكومة تشرع قانونيا لحماية الفساد لا يرجى منها التجاوب مع تطلعات الشعب واحترام الدستور والقانون»، وفق تعبيرها.

النقاش العام

وسط الرأي العام، انقسمت التقييمات: جزء واسع من المغاربة عبّر عن تفهمه لمطالب الشباب في الصحة والتعليم والشغل، لكنه في المقابل استنكر بشدة أعمال التخريب التي رافقت بعض المظاهرات.
الحقوقي عادل تشيكيطو، رئيس «العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان»، شدد على ضرورة الوضوح: «علينا أن نكون صرحاء مع الشباب الذين قاموا بأعمال التخريب ونقول لهم: أنتم تهدمون مستقبلكم وتجرمون في حق أنفسكم وبلادكم». وأضاف في تدوينة أن البحث عن مبررات للعنف، سواء باسم الحقوق أو باسم السلطة، «هو الوجه الآخر للعنف نفسه».
والمتأمل في كرونولوجيا الأحداث، يلاحظ أن احتجاجات «جيل زِد» كانت لحظة مغايرة وفارقة في الزمن السياسي المغربي، حيث تحولت من التأطير الحزبي والجمعوي وغيرها، إلى التأطير الرقمي المفتوح بعد أن بدأت بدعوة افتراضية على «ديسكورد»، لتتحول إلى نزول في الشارع بمدن عديدة. وتوزعت هذه الاحتجاجات بين الطابع السلمي في مناطق وبين العنف في مناطق أخرى.
ويرى متتبعون أن الحكومة المغربية والأحزاب السياسية لم تلتقط الإشارات منذ مدة طويلة. أما الفاعل الحقوقي فقد وقف إلى جانب «جيل زد» وتضامن مع مطالبه الاجتماعية، لكنه في الوقت نفسه أدان العنف والتحريب رافضا انحراف التظاهرات السلمية إلى فوضى.
ويعيب جزء من الرأي العام المغربي على البرلمانيين عدم تدخلهم بما يلزم، وليس عبر اجتماع رسمي داخل البرلمان وفتح النقاش حول الصحة، الذي شبع جدالا ووعودًا، وكانت النتيجة غضبًا في مستشفيات عمومية مثل مستشفى أغادير.
وفي المحصلة، فإن هذه الاحتجاجات لم تكن مجرد موجة شبابية عابرة، بل هي مرآة لمعضلة أعمق: جيل جديد يبحث عن صوت وتمثيل، وسياسات اجتماعية واقتصادية عاجزة عن مجاراة تطلعاته، وأحزاب فقدت الكثير من قدرتها على الوساطة.

«القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب