تحقيقات وتقارير

ديك تشيني… مهندس مأساة العراق

ديك تشيني… مهندس مأساة العراق

رحل، أول أمس، ديك تشيني، الرجل الذي أعاد تشكيل سياسات واشنطن، الداخلية والخارجية، مخلَّداً بدوره الرئيس في هندسة غزو العراق، وترسيخ نهج الحروب الدائمة والتعذيب الممنهج.

ريم هاني

مع وفاة نائب الرئيس الأميركي السابق، ديك تشيني، الذي دفعت «سمعته» بالبعض إلى تشبيهه بدارث فيدر، إحدى أشهر الشخصيات الشريرة الخيالية في تاريخ السينما – من عالم «Star Wars» -، وذلك عن عمر يناهز 84 عاماً، أعيد استحضار تاريخ المسؤول الأميركي الذي كانت له اليد الطولى في محاولات تغيير شكل الشرق الأوسط، كما في تعزيز اتجاهات معيّنة في السياسات الأميركية «إلى الأبد». ومما قد لا يعرفه كثيرون، من جملة استراتيجيات وتكتيكات أعادت تكوين البصمة العسكرية الأميركية في المنطقة، وأجّجت، طبقاً لكثيرين، المشاعر المعادية للولايات المتحدة لسنوات قادمة، أن تشيني كان هو من حصل، شخصياً، على دعم الملك السعودي آنذاك، فهد بن عبد العزيز، لاستضافة القوات الأميركية على الأراضي السعودية.

لمحة تاريخية
منذ عام 1989 حتى عام 1993، شغل تشيني منصب وزير الدفاع في إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش، وأشرف على تخفيضات في القوات العسكرية بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، جنباً إلى جنب الغزو العسكري الأميركي لبنما ومشاركة قوات بلاده في «حرب الخليج». وبعدما خسر بوش محاولة إعادة انتخابه في عام 1992، أصبح تشيني زميلاً في معهد «أميركان إنتربرايز»، وهو مركز أبحاث محافظ، قبل أن يتولّى، عام 1995، رئاسة مجلس الإدارة ومنصب الرئيس التنفيذي لشركة «هاليبرتون»، وهي شركة مورّدة للتكنولوجيا والخدمات لصناعات النفط والغاز، سيكون لها دورٌ بارز في العراق حتى بعد انتهاء ولايته كنائب لبوش في ولاية الأخير الثانية.

وبعدما ضمنت انتصارات بوش، في الانتخابات التمهيدية، ترشيحه لرئاسة الولايات المتحدة، تمّ تعيين تشيني رئيساً للجنة البحث عن نائب الرئيس، فيما كان لافتاً أن يصبح الأخير نفسه، في نهاية المطاف، مرشّح الحزب الجمهوري لذلك المنصب. وبعد أسبوعين من يوم الانتخابات، أصيب تشيني، مرة أخرى، بنوبة قلبية خفيفة، قبل أن يستأنف مهامه كزعيم لفريق بوش الانتقالي الرئاسي.
وخلال ولايته كنائب للرئيس، استخدم نفوذه للمساعدة في تشكيل سياسة الطاقة والسياسة الخارجية للإدارة في الشرق الأوسط؛ إذ لعب دوراً مركزياً ومثيراً للجدل في نقل التقارير الاستخباراتية التي تفيد بأن صدام حسين قد طوّر أسلحة الدمار الشامل، في انتهاك للقرارات التي كانت قد وردت في تقارير الأمم المتحدة، والتي استخدمتها إدارة بوش لبدء حرب العراق.

وفي أعقاب انهيار نظام صدام، حصلت شركة «هاليبرتون» التابعة لتشيني، على عقود إعادة إعمار مربحة من حكومة الولايات المتحدة، حامت حولها شكوك المحسوبية والمخالفات، ما أضرّ بسمعته إلى حدّ كبير. وآنذاك، اتّهمه أعضاء في الكونغرس بأنه موظف عام سرّي، ورفعوا دعوى ضده لعدم الكشف عن السجلّات المٌستخدمة لتشكيل سياسة الطاقة الوطنية. وبعد تركه منصبه في عام 2009، ظلّ تشيني تحت الأنظار، وكثيراً ما كان يعبّر عن مواقفه في القضايا السياسية. وفي عام 2010، أصيب بنوبة قلبية خامسة؛ لتُجرى له بعد عامين، عملية زرع للقلب، الذي أدّى مرضه به، جنباً إلى جنب الالتهاب الرئوي، إلى موته الثلاثاء.

«تغيير» أميركا
على الرغم من الأدلة الدامغة والتحذيرات الاستخباراتية التي تتناقض مع ادّعاءاته، تمسّك تشيني، حتى أيامه الأخيرة، بالترويج لـ«أحقية» الغزو الأميركي للعراق، والذي أسفر عن تدمير البلاد وقتل مئات الآلاف من المدنيين العراقيين نتيجة الحرب والعقوبات. ولضمان تنفيذ «أجندته»، أدّى تشيني، طبقاً لتقرير أوردته صحيفة «ذي غاريان» البريطانية، الدور الرئيس في إقناع وكالات الاستخبارات بإعداد تقارير تتوافق مع قناعة الإدارة آنذاك، بأن العراق يشكّل «تهديداً وجودياً»، وأنه على وشك الوقوع في أيدي «الإرهابيين». وبحسب الصحيفة، فإن تشيني ألغى «القواعد التي تحمي استقلال وكالات الاستخبارات من خلال الذهاب شخصياً في عدة مناسبات إلى مقر (وكالة المخابرات المركزية) في لانغلي في ولاية فرجينيا، لهدف واضح، ألا وهو ترهيب محلّلي الاستخبارات».

ونقلت الصحيفة عن بول بيلار، الذي كان ضابط الاستخبارات الوطنية لمنطقة الشرق الأدنى وجنوب آسيا في «مجلس الاستخبارات الوطني» خلال فترة الغزو، قوله إن تشيني كان «شخصية رئيسة في إفساد العلاقة بين الاستخبارات والطبقة السياسية، من أجل الترويج لحرب العراق»، وإنه أعلن في خطاب ألقاه في آب 2002، أنه «ليس هناك شك في أن صدام حسين يمتلك الآن أسلحة دمار شامل، وذلك قبل أسابيع من بدء مجتمع الاستخبارات العمل على ما سيصبح تقديراً سيّئ السمعة حول هذا الموضوع».

زار تشيني شخصياً مقرّ الـ«سي آي إيه» بهدف «ترهيب» محلّلي الاستخبارات

وعليه، وعلى الرغم من أنه أصبح يُنظر إليه، في السنوات الأخيرة، على أنه «معتدل»، بسبب معارضته الشديدة لدونالد ترامب، ولا سيما بعدما فاجأ العالم، في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، بإعلانه دعم كامالا هاريس، إلا أنّه سيظل، طبقاً لمراقبين، المتهَم الأول بتمهيد الطريق لـ«الترامبية»، بعدما ساهم في تقويض استقلال وكالات الاستخبارات، والتزام الولايات المتحدة – الظاهري والاستنسابي على أي حال – بالقانون الدولي. وبصورة أعمّ، غيّر نائب الرئيس «الحاكم»، آنذاك، صلاحيات الرئاسة، بذريعة أن البيت الأبيض كان «مُقيَّداً بشكل غير مبرّر» من قبل الكونغرس في أعقاب رحيل إدارة ريتشارد نيكسون وفضيحة «ووترغايت»، في أسلوب مشابه لممارسات ترامب اليوم.
في السياق نفسه، يرد في تقرير نشره موقع «ريسبونسبل ستايتكرافت» الأميركي، أن «أكاذيب تشيني حول أسلحة الدمار الشامل هي، بكل المقاييس، العنصر الذي أوصل الولايات المتحدة إلى ما هي عليه، تليها الأخطاء الفادحة من مثل عدم توقّع التمرد العراقي، والخسائر في أرواح الملايين، جنباً إلى جنب التكلفة التي تكبّدتها الخزانة الأميركية، وظهور حرب جديدة اتّسمت بالقتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب، والحرب اللامتناهية، التي غيّرت المجتمع والسياسة في أميركا، ربما إلى الأبد».

ويبرّر أصحاب الرأي المتقدّم موقفهم بالإشارة إلى أن «استغلال الحزن والخوف والقومية الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، لمواصلة حروب المحافظين الجدد في الشرق الأوسط، أدّى إلى إضعاف ثقة الناس في المؤسسات الحكومية، وتدمير الحزب الجمهوري إلى حدّ كبير، بالإضافة إلى ظهور الحركات الشعبوية». كذلك، خلقت سياسات تشيني، طبقاً للمصدر نفسه، جيلاً من المحاربين القدامى الذين يكنّون قدراً أكبر من عدم الثقة في النخب مقارنة بفترة حرب فيتنام. كما أطلقت العنان لحرب المرتزقة، والطائرات المُسيّرة القاتلة، والحروب الأهلية، وتعزيز سلطات الشرطة في الولايات المتحدة، «التي لم تؤدّ إلا إلى جعل الناس أقل حرية وأكثر خوفاً من حكومتهم، بعدما منحت سياساته السلطة الأميركية الحق في «قصف واحتجاز وقطع رأس أي زعيم حكومي لا يرضيها».

إيران
ولم يمضِ أكثر من 13 عاماً على زعمه أن بغداد كانت تسعى للحصول على «أنابيب الألومنيوم» لبناء أسلحة نووية، وما تلاه من سلسلة من الهزات الارتدادية التي أغرقت الشرق الأوسط في حالة من الاضطراب حتى يومنا هذا، عمد تشيني إلى تصوير طهران، أيضاً، على أنّها «تهديد وجودي» جديد لواشنطن؛ معرباً عن معارضته للاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. آنذاك، أكّد تشيني، في خطاب موجّه إلى الجمهور الأميركي، شكّل «محاولة أخيرة»، وإن محكومة بالفشل، لعرقلة الاتفاق المبدئي الذي كان قد أُبرم مع إيران، أن الأخير «سيمنح طهران الوسائل اللازمة لشن هجوم نووي على الوطن الأميركي»، علماً أن تشيني أمضى جزءاً وافراً من ولايته في إجراء سلسلة من الرحلات المكوكية لحشد دعم دول الخليج ضدّ طهران.

ومن أبرز الأحداث التي طبعت سجلّه الحافل أيضاً، شرعنة استخدام التعذيب ضد أعضاء «القاعدة» المشتبه بهم، والمحتجزين من دون تهمة في «المواقع السوداء» التابعة لـ«وكالة المخابرات المركزية»، بعدما زعم أن ما وصفه بـ«تعزيز الاستجواب» – وهو التعبير الملطّف الذي استخدمته إدارة بوش لتبرير استخدام التعذيب – قد «أبقانا آمنين». ويشكّل معسكر الاعتقال الشهير في غوانتانامو، إرثاً آخر من حقبة بوش – تشيني، ولّد مأزقاً قانونياً للإدارات المتعاقبة، فيما أصبح ترامب يستخدمه، اليوم، كمركز لاحتجاز المهاجرين المُرَحّلين.

الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب