تحقيقات وتقارير

المعازل وإعادة هندسة الهيمنة الاستعماريّة في الضفة الغربية المحتلة

المعازل وإعادة هندسة الهيمنة الاستعماريّة في الضفة الغربية المحتلة

ربايعة: الجدار قام بهندسة حياة الفلسطيني الموجود خلفه، بحيث يضطر إلى التكيف مع الوضع الجديد، الذي أصبح معه وصوله إلى أرضه استثناءً. ولذلك صار من يريد قطف الزيتون بحاجة إلى تصريح من الاحتلال.

في فصلٍ من كتاب “تحوّلات المجتمع الفلسطيني بين أوسلو وزمن الإبادة” الصادر عن مركزي رؤية والشرق، تناول الباحث إبراهيم ربايعة، تحت عنوان “المعازل – هيمنة وإعادة هندسة استعمارية”، فكرة عزل الفلسطينيين في الفكر الصهيوني وتاريخها الممتد منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967.

فبعد احتلال الضفة مباشرة، كما يقول، كان الشغل الشاغل للحكومة الإسرائيلية هو كيفية عزل الفلسطينيين في كانتون أو اثنين، وتسليم أجزاء محدودة للأردن، وابتلاع ما تبقّى من الأرض. وقد رأى وزير الجيش موشيه ديان أن السيطرة على سلاسل الجبال، وخلق مستوطنات وشبكات تقطع الضفة، وتُبقي الفلسطيني على تماسّ مباشر مع الاحتلال، كفيلٌ بجعله يستشعر عدم جدوى التفكير في طرد الإسرائيلي.

ثم توالت خطط الفصل والعزل التي كانت محطّ نقاش في أروقة الحكومة والكنيست، وصولًا إلى خطة شارون مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، التي كانت من أوائل الخطط التي أفضت إلى خرائط تضع الفلسطينيين في الضفة الغربية داخل ثمانية معازل رئيسية، محاطة بسيطرة إسرائيلية مطلقة تغطي 50% من مساحة الضفة.

ويشير الباحث إلى أن خطة شارون شكّلت المدخل العملي لتقسيمات أوسلو، إذ حدّد قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، إيلان بيران، الأولويات الأمنية لجيشه، موصيًا بالاحتفاظ بما سُمّي “التّخوم” في غور الأردن، والأحزمة الاستيطانية، ومحاور الطرق والبنى التحتية، وحاضنة القدس. كما كان بيران أوّل من ابتدع الطرق الالتفافية.

وبعد أوسلو، وفي ظل التجاذب بين اليمين واليسار في إسرائيل، قدّم رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين خطة أطلق فيها ولأول مرة مصطلح الفصل بين الشعبين. وأكّد في خطاب عام 1995 على ثوابته: “لن نعود إلى خطوط عام 1967، ولن ننسحب من القدس، ولن نتزحزح عن غور الأردن”. وقد قُرئت خطة الفصل تلك، إسرائيليًا وفلسطينيًا، بوصفها مشروعًا لقطع الفلسطينيين في قلب القدس عن باقي مناطقها، وإعادة إنتاج حياتهم الاجتماعية والاقتصادية في معازل قسرية.

ومع وصوله إلى الحكم بعد اشتعال الانتفاضة الثانية، عمد شارون إلى تقطيع الضفة الغربية وفق رؤيته التي قدّمها مطلع التسعينيات، من خلال عدد كبير من الحواجز ونقاط التفتيش العسكرية التي وصلت في ذروتها إلى نحو 600 نقطة. كما اعتمد تصنيفًا وتلوينًا للمعازل الفلسطينية أمنيًا، بما يحمل ذلك من انعكاسات على الحركة والمرور والسفر والعمل وغيرها. وقد أنتجت هذه المنظومة، كما يؤكد الباحث، هشاشة غير قابلة للترميم في النظام السياسي الفلسطيني، وشكلاً وصفه أورِن يفتاحئيل من جامعة بن غوريون بـ”الرعاية الاستبدادية على الجغرافيا”.

ومع مطلع عام 2023، وثّق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) وجود 565 عائقًا أمام الحركة والتنقّل في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، من بينها 28 حاجزًا يتمركز عليها جيش الاحتلال بشكل دائم. وقد فُعّلت هذه المنظومة كمنظومة عزلٍ بصورة أوضح بعد 7 أكتوبر، إذ جرى تحويل المدن والقرى والمحافظات الفلسطينية إلى معازل ضيقة وسجون مقيّدة، ضمن ما تصفه الدراسة بنظام “كنتنة” استعماري.

وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” الباحث إبراهيم ربايعة لإلقاء مزيد من الضوء على الموضوع.

الباحث إبراهيم ربايعة

“عرب 48”: أشرتَ إلى أن منظومة المعازل منظومة تراكمية غير مرتبطة بحدث معيّن، بل نابعة من استراتيجية استعمارية. وهي، وإن ارتبطت في أذهاننا بتقسيمات أوسلو، فإنها بدأت بالترجمة على الأرض منذ اليوم الأول لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة؟

ربايعة: المعازل هي شكل من أشكال المأسسة، وهي فعلًا منظومة تراكمية مرتبطة بالإستراتيجية الاستعمارية والبنية الاستعمارية الإسرائيلية، التي تقوم على التعامل المركزي مع الفلسطيني، أرضًا وديمغرافيًا بشكل عام، وتبتغي تقطيع أوصال الجغرافيا الفلسطينية وبعثرتها في الحيّز الاستيطاني الإسرائيلي المترابط، لمنع نشوء أي كيان سياسي فلسطيني مستقل.

وأناقش في الورقة مفهوم المعزل في السياق الاستعماري الصهيوني وموضعه في العقيدتين الأمنية والسياسية الصهيونيتين، وممارسته في الأرض المحتلة، ومراحله بعد العام 1967، وتحوّلاته بعد نشأة السلطة الوطنية. كما أستعرض فهم السياسة الإسرائيلية الرسمية للعلاقة مع الفلسطينيين بعد الاحتلال، والتي تقوم على الفصل بين الفلسطيني وأرضه، عبر رسم منظومة سياسات تهدف إلى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأرض بأقل عدد من السكان، وتكوين المعازل المانعة للكيانية الفلسطينية والمعزّزة لأدوات التحكّم والرقابة والسيطرة.

“عرب 48”: قلت إن هذه السياسة بدأت فعليًا مع بداية الاحتلال وتكرّست بشكل فعلي مع أوسلو وتشكيل مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية؟

ربايعة: دعنا نقول إن نظام الحكم، سواء العسكري أو المتمثّل بالإدارة المدنية الإسرائيلية، كان يقوم على تصنيف الفلسطينيين وتقسيمهم. ورغم التمييز بين هندسة فكرة المعازل وبين استخدامها وفق الحاجة الاستعمارية، سواء كانت استيطانية أو أمنية أو أيديولوجية، فإن بناء هذا النموذج كان مبكّرًا. وقد بدأ بتقسيم الضفة الغربية إلى ألوية، وكان التنقّل فيما بينها في بعض المراحل عملية صعبة، مع تحديد نطاقات العمل بإجراءات وأوامر عسكرية. وإلى جانب منظومة العزل التشريعية والإدارية والقانونية والعسكرية المباشرة في كامل الأرض التي احتُلّت بعد العام 1967، كانت القدس أولى المعازل التي أُنشئت بعد العام 1967، حيث جرى ضمّها بعد ضمّ 71 ألف دونم إلى حدودها البلدية، ومصادرة أراضي 22 قرية فلسطينية بعضها تابع لبيت لحم جنوبًا، ما أسّس لعزل قانوني وجغرافي للقدس عن باقي الضفة الغربية.

“عرب 48”: وماذا عن قطاع غزة؟

ربايعة: قطاع غزة تحوّل إلى معزل بعد فشل خطط تفريغه من السكان وطردهم، إذ بلغ عدد سكانه في العام 1967 حوالي 400 ألف. ورغم محاولات الاحتلال خفض عدد سكان القطاع في عدة مناسبات، فإن الديمغرافيا في القطاع لم تتغيّر. فقد سيطر الاحتلال على حوالي 42% من أراضي القطاع من خلال تحويل الأراضي إلى مناطق عسكرية ومصادرتها، وإنشاء 18 مستوطنة، وعزل القطاع عن مصر عبر إفراغ الشريط الحدودي، وتقطيع غزة إلى ثلاثة معازل أمنية: رفح وخانيونس جنوبًا، دير البلح ومحيطها في الوسط، وغزة ومحيطها شمالًا.

“عرب 48”: نستطيع القول، استنادًا إلى الورقة، إن سياسة العزل الإسرائيلية مرّت بثلاث مراحل: الأولى من بداية الاحتلال وحتى أوسلو، والثانية من أوسلو وحتى بناء الجدار، والثالثة ما بعد بناء الجدار وحتى اليوم؟

ربايعة: المرحلة الأولى هي مرحلة ديان وألون، وما ميّز سياسة حزب العمل من محاولة احتواء الفلسطينيين. وبالتالي لم يكن هذا التقسيم بالمعنى الحاد، لكن التقسيم صُمّم لاحقًا عندما جاءت الإدارة المدنية، أو ترافق بالأحرى مع ثلاثة أحداث متلاحقة: الإدارة المدنية التي سبقها مجيء الليكود للحكم، وصعود الحركة الوطنية الفلسطينية في الأراضي المحتلة. هذه الأحداث، التي وقعت بين أعوام 1976–1981، جعلت إسرائيل ترسّخ نظام المعازل، وصولًا إلى الانتفاضة الأولى التي ظهر خلالها نظام العزل بشكل فجّ.

المرحلة الثانية هي مرحلة تقسيمات أوسلو التي صنّفت الضفة الغربية إلى مناطق “أ”، “ب” و”ج”، وقسّمتها بذلك إلى ثلاثة أنواع من المعازل: عريضة وضيّقة وغير ذلك. وهو تقسيم مرتبط ببنية أوسلو نفسها التي تنطلق عمليًا من كون مناطق “ج” ليست ذات كثافة سكانية، وبالتالي يجب تحديد وصول الفلسطينيين إليها واستخدامهم لمواردها. ولتحقيق ذلك أُخضعت لسيطرة إسرائيلية مطلقة، بينما خضعت منطقة “ب” لسيطرة أمنية إسرائيلية فقط، بمعنى أنها وُضعت تحت الاختبار بانتظار رؤية النتائج. في حين اقتصرت السيطرة الفلسطينية على مناطق “أ” التي تضمّ المدن الفلسطينية.

أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة بناء الجدار الذي قام بعزل المناطق ذات الكثافة السكانية عن مناطق “ج” بجعلها خلف الجدار، وهو امتداد لمرحلة تقسيمات أوسلو.

“عرب 48”: الجدار الذي ادّعوا أنه جدار أمني، رسم ما يشبه حدودًا فاصلة وشطب الخط الأخضر الذي شكّل حدودًا دولية قبل عام 1967، وقطع أوصال العديد من التجمعات السكانية الفلسطينية، فيما عزل تجمعات أخرى عن أرضها؟

ربايعة: الجدار قام بهندسة حياة الفلسطيني الموجود خلفه، بحيث يضطر إلى التكيف مع الوضع الجديد، الذي أصبح معه وصوله إلى أرضه استثناءً. ولذلك صار من يريد قطف الزيتون بحاجة إلى تصريح من الاحتلال، كما أصبح امتداد الفلسطيني الموجود في برطعة – على سبيل المثال – نحو الداخل الفلسطيني وليس نحو الضفة الغربية، وبالتالي انقطعت علاقاته التجارية والاقتصادية مع الضفة الغربية. فبرطعة اليوم غير مرتبطة اقتصاديًا بجنين كما كانت في السابق، بل بالنصف الثاني من برطعة الواقع داخل الخط الأخضر.

من جهة ثانية، فإن هذه المساحات التي يُجرى تسمينها اقتصاديًا وديمغرافيًا لضرورات استعمارية وقتية، يُجرى ضربها وتدميرها لاحقًا، مثل حوارة مؤخرًا والرام بعد الانتفاضة الثانية، اللتين شكّلتا مراكز تجارية، ثم جرى قتلها لاحقًا بسبب تراجع دورها في الاستراتيجية الاستعمارية.

“عرب 48”: اليوم هناك نموذج كفر عقب أيضًا؟

ربايعة: بالمقارنة بين الرام وكفر عقب، فإن الرام انتعشت بعد الانتفاضة الثانية وتحولت إلى مركز اقتصادي، لأن الناس أصبحت غير قادرة على الوصول إلى رام الله والقدس، فشكّلت الرام نقطة التقاء وتحولت في حينه إلى مركز تجاري مهم جدًا، حيث أقام الناس منشآتهم ومحلاتهم التجارية فيها. لكن في لحظة واحدة انهار كل شيء، واليوم الرام خاوية. أما كفر عقب، فتحقق اليوم غرض أن الفلسطيني المقدسي يحتمي في هذه المنطقة لأنها تقع في المساحة الرمادية، ولذلك هي في فترة انتعاش مؤقت.

