العمال الفلسطينيون في سوق العمل الإسرائيلي بين الحاجة والتبعية الاقتصادية

العمال الفلسطينيون في سوق العمل الإسرائيلي بين الحاجة والتبعية الاقتصادية
“أصبح معظم العمال الذين يدخلون للعمل في إسرائيل يقومون بذلك بواسطة التهريب ويخاطرون بحياتهم، أو يدفعون لقاء ذلك تكاليف عالية، بينما انتشرت ظاهرة الاتجار بمساعدة العمال على تجاوز الجدار عبر السلالم أو الفتحات أو المراقبة وغيرها”
في دراسة بعنوان “جدلية العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل” نُشرت في العدد الأخير من مجلة الدراسات الفلسطينية، تتناول الباحثة لميس فراج واقع العمالة الفلسطينية في السوق الإسرائيلي في ضوء حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي وما تلاها من إجراءات عقابية، من ضمنها إغلاق الضفة الغربية وإلغاء تصاريح العمال الفلسطينيين، ومن ثم تعطيل معظم العاملين في إسرائيل والمستوطنات وإلحاقهم بصفوف البطالة.
وتشير الدراسة إلى أنه قبل بدء الحرب ونهاية عام 2022، كانت المؤشرات الاقتصادية تفيد بارتفاع معدل البطالة إلى 24% في الضفة الغربية وقطاع غزة، وارتفاع نسب الفقر، وضعف النمو الاقتصادي. كما كان عدد العاملين في الداخل المحتل قرابة 193 ألف عامل، بما يشكّل 17% من العمالة الفلسطينية.
وفي سياق استعراضها للخلفية التاريخية للعلاقة بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي، تلفت الدراسة إلى الدور المحوري الذي لعبته العمالة الفلسطينية في إسرائيل، بوصفها أحد أهم المفاصل التي أثرت وتؤثر على الاقتصاد الفلسطيني وتسهم في تعميق التبعية والاعتمادية على الاقتصاد الإسرائيلي.
وتشير إلى أنه رغم محاولة بروتوكول باريس تنظيم تلك العلاقة بافتراض أن حركة العمال بين الاقتصادين تُنظَّم وفق حاجة سوق العمل وبتنسيق بين وزارتي العمل، فإن محددات عمل الفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي لا تتجه وفق معطيات سوق العمل بالمعنى الاقتصادي وعوامل العرض والطلب، بل هي علاقة باتجاه واحد فقط، تُحدَّد بموجب المتغيرات والمعطيات السياسية والأمنية (من منظور إسرائيلي) وحاجة السوق الإسرائيلية إلى العمالة المرنة ومنخفضة التكاليف. وبالتالي، فإن الحكومة الإسرائيلية هي الناظمة والمسيطرة على تلك العلاقة الموجودة تاريخيًا، وقبل تأطيرها الشكلي ضمن بروتوكول باريس.
وتشكّل نسبة العمال داخل الخط الأخضر والمستوطنات ما يقارب 17 إلى 20% من القوى العاملة في فلسطين، ما يعني أن خمس المجتمع الفلسطيني يعتمد دخله بالدرجة الأولى على العمل في المنشآت الإسرائيلية. فيما تبلغ التحويلات المالية من العمال داخل الخط الأخضر، كما تفيد الدراسة، قرابة 3 إلى 4 مليارات دولار سنويًا قبل الحرب، أي ما يعادل أكثر من نصف موازنة السلطة الفلسطينية، وقرابة 20% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، فإن العمالة الفلسطينية في الداخل المحتل كان لها تداعيات وتبعات تجاوزت الدافع الفردي للعامل في البحث عن تحسين ظروفه المعيشية، إذ أسهمت في تعميق التبعية الاقتصادية.
وحول الآثار التي تركها السابع من أكتوبر وحرب الإبادة على غزة، تفيد الدراسة بأن تعطيل العمال داخل الخط الأخضر، وتدمير اقتصاد قطاع غزة، وتجميد أموال المقاصة، ساهم في تردي الأوضاع الاقتصادية، إذ ارتفعت نسبة البطالة في الضفة الغربية إلى مستوى غير مسبوق (وصلت إلى 35%)، ناهيك عن التراجع الحاد في الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، وانخفاض مستويات الإنفاق الاستهلاكي النهائي للأسر المعيشية، إضافة إلى انخفاض الواردات تبعًا لتشديد القيود الإسرائيلية وارتفاع تكلفة الاستيراد وتوقعات المستوردين بتراجع القوة الشرائية بسبب البطالة المرتفعة. ونتيجة لذلك انخفضت قيمة الجمارك المتحققة خلال النصف الأول من العام مقارنة بذات الفترة من العام الماضي بنحو مليار شيكل. ومع تفاقم الضغوطات الاقتصادية، انخفضت الإيرادات بالمجمل، إضافة إلى انخفاض إيرادات المقاصة بسبب السياسات والممارسات الإسرائيلية وتجميد قرابة نصف أموال المقاصة.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” الباحثة لميس فراج لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.
الباحثة لميس فراج
“عرب 48”: تطفو قضية العمال الفلسطينيين العاملين داخل الخط الأخضر مع كل أزمة سياسية توقف أو تقنّن إسرائيل خلالها دخول العمال إليها، حيث شهدنا ذلك في الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، لكن يبدو أن الأزمة التي نشهدها مع حرب الإبادة على غزة هي الأعمق؟
فراج: الحديث يدور عن 200 ألف عامل تقريبًا يشكّلون 20% من القوى العاملة الفلسطينية التي تصل إلى مليون شخص تقريبًا، من مجموع سكان الضفة وغزة الذين يبلغ عددهم خمسة ملايين نسمة تقريبًا. ويشكّل هذا القطاع أحد أكبر القطاعات إلى جانب قطاع العاملين في مؤسسات السلطة الفلسطينية المدنية والأمنية، التي تضم 150 ألف عامل، في حين يعمل البقية في القطاع الخاص وفي قطاع العمالة غير المنظَّمة، وهو قطاع واسع يشمل العمال غير المسجلين الذين لا يحصلون على قسيمة راتب أو الذين يعملون بأجر يومي، وكذلك النساء اللواتي يعملن من البيوت في مجالات الحياكة، وإعداد الغذاء، ورعاية الأطفال، وغيرها.
وفي ضوء انتشار العمل غير المنظَّم على نطاق واسع، يصعب حصر نسبة البطالة بشكل دقيق، ناهيك عن أن النساء ربات البيوت اللواتي لا يطلبن الالتحاق بسوق العمل لا يتم احتسابهن كعاطلات عن العمل، علمًا أن الإحصاءات الرسمية كانت تشير إلى نسبة عاطلين عن العمل تصل إلى 20% في الضفة الغربية وتناهز 30% في قطاع غزة قبل الحرب، وهو ما يشير إلى أزمة بطالة كان يعاني منها قطاع غزة بشكل خاص بسبب الحصار المفروض عليه حتى قبل الحرب، وبعدها حدث ولا حرج.
موضوع العمال الذين يعملون في الداخل المحتل ليس جديدًا، وهو يشتدّ ويتراجع ارتباطًا بالمعطيات السياسية وظروف أخرى، ولكن الفكرة أن هذه العلاقة هي واحدة من أهم العلاقات التي تربطنا باقتصاد الاحتلال وتجعل الانفكاك عنه أمرًا صعبًا أو تضع تحديات أمام ذلك. وأنا أعتقد أن إسرائيل لا تشغّلنا نحن الفلسطينيين لكي تستغل قدراتنا فقط، بل هي تسعى إلى ربطنا وإخضاعنا لاقتصادها.
فبعد أن قامت بالسيطرة على مواردنا وسرقتها، لم تُبقِ لنا الكثير من الخيارات سوى الذهاب للعمل في سوقها الاقتصادي، ويشجع على ذلك أن الأجور هناك أعلى من السوق الفلسطيني بسبب إضعاف قدرات هذا السوق أيضًا. وتلك معطيات مرتبطة بواقع الاحتلال المفروض علينا منذ عام 1967، والذي جاء بروتوكول باريس، وهو الملحق الاقتصادي لاتفاق أوسلو، ليكرّسه حيث قام بتأطير علاقة التبعية تلك وإعطائها صبغة رسمية.
“عرب 48”: اتفاق باريس أعطى لهذه العلاقة التي تقوم على التبعية شرعية قانونية وسياسية؟
فراج: “بروتوكول باريس” يتحدث عن حركة العمال بالاتجاهين، وكأن هناك علاقة متكافئة، ولكن كل عاقل يعرف أن العمال الإسرائيليين لا يعملون في سوق العمل الفلسطيني، الذي هو من الهشاشة بحيث لا يستطيع استيعاب العمال الفلسطينيين. وبذلك فإن نص البروتوكول بهذا الخصوص يمنح الاحتلال حق التحكم المطلق بدخول وإخراج العمال الفلسطينيين من سوق العمل الإسرائيلي متى أراد ذلك، وليس لأسباب اقتصادية فقط، بل سياسية أساسًا.
بعد احتلال عام 1967 كان هناك تصريح عام مفتوح للدخول من أجل العمل في إسرائيل، ولم يتبع الاحتلال نظام التصاريح الشخصية، وهو وضع استمر حتى نهاية الثمانينيات، حيث كان خلال تلك الفترة ما يقارب 30% من العمال الفلسطينيين، معظمهم من الأرياف والمخيمات، يعملون في الداخل المحتل.
بدأ العمل بالتصاريح الشخصية بعد الانتفاضة الأولى في مطلع التسعينيات، وأصبح الحصول على تصريح مشروطًا بعدة إجراءات، أهمها فحص أمني يشمل العامل وأفراد أسرته، وهو الأمر الذي أُريد منه تحويل هذا العامل إلى رقيب على نفسه وعلى أسرته بما يخدم مصلحة الاحتلال الأمنية، لغرض الحصول على تصريح العمل والحفاظ عليه، باعتباره مصدر رزق أساسيًا له ولأسرته.
“عرب 48”: لكن إسرائيل لم تكتفِ باستخدام التصريح في “العقاب والثواب” الفردي، بل استخدمت وما زالت إدخال العمال كوسيلة عقاب جماعي ضد الفلسطينيين؟
فراج: صحيح، فقد بلغ العدد الإجمالي للعمال الذين يعملون في إسرائيل حتى عام 2000 نحو 145 ألف عامل، وانخفض خلال الانتفاضة الثانية لأسباب أمنية وبدوافع عقابية إلى 66 ألف عامل. وكما هو معروف، فإن الانتفاضة الثانية تميزت بالعمليات الاستشهادية، كما تخللتها دعوات لمقاطعة العمل في إسرائيل.
“عرب 48”: كان هناك تشديد أمني على العمال الذين يدخلون إلى إسرائيل؟
فراج: صحيح، كان هناك تشديد أمني وعقوبات جماعية وتضييقات وحواجز وغيرها، لكن بعد أن هدأت الأمور عقب الانتفاضة الثانية، والإصلاحات التي حصلت في أجهزة السلطة (الأمنية) عام 2010، ارتفع عدد العمال، حيث وصل حتى عام 2022 إلى 193 ألف عامل، أي ما يقارب 200 ألف عامل، يشكّلون 20% من القوى العاملة الفلسطينية، وما يقارب 20 ألف عامل من غزة.
“عرب 48”: هذا الدخول توقف بالكامل بعد السابع من أكتوبر والحرب على غزة؟
فراج: تغيّرت كل المعادلات، واليوم لا يتجاوز العدد 20 ألف عامل، إلى جانب تفشي ظاهرة ما يسمى بالدخول غير القانوني إلى إسرائيل، من خلال إيجاد فتحات في الجدار أو القفز من فوقه أو استعمال السلالم للتسلق. وأصبحنا نسمع عن حالات إطلاق نار واستشهاد عمال حاولوا التسلل، واعتقالات واسعة لعمال دخلوا بشكل “غير قانوني” إلى مناطق داخل الخط الأخضر.
