مقالات

انتهاء مرحلة وبداية لأخرى… والمراجعة المطلوبة

انتهاء مرحلة وبداية لأخرى… والمراجعة المطلوبة

عوض عبد الفتاح
الفشل الأكبر لنتنياهو، فهو إحياء القضية الفلسطينية وعودتها إلى صدارة الاهتمام العالمي، بعد أن قضى عمره السياسي في محاولة دفنها. فمهما امتلكت إسرائيل من أدوات القوة، فإنها باتت عاجزة أمام الثورة الأخلاقية والمعرفية العالمية…

لا يختلف اثنان على أننا لا نعيش نهاية الصراع في فلسطين، بل بداية مرحلة جديدة من هذا الصراع الكولونيالي الدموي الممتد لأكثر من مئةٍ وعشرين عامًا. فقد أكدت مخرجات مؤتمر شرم الشيخ ـ أو بالأحرى مسرحيته ـ أن ما جرى ليس وقفًا للحرب والتوسع والهيمنة، بل إعادة ترتيب لأدواتها وأهدافها. فإسرائيل استأنفت غاراتها واعتداءاتها على نقاط محددة في القطاع بذريعة “الأمن” نفسها التي فقدت كل صدقيتها، بينما لم يأتِ على لسان إمبراطور الإبادة دونالد ترامب أي ذكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ما يعني إشغال العرب مرة أخرى بمسار سياسي أو لاسياسي لا نهائي حول “الحل”. وبالتالي يُوضَع الشعب الفلسطيني ونُخَبه الوطنية أمام متاهة جديدة، لكنها قد تكون فرصة مواتية لاستعادة التوازن، والإمساك بناصية الدرب السليم.

ليس اتفاق وقف النار نهاية لاستراتيجية المحو، ولا انقلابًا في الفكر الصهيوني، بل إغلاقٌ لفصل إباديٍّ فاحش التوحّش دام عامين، تمهيدًا لمرحلة جديدة من المحو البطيء والأقل صخبًا. فالمحو القادم لن يكون بالضرورة جسديًا أو جماعيًا، إذ أدركت الإمبراطورية الأميركية وحلفاؤها أن عصابة القتلة التي تدير إسرائيل باتت عبئًا على مخطّط إعادة ترسيخ النفوذ الخارجي. ولذلك، سيكون التركيز على المحو السياسي واستهداف القيادات والنشطاء، بينما يبقى التحدي الأكبر أمام نظام الإبادة هو كيفية مواجهة التمدد الشعبي العالمي المناهض للاستعمار، وقرارات المحاكم الدولية التي بدأت تُحاصر إسرائيل أخلاقيًا وقانونيًا.

أما الأولوية لأهل غزة، ولشعبنا كله، فهي وقف حرب الإبادة التي التهمت الكبار والصغار، ومنح مئات الآلاف لحظة لالتقاط الأنفاس، والبكاء على أحبّتهم وبيوتهم وأحلامهم. هذه ليست فقط استراحة إنسانية بعد الجحيم، بل أيضًا إنجاز استراتيجي حال دون تنفيذ مشروع التهجير والاقتلاع، الذي كان هدفًا معلنًا لتحالف الإبادة الأميركي – الإسرائيلي. والعامل الحاسم في ذلك هو صمود غزة الأسطوري ومقاومتها الفريدة.

ومع ذلك، فإن هذه الجولة الأكثر شراسة في تاريخ المواجهة الفلسطينية – الصهيونية لم تُحدِث انقلابًا في ميزان القوى، بل كرّست تفوّق المنظومة الأميركية – الإسرائيلية على فلسطين والمنطقة، دون أن تحقق حسمًا حقيقيًا. فإسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها الكبرى، وعلى رأسها تدمير حركة حماس، التي ما تزال قادرة على حفظ الأمن الداخلي والسيطرة الميدانية. ولذلك ستبقى إسرائيل، بجناحيها الحاكم والمعارض، مضطربة وقلقة، تبحث عن ذرائع جديدة لاستهداف غزة، كما تفعل في لبنان وسورية.

أما الفشل الأكبر لنتنياهو، فهو إحياء القضية الفلسطينية وعودتها إلى صدارة الاهتمام العالمي، بعد أن قضى عمره السياسي في محاولة دفنها. فمهما امتلكت إسرائيل من أدوات القوة، فإنها باتت عاجزة أمام الثورة الأخلاقية والمعرفية العالمية، التي كشفت طبيعة المشروع الصهيوني كحركة استعمارية عنصرية، وأكثر الحركات توحّشًا في التاريخ. لقد انكشفت العِلّة الأخلاقية العميقة في أنظمة الغرب وقادته، وتهاوى الغطاء الأخلاقي الذي طالما وفّر لإسرائيل الحماية. ومن هنا، فإن الضرر الذي لحق بسمعتها الدولية لا يمكن ترميمه، وهي خسارة استراتيجية باتت محل إجماع حتى بين أنصارها. ومحاولة إنقاذ مكانة إسرائيل أو وقف سيرورة النبذ ليست لها حظ.

أمام هذه الحقائق، يقف المثقف الفلسطيني، ومعه النخب السياسية والفكرية، في حيرة. فكيف يمكن تحويل هذه اللحظة الدموية إلى فرصة للصمود وإعادة البناء؟ المهمة شاقة ومتعثرة، رغم الجهود المستقلة الصادقة. يزيد الأمر تعقيدًا اتساع الانقسام – لا بين سلطة أوسلو والمقاومة فحسب، بل أيضًا بين المثقفين أنفسهم، الذين يختلفون حول معنى النصر والهزيمة، وحول تقييم نتائج هذه الجولة. وهنا يجب التمييز بين الاختلاف النقدي البنّاء والضروري، وبين العداء الأيديولوجي الأعمى لبعض المثقفين ضد حركة المقاومة؛ أولئك الذين مارسوا جلد الذات وسط الإبادة، بينما اكتفوا بنقدٍ ناعمٍ لسلطة أوسلو التي التقت عمليًا مع الموقف الصهيوني – الإماراتي.

تملك المبادرات الوطنية المستقلة، التي يقف على رأسها وطنيون صادقون، رؤى إصلاحية مهمة، لكنها لم تُحدِث بعد نقلة نوعية، لأسباب كثيرة؛ منها موضوعية تتعلّق بالبيئة القمعية والانقسام وما خلفه من ترهّل مجتمعي، وأسباب ذاتية تتعلّق بضعف الأداء والخيال السياسي. ربما الناس بحاجة إلى نماذج قيادية جديدة: حكيمة، مبدعة، قادرة على استنهاض الجماهير، وتخاطب الجيل الجديد الذي تم تهميشه أو انسحب من الفعل الوطني. وباعتقادي أن هذا ليس ببعيد.

لا يُنتظر من السلطة أي مراجعة أو صحوة، بعد ثلاثة عقود من الانغماس في النجاة الذاتية على حساب مصالح الشعب. فقد أصمّت آذانها عن صوت شعبها، وانخرطت بعمق في التنسيق الأمني، حتى خلال حرب الإبادة، وأدانت المقاومة علنًا، منتظرةً أن تعود إلى غزة، لكنها لم تُدرك أن من راهنت عليهم من حكّام إسرائيل قد رحلوا بلا عودة، وأن إسرائيل تغيّرت جذريًا، وأن من يحكم اليوم هو طغمة مسيانية غارقة في الفكر الإبادي، عمّقته في وجدان غالبية المجتمع الصهيوني. لذا فإن التحرير أو التحرّر بات مرة أخرى يُقاس بالمنظور التاريخي، وليس بالتحوّل السريع. وهذا أمر ضروري لا بد أن ندركه جميعًا، لأن ما يترتب على إدراكه هو ضرورة استحداث مسار عمل طويل الأمد، يعتمد المقاومة الشعبية المدنية التي تمكّن الفلسطيني من تحمّل عبء النضال والبناء: بناء المؤسسات التعليمية والثقافية والاقتصادية، والحركات الجماهيرية والنقابية والمهنية، على أسس ديمقراطية.

فإن أي زعزعة حقيقية لسياسة الإبادة تتطلب ضغطًا خارجيًا متصاعدًا، لكنه مشروط بإعادة بناء البيت الفلسطيني الداخلي. فالجسم السياسي الفلسطيني، بكل مكوّناته الرسمية والشعبية، يحتاج إلى مراجعة عميقة وشجاعة: حماس وفتح والفصائل الأخرى، إضافة إلى النخب المستقلة المنخرطة في مبادرات الإصلاح، التي عليها تطوير أدواتها وتجديد صفوفها بدماء شابة مثقفة. نعم، جميعُنا دون استثناء – مؤسسات، وحركات، وأفراد – مطالبون بالمراجعة، ووقفة مع الذات.

إننا أمام بداية مرحلة جديدة، لا تقلّ خطورة عن سابقتها، لكنها تحمل في طيّاتها فرصة لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني التحرّري، شرط أن نتحلّى بالشجاعة الأخلاقية والفكرية والسياسية، لنخفّف عن عذابات شعبنا، خاصة في غزة الجريحة، ونُسهِم في استعادة عافيته، ثم نُباشر في بناء طريق آمن وأقل كلفة نحو المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب