انعكاسات النزعات السلطوية الشعبوية أوروبياً

انعكاسات النزعات السلطوية الشعبوية أوروبياً
عبد الباسط سيدا
يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات كبرى على الصعيدين الخارجي والداخلي تنذر بمخاطر وجودية، وتحولات نوعية في السياسات الداخلية والخارجية؛ وذلك تحت تأثير المتغيرات على الساحة الدولية من ناحية التوجهات والأولويات والاصطفافات؛ وتفاعل كل ذلك مع مواقف القوى الداخلية المتنافسة التي تتقارب مواقفها تجاه العديد من القضايا التي كانت تشكل سابقاً نقاط خلاف مفصلية بين الأحزاب السياسية المتنافسة على الحكم في مختلف الدول الأوروبية، ومنها قضايا: الهجرة، وتشديد القوانين الخاصة بالجريمة، وتقييد حرية التعبير، وإعادة النظر في العديد من قوانين أنظمة الضمان الاجتماعي والصحي وغير ذلك.
فالحرب الروسية على أوكرانيا ما زالت مستمرة رغم جهود الوسطاء. وهي حرب تمثل تهديداً أكيداً للدول الأوروبية المجاورة لأوكرانيا أو القريبة منها، مثل دول البلطيق وفنلندا وبولندا والدول الاسكندنافية. كما أنها حرب قد كلفت سائر دول الاتحاد الأوروبي مبالغ طائلة صُرفت من أجل تمويل احتياجات أوكرانيا الدفاعية، وتحديث الأسلحة والأنظمة الدفاعية والاستطلاعية في غالبية الدول المعنية، خاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا وفنلندا والسويد. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد المعيشية، وتقليص ميزانيات التعليم والصحة، الأمر الذي نجم عنه تململ شعبي تستغله القوى اليمينية المتشددة بخطابها الشعبوي الفاقع. وهناك اليوم احتمالات قوية لوصول اليمين المتشدد إلى الحكم في عدد من الدول الأوروبية من بينها فرنسا وألمانيا عبر الانتخابات؛ وهو الأمر الذي من شأنه ترجيح كفة القوى السلطوية التقليدية على مستوى العالم، ولصالح بعض الأنظمة الأوروبية الشرقية المتجهة نحو التسلّط. فحكومات هذه الدول تبدي توجهات استبدادية واضحة مغلّفة بخطاب شعبوي يدغدغ النزعات والمشاعر القومية، وهذه الحكومات تراهن على إمكانية التفاهم مع روسيا لقاء امتيازات أفضل، وذلك قياساً إلى تلك التي تحظى بها حالياً ضمن الاتحاد الأوروبي الذي يعاني في وقتنا الراهن من أزمات داخلية متشابكة بفعل تزايد أعداد المهاجرين، وتصاعد مستويات الجريمة، والصعوبات الاقتصادية، وتراجع قوة الأحزاب المعتدلة بصورة عامة بغض النظر عن توجهاتها السياسية، وغياب القيادات الكاريزماتية المؤثرة التي كانت تعطي الأولوية للمبادئ الإنسانية وليس لصناديق الانتخابات.
وعلى الضفة الأخرى، تواجه دول الاتحاد الأوروبي بصورة عامة، والمحورية منها على وجه التحديد (فرنسا وألمانيا) إشكالات حقيقية مع الأخ الأكبر الأمريكي الذي لا يخفي نزوعه نحو المركزية الأمريكية تحت شعار: «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى». فهناك شكوك تحوم حول فاعلية ومستقبل الشراكات الاستراتيجية خاصة الدفاعية مع الولايات المتحدة. وهناك تململ من إصرار ترامب على تهميش دور الأوروبيين على المستويين: الواقعي المصلحي، والاعتباري الرمزي الشكلي. ولكن مع ذلك هناك حرص أوروبي على التعايش مع إدارة ترامب، وهي تحاول معالجة الخلافات في التوجهات والمواقف مع هذه الإدارة بأقل الخسائر الممكنة؛ وتسعى لكسب الوقت انتظاراً لقدوم إدارة جديدة بعد نحو ثلاثة أعوام.
ولعل ما حصل من أحداث في منطقتنا خلال الشهرين المنصرمين من جهة تصاعد الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة؛ وقيام إسرئيل بضرب المقرات السكنية لقيادات حماس في الدوحة واعترافها الرسمي بذلك؛ وما تم اتخاذه أوروبياً من مواقف متباينة مع الموقف الأمريكي بخصوص موضوع غزة والدولة الفلسطينية بصورة عامة؛ يشير إلى صيغة من صيغ التفاصل النسبي بين مواقف الطرفين (الأوروبي والأمريكي)، مع وجود ميل واضح من الطرفين نحو التمسك بالتواصل، والسعي في سبيل تدوير الزويا، وتغليب التفاهم على الخلاف.
فبعد موجة الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية في سياق المبادرة الفرنسية السعودية وبالانسجام مع القرارت الأممية، وهي الخطوة التي انتقدتها الإدارة الأمريكية، أحس الجانب الأمريكي متمثلاً في ترامب على وجه التحديد بضرورة اتخاذ خطوة نوعية يضغط من خلالها على نتنياهو وحماس بشدة من أجل إنهاء حرب غزة، وإطلاق سراح الرهائن والأسرى والمعتقلين، وذلك لقناعته باستحالة مواجهة الرأي العام العالمي على المستويين الرسمي والشعبي. فكان الاجتماع الموسع مع القيادات العربية والإسلامية في نيويورك، وكان التوافق على خطة ترامب بشأن غزة؛ ومن ثم كان الضغط على نتنياهو للموافقة على الخطة بعد تفهم هواجسه والوعد بتبديدها، والالتزام المطلق الدائم بأمن إسرائيل في جميع الظروف.
وكان اجتماع شرم الشيخ الذي تم فيه التوقيع على اتفاقية إنهاء الحرب على غزة مقابل التزام حماس بجملة شروط ستكون من دون شك موضع جدال وخلاف وتباين في التفسير. فنص الاتفاقية أقرب إلى الإنشائية الروّاغة، ويفتقر إلى المحددات الملموسة مكانياً وزمانياً والآليات القانونية.
ورغم حضور قادة الدول الأوروبية الأساسية مؤتمر شرم الشيخ إلا انه كان من الملاحظ إبعادهم عن دائرة التأثير رغم أن الأوروبيين من أكثر المعنيين بالاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. فهم الأقرب إلى المنطقة جغرافياً من بقية القوى الدولية الكبرى، وعلاقتهم بها هي الأقدم. هذا بالإضافة إلى تحملهم القسط الأكبر من أعباء اللاجئين الهاربين من أوطانهم تحت وطأة استبداد وفساد حكوماتها.
وعلى صعيد آخر، تعاني الأنظمة الأوروبية الديمقراطية المستقرة داخلياً من الكثير من التحديات، في مقدمتها اتساع دائرة تأثير التيارات الشعبوية اليمينة المتشددة بفعل جملة عوامل أبرزها: إخفاق الأحزاب التقليدية في إيجاد الحلول المناسبة لظاهرة المجتمعات الموازية التي تشكلت في غالبية الدول التي استقبلت أعداداً كبيرة من المهاجرين خلال مختلف المراحل، وفشلها في الحد من البطالة الأمر الذي يؤدي من ناحيته إلى اتساع الشروخ المجتمعية، وارتفاع مستويات الجريمة. وكل ذلك يُستخدم مادة دعائية من قبل الأحزاب اليمينة المتشددة التي انتعشت كثيراً في أجواء تراجع اهتمام أمريكا في عهد ترامب بالديمقراطية، وغياب دعمها للأنظمة الديمقراطية حتى على المستوى الإعلامي الدعائي؛ وهيمنة الخطاب الشعبوي؛ والتركيز على الاستثمارات والصفقات الاقتصادية من دون أخذ الجوانب الإنسانية بعين الاعتبار، وعدم مراعاة حقوق الإنسان الأساسية ضمن البرامج التنموية. وما أسهم في ذلك وساعد عليه عوامل عدة من أهمها: انخراط أصحاب المليارات في السياسة لدواعي المصالح الخاصة والشهرة؛ والتحكّم بوسائل الإعلام بمختلف أشكالها؛ والاستفادة من أحدث التقنيات في ميادين التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي من جانب الحكومات، فقد أدت كل هذه العوامل وغيرها إلى تضييق مجال الحريات العامة، وعزوف الناس عن ممارسة السياسة لشعورهم بفقدان الجدوى، والافتقار إلى القدرة على التأثير في المسارات المفروضة على الناس بقوة المال والإعلام والتكنولوجيا بأشكالها المختلفة بما فيها العسكرية. وكل ذلك يمنح القوى اليمينة المتشددة في أوروبا المزيد من القوة والفرصة، وما يساعدها أكثر في هذا السياق هو توجهاتها الإيديولوجية الصارمة التي تمكّنها من التماسك؛ وهي تستفيد في الوقت ذاته من المناخ الشعبوي السائد على المستوى العالمي. وما يسهّل عملها هو تصاعد اهتمام القوى الكبرى بمصالحها العارية، وانشغالها الشديد بامتلاك أوراق القوة في عمليات الصراع على مناطق النفوذ والثروات والتكنولوجيا بكل أشكالها.
وفي هذه الأجواء يلاحظ تراجع دور المنظمات والمعاهدات الدولية والإقليمية، وهذا ما يمكّن من هيمنة نزعة عقد الصفقات الثنائية، وتشكّل تكتلات جديدة بناء على تقاطع المصالح والتوجهات. أما قضايا حريات الشعوب وحقوقها، وحقوق الإنسان بصورة عامة فهي تأتي في نهاية القائمة، ولا يتم الحديث عنها إلا في سياق المساعي المبذولة لتعزيز الأدوار ضمن التنافس الدولي المحموم على النفوذ وأسباب القوة بأشكالها المختلفة.
هل يستطيع الأوروبيون المحافظة على تماسك اتحادهم وفعاليته؟ هل ستتمكن الديمقراطيات الأوروبية من تجديد نفسها وتجاوز نتائج أخطائها عبر معالجتها، ليستمر الاتحاد الأوروبي نموذجاً جاذباً قد تقتدي به تكتلات إقليمية أخرى؟ أم أن المطلوب من جانب القوى الكبرى المتنافسة (الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، روسيا) هو إخراج الأوروبيين من دائرة التأثير، لكونهم في واقعهم الحالي يقفون حجر عثرة أمام مشاريع التوسع والهيمنة التي لا تعطي أي اعتبار يُذكر لتطلعات الشعوب التي تعاني من الأنظمة المستبدة الفاسدة في مختلف أنحاء العالم؛ كما أنها لا تعطي أي قيمة لقضايا حقوق الإنسان والبيئة ومستقبل الأجيال المقبلة؟
أسئلة ستتبلور ملامح إجابتها في المستقبل المنظور. ولكن على وجه العموم لا بد من الاعتراف بأن التوجه السائد في العالم هو التوجه السلطوي، والخطاب المهيمن هو الخطاب الشعبوي، والديمقراطية في تراجع، وذلك وفق التقرير السنوي الخاص بالديمقراطية لعام 2025 الصادر عن V-Dem Institute السويدي. فبموجب هذا التقرير يعيش اليوم نحو ثلاثة أرباع سكان العالم في ظل الأنظمة السلطوية. وأن الوضع الديمقراطي على المستوى الدولي قد عاد إلى ما كان عليه عام 1996. أما أسباب ذلك، فالحديث الكافي عنها يطول، والبحث فيها يستوجب المزيد من الوقت والمساحة والتركيز.
*كاتب وأكاديمي سوري