حوارة أيضًا هي اليوم مدينة أشباح بعد أن كان فيها 500 محل ومنشأة اقتصادية، حيث تم قتلها بمجرد تغيير الطريق الذي كان يمرّ منها، وهو أمر جاء بعد سلسلة اعتداءات المستوطنين. وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى مهمة، وهي أن هذه الاعتداءات ليست عشوائية، بل هي جزء من منظومة المعازل، وما نراه في الأغوار منذ بداية الحرب يعكس هذا الدور تمامًا.

“عرب 48”: تقصد دور المستوطنين في مسألة الترانسفير؟

ربايعة: في مسألة دور المستوطنين في تحويل منطقة فلسطينية معينة إلى معزل، وجعل منطقة أخرى منطقة رمادية، وتهجير الفلسطينيين كنتيجة.

“عرب 48”: أشرتَ إلى أن القدس شكّلت المعزل الأول بعد عام 1967 نتيجة ضمها إلى إسرائيل بعد ضم مساحة واسعة من الضفة الغربية إلى حدودها البلدية، الأمر الذي تفاقم أكثر بعد بناء الجدار؟

ربايعة: صحيح. فقد عزل قرار ضم القدس المدينةَ عن سائر أرجاء الضفة الغربية، وقطع وشائج العلاقة التجارية والاقتصادية والإدارية بينهما في وقت مبكر، بعد أن صار الدخول إلى المدينة يحتاج إلى تصريح. إلا أن الجدار قسّم المدينة الواحدة والمنطقة الواحدة بعد أن أخرج جزءًا من أحيائها وقراها إلى ما وراء الجدار، مثل أبو ديس والعيزرية وحزما، وبذلك قطع ارتباطها بالمدينة.

هذا كله مرتبط بمشروع ضم القدس والاستيطان التوسعي في المدينة، واليوم سيجعل البناء في منطقة “إي1” الأمر أكثر تعقيدًا، لأن الموضوع لا ينحصر بخلق بيئة طاردة، بل بحصار المنطقة الفلسطينية وجعلها منطقة معزولة عن محيطها.

“عرب 48”: البناء في منطقة “إي1” هو بمثابة إغلاق للدائرة الاستيطانية حول القدس؟

ربايعة: صحيح. والنتيجة أن الفلسطينيين في الضفة الغربية يعيشون اليوم في 500 معزل مقابل ما يشبه دولة أو دويلة متواصلة للمستوطنين.

“عرب 48”: وهي متواصلة مع مناطق 48 عبر الشوارع الالتفافية التي تربط التجمعات الاستيطانية بمركز إسرائيل دون المرور بأي تجمع فلسطيني؟

ربايعة: ما نراه أن منظومة المعازل تلك تم تفعيلها خلال حرب الإبادة وتوظيفها لإتمام المشروع الاستيطاني. وعمليًا اليوم، فإن الـ1000 بوابة الموجودة في الضفة الغربية نقلت منظومة الحواجز إلى مستوى آخر أصبحت معه حرية الحركة والترابط هي الاستثناء، والقاعدة هي العزل.

“عرب 48”: لقد تم قلب الوضع القائم في الضفة الغربية رأسًا على عقب، بحيث أصبحت المستوطنات المتناثرة في المحيط السكاني الفلسطيني هي المحيط، والتجمعات الفلسطينية هي المعزولة والمتناثرة؟

ربايعة: البؤر الاستيطانية ليست عشوائية ولا متناثرة، بل إن انتشارها هو انتشار منضبط ومرتبط بالصورة الكبيرة، وهدفه الربط بين كل الأذرع الاستيطانية وتحويلها إلى شبكة متكاملة ومتواصلة، مقابل تحييد وعزل المساحات الفلسطينية وتحويلها إلى مساحات مقيّدة وطاردة، وكل ذلك ضمن استراتيجية واضحة المعالم تهدف إلى إحباط إقامة أي كيان سياسي فلسطيني، وضم الضفة الغربية وتحويلها إلى جزء لا يتجزأ من إسرائيل.


إبراهيم ربايعة: باحث وأكاديمي في العلوم السياسية والاقتصاد السياسي، مدير السياسات والبحوث في مركز الأبحاث الفلسطيني في منظمة التحرير، ومدير تحرير دورية شؤون فلسطينية الصادرة عن المركز. وهو أستاذ غير متفرّغ بدائرة العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، وحائز على شهادة الدكتوراه في الدراسات السياسية من جامعة ملايا في ماليزيا. يهتم بحثيًا بالاقتصاد، والتحول السياسي، والمجتمع والمؤسسة السياسية الفلسطينية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب