تجار المقاصة ومزورو الفواتير الوهمية: جريمة اقتصادية تهدد الأمن المالي الفلسطيني

تجار المقاصة ومزورو الفواتير الوهمية: جريمة اقتصادية تهدد الأمن المالي الفلسطيني
بقلم المحامي علي ابوحبله
مقدمة
يشكّل نظام المقاصة الضريبية بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل – المنصوص عليه في اتفاق باريس الاقتصادي لعام 1994 – أحد أعمدة التمويل الرئيسية للمالية العامة الفلسطينية، إذ تشكّل إيراداته ما نسبته نحو 65% من مجموع الإيرادات العامة وفق بيانات وزارة المالية الفلسطينية وتقارير البنك الدولي (2024).
لكن هذا النظام الذي أُنشئ لضمان استقرار مالي نسبي، تحوّل عمليًا إلى منفذ للابتزاز الإسرائيلي من جهة، ومنصة للفساد والاحتيال الداخلي من جهة أخرى، نتيجة انتشار ظاهرة تجار المقاصة ومزوري الفواتير الوهمية، التي تنخر في عصب الاقتصاد الوطني وتؤدي إلى نزيف مالي خطير يفوق مئات ملايين الشواقل سنويًا.
أولاً: المقاصة بين نص اتفاق باريس وتغوّل السيطرة الإسرائيلية
نصّ اتفاق باريس الاقتصادي على أن تقوم إسرائيل بجباية الضرائب الجمركية وضريبة القيمة المضافة على السلع المستوردة نيابة عن السلطة الفلسطينية، ثم تحويلها شهريًا إلى الخزينة الفلسطينية بعد اقتطاع عمولة لا تتجاوز 3%.
غير أن إسرائيل استخدمت هذا النظام كورقة ضغط سياسية، تحتجز أو تخصم منه مبالغ ضخمة بذريعة “الديون” أو “رواتب الأسرى والشهداء”، في خرقٍ واضح لبنود الاتفاق ومبدأ السيادة المالية.
هذا الوضع الشاذ أضعف قدرة وزارة المالية الفلسطينية على الرقابة والتحصيل، وخلق بيئة خصبة لظهور شبكات تجارية تستغل الثغرات القانونية والإدارية في نظام المقاصة.
ثانياً: مزورو الفواتير الوهمية – من التحايل إلى الجريمة الاقتصادية
تؤكد تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية (2023–2024) أن مئات القضايا المتعلقة بالفواتير الوهمية تم رصدها خلال السنوات الأخيرة، إذ يُقدّر حجم التلاعب الضريبي الناتج عنها بما يزيد عن 500 مليون شيكل سنويًا.
يُقدِم بعض التجار على تسجيل فواتير مزيفة أو مضخمة لعمليات استيراد لم تتم فعليًا أو بأرقام وهمية، بهدف استرداد ضريبة القيمة المضافة أو تخفيض الالتزامات الضريبية.
وتُنفّذ هذه العمليات غالبًا من خلال وسطاء يُعرفون بـ”تجار المقاصة”، الذين يشترون ويبيعون فواتير عبر وسطاء إسرائيليين مقابل عمولات مالية ضخمة.
من الناحية القانونية، تُصنَّف هذه الممارسات ضمن الجرائم الاقتصادية وفق قانون مكافحة الفساد الفلسطيني رقم (1) لسنة 2005 وتعديلاته، وكذلك ضمن قانون العقوبات وقانون مكافحة غسل الأموال رقم (20) لسنة 2015، لما تتضمنه من تزوير مستندات رسمية وإضرار مباشر بالمال العام.
ثالثاً: التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة
تنعكس هذه الجرائم على الاقتصاد الفلسطيني بصورة متعددة الأبعاد، يمكن تلخيصها فيما يلي:
- نزيف في الإيرادات العامة: تؤدي الفواتير الوهمية إلى خسارة تتراوح بين 400 إلى 600 مليون شيكل سنويًا بحسب تقديرات البنك الدولي وديوان الرقابة المالية، أي ما يعادل نحو 10% من إجمالي الإيرادات الضريبية.
- تشويه العدالة الاقتصادية: تُعزّز هذه الممارسات الثراء غير المشروع لفئة محدودة من “تجار المقاصة”، وتُضعف ثقة القطاع الخاص بالنظام الضريبي.
- إضعاف الاستقرار المالي: تؤدي هذه الظاهرة إلى ارتفاع العجز المزمن في الموازنة العامة، وتُقيد قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها تجاه الموظفين والخدمات العامة.
- تآكل الثقة بالمؤسسات: في ظل غياب مجلس تشريعي فاعل يمارس الرقابة والمساءلة، تتحول الجرائم الاقتصادية إلى ظواهر شبه ممنهجة دون رادع فعلي، مما يُفقد المواطن ثقته بالعدالة المالية.
رابعاً: الثغرات البنيوية في النظام المالي الفلسطيني
تظهر خطورة هذه الظاهرة من خلال مجموعة من الثغرات الجوهرية:
غياب التنسيق الإلكتروني الكامل بين النظام المالي الفلسطيني ونظيره الإسرائيلي في المعابر.
ضعف آليات التدقيق والتحقق الضريبي في وزارة المالية وهيئة الجمارك.
تعدد المرجعيات الرقابية في ظل غياب المجلس التشريعي، مما يفتح المجال للتجاوزات دون مساءلة مباشرة.
قصور في تطبيق العقوبات القانونية بحق المتورطين في جرائم المقاصة، حيث غالبًا ما تُسوى القضايا ماليًا بدلًا من ملاحقتها قضائيًا.
خامساً: نحو إصلاح شامل واستعادة السيادة المالية
لمعالجة هذه الظاهرة المتفاقمة، بات من الضروري تبنّي خطة إصلاح شاملة تشمل الجوانب القانونية والإدارية والسياسية، وتستند إلى ما يلي:
- إعادة النظر في اتفاق باريس الاقتصادي من خلال مراجعة بنوده المتعلقة بالتحصيل الضريبي والمقاصة، لضمان الشفافية والسيادة المالية.
- إنشاء هيئة رقابة مالية مستقلة ترتبط مباشرة بالقضاء أو برئيس الدولة، تُكلّف بتدقيق ملفات المقاصة والفواتير.
- تفعيل النصوص العقابية في قوانين مكافحة الفساد وغسل الأموال لتصنيف الفواتير الوهمية كـ”جريمة اقتصادية جسيمة” يعاقب عليها بالسجن والغرامة ومصادرة الأموال غير المشروعة.
- اعتماد نظام محوسب موحّد للفواتير الإلكترونية بإشراف ديوان الرقابة المالية والبنك الدولي، يربط بين الجمارك والضرائب والبنوك.
- نشر تقارير دورية للشفافية المالية لتمكين الرأي العام من متابعة سير الأموال العامة والمقاصة.
خاتمة
إن ظاهرة مزوري المقاصة وتجار الفواتير الوهمية لا تمثل مجرد مخالفات إدارية، بل هي جرائم اقتصادية منظمة تهدد الأمن المالي والوطني الفلسطيني. فهي تُضعف قدرة الدولة على إدارة مواردها، وتعمّق التبعية لإسرائيل، وتُقوّض ركائز الثقة بالمنظومة الاقتصادية برمتها.
ولا يمكن مواجهة هذه الظاهرة إلا من خلال إصلاح قانوني مؤسسي شامل يُعيد الاعتبار لمبدأ الرقابة والمساءلة، ويفرض سيادة القانون على الجميع دون استثناء.
فالاقتصاد الفلسطيني، الذي يُكابد أصلاً تحت وطأة الاحتلال، لا يحتمل أن يُنهشه الفساد من الداخل كما ينهشه الحصار من الخارج.
الهوامش والمراجع
- ديوان الرقابة المالية والإدارية الفلسطيني، التقرير السنوي 2023.
- البنك الدولي، “تقرير الأداء الاقتصادي الفلسطيني”، نيسان/أبريل 2024.
- اتفاق باريس الاقتصادي، المُلحق الاقتصادي لاتفاق أوسلو، 29 نيسان/أبريل 1994.
- قانون مكافحة الفساد رقم (1) لسنة 2005 وتعديلاته.
- قانون مكافحة غسل الأموال رقم (20) لسنة 2015.
- قانون العقوبات رقم (16) لسنة 1960 وتعديلاته في التشريع الفلسطيني.