أصبح معظم العمال الذين يدخلون للعمل في إسرائيل يقومون بذلك بواسطة التهريب ويخاطرون بحياتهم، أو يدفعون لقاء ذلك تكاليف عالية، بينما انتشرت ظاهرة الاتجار بمساعدة العمال على تجاوز الجدار عبر السلالم أو الفتحات أو المراقبة وغيرها. ومن المعروف أنه قبل الحرب انتشرت ظاهرة بيع التصاريح التي كان شركاء فيها ضباط من الإدارة المدنية.
“عرب 48”: ما هو تأثير إلغاء التصاريح ومنع 200 ألف عامل فلسطيني من دخول إسرائيل على الاقتصاد الفلسطيني؟
فراج: التأثير كارثي، لأننا أصلًا في سياق اقتصاد فلسطيني هشّ وتابع ويتحكم الاحتلال بموارده، فكيف وأنت تضيف 200 ألف عامل جديد إلى دائرة البطالة المتفاقمة أصلًا، وتُدخل هذا الكم من العمال إلى المنافسة في سوق العمل المحدود، وتحرم هذا الاقتصاد الهش من مدخولات العمل في إسرائيل التي تشكل بالنسبة له المورد الثاني من حيث الحجم؟
صحيح أن التأثير يشمل الاقتصاد الإسرائيلي أيضًا، ولكن لا مجال للمقارنة عندما نتحدث عن اقتصاد قوي واقتصاد ضعيف، أو تابع ومتبوع. كما أن السؤال الذي يجب أن يُسأل فلسطينيًا ليس حول عدم قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على الاستغناء عن العمالة الفلسطينية، بل حول كيفية قدرتنا نحن على الاستغناء عن العمل داخل الخط الأخضر، وعن التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، وكيفية الانفكاك عنه.
“عرب 48”: أشرتِ إلى بدائل وطنية لاستيعاب العمال الفلسطينيين والتخفيف من عبء الاعتماد على سوق العمل الإسرائيلي؟
فراج: من ناحيتنا كاقتصاد فلسطيني، يُفترض أن نعمل على بناء اقتصاد مقاوم وصولًا إلى مقاطعة كاملة للاحتلال وانفكاك تدريجي عن الاقتصاد الإسرائيلي، وبناء استثمارات تستوعب آلافًا وربما عشرات آلاف العمال، وليس بالضرورة أن يحصل العامل على الأجر ذاته الذي يحصل عليه في إسرائيل، فنحن نتحدث عن اقتصاد يمتلك ناتجًا محليًا يوازي ثلاثين ضعف الناتج المحلي الفلسطيني.
من يريد بناء اقتصاد مقاوم يجب أن يتحمّل الأعباء للوصول إلى هذا الهدف، كي لا نبقى تحت رحمة الاحتلال وسياساته. وقد فوّتْنا أكثر من فرصة كان يجب أن نتعلم منها ونستغلها، آخرها كانت أزمة كورونا التي منعت إسرائيل خلالها العمال الفلسطينيين من الدخول إليها.
نستطيع تقليل الاعتماد على الواردات من إسرائيل بقرابة 30% من إجمالي الواردات، أي ما يعادل حوالي 1.6 مليار دولار يمكن توجيهها لدعم الاقتصاد الفلسطيني، إذ إن هناك 36 صنفًا من السلع يمكن تصنيعها محليًا بدلاً من استيرادها، مثل: المياه المعدنية والغازية، منتجات الألبان، المحاصيل الزراعية، البيض، الخضروات والفواكه، الأعلاف والأسمدة، الحيوانات الحية، الإسمنت، الهواتف، الشوكولاتة والحلويات، والقمح. وبالتالي يمكن خلق استثمارات جديدة وتوفير فرص عمل محلية.
لميس فراج: باحثة في السياسات المالية والموازنة العامة والسياسات الاقتصادية والتنموية، ,ومهتمة بالقضايا الاجتماعية الاقتصادية والاقتصاد السياسي. حصلت على درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة بيرزيت عام 2016، ودرجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة بيرزيت عام 2010.
عرب 48