الحرب على غزة تدخل عامها الثالث: الهولوكوست الفلسطيني وشريعة الغاب الدولية

الحرب على غزة تدخل عامها الثالث: الهولوكوست الفلسطيني وشريعة الغاب الدولية
بقلم رئيس التحرير
ها هي الحرب الإسرائيلية على غزة تدخل عامها الثالث، لتكشف للعالم مأساة إنسانية غير مسبوقة في العصر الحديث، عنوانها الدمار الشامل، والحصار، والتجويع، والإبادة الجماعية الممنهجة بحق شعب أعزل. أكثر من عامين من القتل والتدمير تُختصر في مشهد يعكس انهيار منظومة القيم العالمية، وعودة منطق القوة ليحل محل القانون، حتى غدت الشرعية الدولية أداة انتقائية تُستخدم لتبرير العدوان، لا لردعه.
أرقام الإبادة: غزة تنزف دماً
بحسب آخر بيانات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة (أيلول/سبتمبر 2025)، تجاوز عدد الشهداء 65,000 فلسطيني، فيما ارتفع عدد الجرحى إلى أكثر من 165,000، يشكّل الأطفال والنساء نحو 60% منهم.
وتقدّر منظمات الإغاثة الدولية عدد المفقودين تحت الركام أو في المقابر الجماعية بالآلاف. وتشير دراسة صادرة عن The Economist (8 أيار/مايو 2025) إلى أن العدد الحقيقي للضحايا قد يتجاوز 100 ألف إنسان إذا شُملت الوفيات الناتجة عن نقص الغذاء والدواء وانهيار النظام الصحي.
أما مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فأكد أن أكثر من 85% من سكان القطاع نُزحوا قسراً، وأن غزة تعيش على شفا مجاعة جماعية بفعل الحصار الشامل الذي تفرضه إسرائيل على الغذاء والدواء والوقود.
سياسة التجويع والدمار: أدوات حرب ممنهجة
تقرير برنامج الأغذية العالمي (WFP) الصادر في تموز/يوليو 2025 وصف غزة بأنها “أخطر مكان في العالم للأطفال”، مؤكداً أن مئات الآلاف يعانون سوء تغذية حاد وخطر الموت البطيء.
كما أكدت منظمة الصحة العالمية (WHO) أن 80% من المرافق الصحية خرجت عن الخدمة، بفعل القصف المباشر والمتكرر، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف لعام 1949.
لقد تحولت المستشفيات والملاجئ إلى مقابر جماعية، كما حدث في مجزرة المستشفى المعمداني ومدرسة الفاخورة التابعة للأونروا، حيث استُشهد أكثر من مئتي مدني معظمهم من النساء والأطفال. وتعتبر هذه الجرائم، بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، أفعالاً ترقى إلى جريمة إبادة متكاملة الأركان.
حكومة نتنياهو وشريعة الغاب
منذ اليوم الأول للحرب، اتضح أن حكومة نتنياهو تتعامل مع القانون الدولي بوصفه عقبة يجب تجاوزها، لا مرجعية يجب احترامها. فبدلاً من الانصياع لقرارات مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية بوقف الحرب ورفع الحصار، اختارت إسرائيل المضي في سياسة القوة وتكريس شريعة الغاب.
تقرير لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية (أيلول/سبتمبر 2025)، حمّل القيادة الإسرائيلية — وعلى رأسها نتنياهو — المسؤولية المباشرة عن الجرائم المرتكبة في غزة، واعتبر ما يجري “إبادة جماعية متعمدة ضد الشعب الفلسطيني”.
لكن نتنياهو رفض التقرير، وواصل الحرب متحدّياً الإجماع الدولي، في محاولة لإنقاذ مستقبله السياسي على حساب الدم الفلسطيني، حتى أصبحت الحرب وسيلة لبقائه في الحكم، ومتنفساً للأزمة الداخلية التي تعصف بإسرائيل منذ سنوات.
ازدواجية المعايير وانهيار منظومة العدالة
لقد أظهرت الحرب على غزة عمق النفاق الدولي وازدواجية المعايير الغربية. فالدول التي تتغنى بحقوق الإنسان، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وفّرت الغطاء السياسي والعسكري لإسرائيل، ومنعت تمرير قرارات ملزمة لوقف العدوان في مجلس الأمن.
بهذا التواطؤ، تآكلت مصداقية المنظومة الأممية، وتحولت العدالة الدولية إلى شعار أجوف، إذ لم تعد قادرة على حماية الضحايا، بل أصبحت في بعض الحالات شريكة في الجريمة بالصمت أو التمويل أو التسليح.
الهولوكوست الفلسطيني: الضحية الجديدة للعصر
إن ما يجري في غزة يرقى إلى هولوكوست بحق الشعب الفلسطيني، من حيث النية والعواقب والوسائل. القتل الجماعي، والتجويع المتعمّد، وتدمير المقومات المدنية، وتهجير السكان، جميعها أفعال تهدف إلى إبادة جماعية بطيئة.
لقد انقلبت الصورة التاريخية: فالجندي الإسرائيلي، الذي طالما قُدّم للعالم كرمز للنجاة من محارق الماضي، أصبح اليوم رمزاً لجلاد العصر الذي يمارس ذات الوحشية ضد شعب آخر.
وهكذا، لم تعد “المحرقة” ذكرى تذكّر بالعبرة الإنسانية، بل تحولت — بفضل الاحتلال — إلى واقع يُعاد إنتاجه على أرض فلسطين.
أصوات من داخل إسرائيل والعالم اليهودي
في مواجهة هذا الانحراف الأخلاقي، برزت أصوات يهودية وإسرائيلية شجاعة أدانت سياسات نتنياهو. فقد كتب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه أن “ما يجري في غزة هو جريمة تطهير عرقي موصوفة، تشبه ما حذّر منه اليهود أنفسهم بعد الحرب العالمية الثانية.”
أما الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي فاتهم حكومة نتنياهو بأنها “تسير بإسرائيل نحو هاوية أخلاقية وسياسية غير مسبوقة”، مؤكداً أن “الحرب لم تعد دفاعاً عن النفس، بل تحولت إلى محرقة للفلسطينيين ولضمير إسرائيل معاً.”
كما دعا مئات الأكاديميين اليهود في أوروبا وأمريكا إلى وقف الإبادة فوراً، محذرين من أن استمرار الحرب “يُفقد إسرائيل آخر ما تبقى من شرعيتها الأخلاقية ويعزلها دولياً.”
كلمة أخيرة
إن استمرار الحرب على غزة، وتحدي إسرائيل السافر لقرارات الشرعية الدولية، لا يهددان الفلسطينيين وحدهم، بل يقوّضان النظام الدولي بأسره.
لقد بات واضحاً أن إدارة إسرائيل لهذه الحرب ليست دفاعاً عن النفس، بل مشروعاً لتكريس سياسة القوة على حساب القانون، وتأسيس نموذج لعالم يحكمه منطق الغلبة لا العدالة.
إن ما جرى في غزة هو اختبار أخلاقي للإنسانية جمعاء؛ فإما أن ينتصر الضمير والقانون، وإما أن يترسخ عصر جديد من شريعة الغاب، حيث يختفي الحق وتُقنَّن الإبادة باسم “الردع”.
وستظل غزة، بكل دمائها وأوجاعها، شاهداً على أن المحرقة ليست حدثاً من الماضي، بل مأساة تُعاد أمام أعين عالم صامت ومتواطئ.




