رئيسيالافتتاحيه

اتفاق شرم الشيخ… بين المناورة الدقيقة وإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني

اتفاق شرم الشيخ… بين المناورة الدقيقة وإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني

بقلم رئيس التحرير

لم يكن اتفاق شرم الشيخ مجرد وثيقة لوقف إطلاق النار، بل محطة مفصلية تعيد تعريف الصراع وتختبر مدى صلابة الإرادة الفلسطينية في مواجهة منظومة استعمارية تتقن فن إدارة الزمن والمراحل. فالمعركة لم تنتهِ بعد، وما بعد الاتفاق أخطر من بنوده المعلنة، لأن الشيطان يكمن في التفاصيل، ولأن البنود السرّية والشفهية قد تُستحضر لتفسير النوايا قبل الأفعال.

أولًا: الاتفاق ليس استسلامًا بل اختبار وعي

كثيرون سارعوا للتشكيك، وراحوا يقيسون المكاسب والخسائر بالأمتار والخرائط: هل انسحبت إسرائيل من ٦٠٪ من القطاع أم من ٥٣٪ فقط؟! لكنّ الصراع الحقيقي لا يُقاس بالنسب، بل بمدى قدرة الفلسطينيين على تحويل مساحة المناورة المحدودة إلى رافعة سياسية تحفظ الكرامة الوطنية وتعيد توجيه البوصلة.

الاتفاق في جوهره مرحلة إدارة لا إنهاء، ومجاله الزمني مفتوح على احتمالات متعددة، والاختبار الحقيقي فيه ليس لطرفٍ دون آخر، بل لقدرتنا كفلسطينيين على قراءة الواقع بعيوننا لا بعيون الآخرين.

ثانيًا: الغموض المقصود… ومسؤولية التفسير

وجود ملاحق سرية أو تفاهمات شفهية ليس أمرًا استثنائيًا في الاتفاقات السياسية الكبرى. لكن الخطورة تكمن فيمن يملك حق التفسير وقرار التفعيل. فالولايات المتحدة – الضامن الرئيس – لم تُخفِ رغبتها في أن تكون الحكم والخصم معًا، ما يجعل المرحلة الأولى من الاتفاق ميدان اشتباك سياسي بامتياز.

أي إخلال أو خرق يُمكن أن يُستثمر ذريعة لإعادة إشعال الحرب تحت مسمى “تفعيل البند السري”، وهنا تأتي أهمية الوعي الوطني الجمعي والرقابة الفلسطينية الموحّدة في رصد التنفيذ، كي لا تتحول غزة إلى ورقة تفاوضية بيد الآخرين.

ثالثًا: حماس بين الواقعية والمكاشفة

على حركة حماس أن تدرك أن المرحلة المقبلة ليست تكرارًا لما سبق، وأن الغموض في الخطاب الداخلي أخطر من أي ضغوط خارجية.

دم كل فلسطيني خط أحمر، والخسارة في الأرواح لا يجوز أن تكون ثمناً لسوء التواصل أو للتجميل السياسي. إنّ وضوح الموقف داخل البنية التنظيمية لحماس ليس تنازلاً بل حماية لبنية الحركة نفسها، ولثقة المجتمع الفلسطيني في مشروعها الوطني.

اليوم، الصدق السياسي ضرورة بقاء، لأن الضبابية ستضرب الجبهة الداخلية قبل أن تضعف الخصم.

رابعًا: تفكيك الوهم… إسرائيل ليست أزمة حكم بل مشروع هيمنة

القراءة السطحية التي تحصر الحرب في بقاء نتنياهو في الحكم قراءة مضللة وخطيرة. فإسرائيل ليست دولة زعامات بل مؤسسة استعمارية متكاملة، تتجدد وجوهها لكن لا يتبدّل جوهرها.

من يظن أن مجازر غزة أو قصف لبنان أو محاولات تدمير محور المقاومة هي قرارات انتخابية، إنما يُبرّئ البنية الاستعمارية الإسرائيلية من مسؤوليتها التاريخية.

السؤال الأعمق: لو جاء أقصى اليسار إلى الحكم، هل كانت المقتلة ستتوقف؟ الجواب المؤكد: لا. لأن الصراع ليس حول الكرسي، بل حول الوجود والهوية والسيطرة.

وهنا يسقط كثير من المحللين العرب حين يُسقطون على إسرائيل منطق السياسة العربية، فيرونها بعين الزعيم لا بعين المشروع، وبذلك يُضلّلون الوعي العام ويمنحون العدو غطاءً فكريًا.

خامسًا: من غزة الجبهة إلى غزة الفكرة

لقد حانت اللحظة ليتحوّل السؤال من: “ماذا أنجزت حماس؟” إلى “ماذا سيفعل الفلسطينيون بكل هذا الألم؟”.

القيمة ليست في نصوص الاتفاق بل في إرادة التحويل: تحويل الصدمة إلى مشروع وطني جديد، يعيد صياغة فكرة فلسطين من جغرافيا محاصرة إلى وعيٍ محرّر.

إنّ أخطر ما بعد الحرب ليس الدمار المادي بل الذاكرة المشظّاة. فإذا لم يُبنَ وعي فلسطيني جامع يوحّد الرواية، فإنّ إعادة الإعمار ستبقى قشرة تغطي جرحًا مفتوحًا.

الإنسان الفلسطيني هو العنوان الأول للمشروع القادم، والكرامة والحرية ليستا شعارات بل بوصلة بقاء.

سادسًا: المناورة الدقيقة… لا التسرّع ولا الجمود

حماس تدرك أنّها تناور في مساحة ضيقة، لكنّ الذكاء السياسي يقاس بالقدرة على التحرك ضمن الضيق لا الهروب منه.

بين تجميد السلاح وتسليمه، وبين مجلس سلام وهيئة وطنية، هناك منطقة رمادية يجب إدارتها بحذر وسرعة في آن.

الخطة الأمريكية، وإن تغيّر اسمها من “صفقة القرن” إلى “مبادرة إعادة الإعمار”، لا تزال تحكم الإطار العام، والمطلوب تفاوض بوعي، لا بردّ فعل، فالتاريخ لا يرحم من يغفل توازن القوى ولا من يتنازل عن الثوابت.

خاتمة: من المعركة إلى المشروع

اتفاق شرم الشيخ ليس نهاية الحرب، بل بداية معركة من نوعٍ آخر: معركة الوعي والسيادة على القرار الفلسطيني.

فالقوة اليوم ليست في السلاح وحده، بل في امتلاك القدرة على صياغة المستقبل، والتمسك بوحدة الموقف الوطني، وإعادة بناء الشرعية الفلسطينية على قاعدة الشراكة والمصارحة.

لقد آن الأوان لأن تُغادر غزة موقع الضحية لتصبح مركز التفكير الوطني الجديد، ولأن يتحول الألم إلى طاقة بناء، والدمار إلى فرصة ميلاد.

فمن رحم الحرب تولد المشاريع الكبرى، ومن تحت الركام قد تنهض فلسطين الوعي، لا فلسطين الجغرافيا فقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب