تونس: أزمة تتفاقم بين تجدد الاحتجاجات الاجتماعية وجدل المحاكمات

تونس: أزمة تتفاقم بين تجدد الاحتجاجات الاجتماعية وجدل المحاكمات
روعة قاسم
لا يزال الجدل محتدما حول موضوع المحاكمات التي تطال قيادات سياسية معارضة ورجال قانون وأعمال وإعلاميين ومدونين ونشطاء وغيرهم من الفاعلين في الشأن التونسي العام.
تونس ـ : تعيش تونس على وقع تجدد الاحتجاجات والإضرابات في عديد القطاعات، في وقت يتصاعد فيه الجدل حول المحاكمات الدائرة بحق عدد من النشطاء السياسيين والإعلاميين والمدونين. ففي خضم الأزمة السياسية والحقوقية والاجتماعية شارك الصحافيون في التحرك الذي دعت إليه النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين. كما شارك في الحراك ممثلو المنظمات الحقوقية، ومكونات المجتمع المدني، وذلك دفاعا عن حرية الإعلام وكرامة الصحافيين. كما يستعد قطاع التعليم الأساسي للدخول في اضراب في كانون الثاني/يناير المقبل.
ومن قطاع الإعلام إلى الأطباء، والتعليم، تتوسع الحركة الاحتجاجية في الشارع التونسي وسط هواجس من تفاقم الوضع المتأزم في البلاد وتداعياته.
دخل آلاف الأطباء الشبان في المستشفيات العمومية وكليات الطب بتونس في اضراب خلال هذا الأسبوع، احتجاجا على مماطلة السلطات في تنفيذ اتفاق موقع بشأن زيادات في الأجور والمنح. وشارك عدد من الأطباء المضربين في وقفة احتجاجية أمام مقر البرلمان، للتعبير عن رفضهم لتعثر المفاوضات الاجتماعية مع وزارة الصحة.
وتعتبر منظمة الأطباء الشبان أن السلطات تراجعت عن بنود الاتفاق الموقع مع وزارة الصحة في 3 تموز/يوليو الماضي، والذي يتعلق أساسا بطرق احتساب الزيادة المحدودة في المنح، وعدم صرف منح أخرى مؤجلة تعود إلى عام 2020، إلى جانب التراجع عن مطالب اجتماعية أخرى. وأكدت المنظمة في بيان أن هذه «التجاوزات لم تعد مجرد إخلالات إدارية أو اختلافات تقنية، بل تمثل انقلابا صارخا على اتفاق وطني».
وبالموازاة، شارك آلاف العمال في إضراب عن العمل، شمل العشرات من مؤسسات القطاع الخاص في مدينة صفاقس، للمطالبة بزيادة الأجور بدعم من الاتحاد العام التونسي للشغل. وقال الاتحاد الجهوي للشغل في صفاقس، إن الإضراب يأتي في ظل غلاء متواصل للمعيشة وتدهور المقدرة الشرائية.
وفي الأثناء، لا يزال الجدل محتدما في تونس حول موضوع المحاكمات التي تطال قيادات سياسية معارضة ورجال قانون وأعمال وإعلاميين ومدونين ونشطاء وغيرهم من الفاعلين في الشأن التونسي العام. فمع كل حكم جديد يصدره القضاء التونسي بحق أحد هؤلاء تبرز أصوات مبررة تنتمي بالأساس إلى الموالاة، وأخرى منتقدة رافضة تنتمي أغلبها إلى صفوف المعارضة والمنظمات الحقوقية.
فالموالون يعتبرون أن هذه المحاكمات دخلت في خانة المحاسبة التي طالب بها التونسيون بقوة بعد الثورة، ويرون أن نتائج الفساد والمتمثلة في الخراب الذي طال البلد بادية للعيان في كافة الميادين وخصوصا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. بينما يرى المعارضون لهذه المحاكمات أنها تدخل في باب التشفي وإقصاء كل أشكال المعارضة السياسية والتأسيس لديكتاتورية جديدة يتم فيها الاستفراد بالسلطة وتُسلب فيها الحقوق وتُقمع فيها الحريات.
ولعل آخر هذه المحاكمات المثيرة للجدل تلك المتعلقة برئيس حركة النهضة المعارضة راشد الغنوشي، التي أصدرت فيها المحكمة الابتدائية بالعاصمة حكما ابتدائيا قابلا للاستئناف بالسجن لمدة عامين، وذلك على خلفية تبرع الغنوشي بمبلغ من المال لصالح الهلال الأحمر التونسي تحصل عليه من خلال جائزة نالها سنة 2016. وتمنح هذه الجائزة الدولية التي نالها الغنوشي وتبرع بها للهلال الأحمر مؤسسة جامنلال باجاج الهندية، وتُقدمها إلى الشخصيات العالمية التي تعمل على تعزيز قيم السلام والتسامح ونشر المبادئ الغاندية للسلام والتسامح.
وتبلغ قيمة الجائزة 14 ألف دولار لا غير، أي أن المبلغ بنظر المنتقدين زهيد ولا يستحق تلك العقوبة التي وصفت بأنها قاسية، بالإضافة إلى أن المبلغ المالي موضوع التتبع القضائي لا يعود إلى الدولة التونسية وذهب لتمويل مؤسسة خيرية رسمية أهدافها نبيلة. كما أن الأمر، برأيهم، تم في العلن وليس عبر قنوات سرية تثير الشك والريبة.
ويؤكد المنتقدون أيضا على أن هناك خروقات إجرائية طالت المحاكمة أهمها عدم حضور الغنوشي للدفاع عن نفسه، واعتبروا المحاكمة تفتقد إلى أبسط شروط المحاكمة العادلة التي يجب توفرها. والحقيقة أن هذه الانتقادات المتعلقة بالجانب الإجرائي تطال كل المحاكمات التي تهم النشطاء المشار إليهم خاصة وأن القواعد الإجرائية تعتبر في تونس من النظام العام الموجبة للاحترام والإخلال بها يمس بعدالة المحاكمة.
بالمقابل يرى الموالون أنه حتى إذا تعلق الأمر بجائزة سيتم التبرع بها لمؤسسة خيرية أهدافها نبيلة، وجب على رئيس حركة النهضة احترام جملة من الإجراءات ومنها ترخيص البنك المركزي التونسي. ويرى هؤلاء أن المرور عبر المؤسسة المالية الرسمية التونسية يشترطه القانون لتفادي جرائم تبييض الأموال التي يتم فيها إيصال سيولة مالية إلى جهات تقوم بأنشطة غير قانونية من خلال مؤسسات ذات أهداف وغايات نبيلة.
ويشار إلى أن رئيس حركة النهضة قد صدرت بحقه عدة أحكام بالسجن في قضايا مختلفة تمسك فيها بعدم الحضور للمحاكم. فالغنوشي يعتبر هذه المحاكمات سياسية وليست قضايا حق مثلما يتم الترويج إلى ذلك.
إضراب جوع
ومن الأحداث المثيرة للجدل أيضا إضراب الجوع الذي يقوم به القيادي بجبهة الخلاص الوطني المعارضة جوهر بن مبارك، والذي يطالب من خلاله السلطات بأن تفرج عنه وعن بقية رفاقه في قضية التآمر على أمن الدولة. وكان بن مبارك الذي حكم عليه ابتدائيا بـ18 سنة سجنا في هذه القضية قد أعلن في رسالة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بأنه سيواصل إضراب الجوع والنضال بجسده، على حد تعبيره، حتى تتحقّق مطالبه.
واعتبر البعض أن تجاهل السلطات التونسية لنداءات عائلة جوهر بن مبارك وهيئة دفاعه «مسّا خطيرا بالحق في الحياة ويكشف عن تدهور غير مسبوق في أوضاع الحريات بتونس». كما عبر الكثيرون في وقت سابق عن تضامنهم مع جوهر بن مبارك ودعوا إلى نقله إلى المستشفى وتمكينه من العلاج باعتبار أن ذلك يدخل في باب حقوق السجين وهو من أبسط حقوق الإنسان.
ودعت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في وقت سابق إلى الإفراج عن جميع الموقوفين في هذه القضايا التي اعتبرتها ذات طابع سياسي مع تمكين المتهمين من حقهم في المحاكمة العادلة والرعاية الصحية. وأكدت الرابطة على أن استمرار جوهر بن مبارك في الإضراب الوحشي احتجاجا على ما اعتبرته «محاكمة سياسية تفتقر لأدنى مقومات العدالة»، يحمل السلطات مسؤولية مباشرة عن حياته وسلامته الجسدية على حد تعبيرها.
وفي إطار المساندة ولفت الرأي العالم لإضراب جوهر بن مبارك دخل معتقلون آخرون في إضراب عن الطعام. وهؤلاء هم الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، والقيادي السابق في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي، والقيادي بجبهة الخلاص رضا بلحاج.
بالمقابل هددت الهيئة العامة للسجون والإصلاح في تونس برفع شكاوى قضائية ضد كل من تعمد نشر أخبار ومعطيات مغلوطة حول المعاملة في السجون التونسية للموقوفين في هذه القضايا. وأكدت الهيئة أن وضعيات المساجين عادية ومستقرة، على حد تعبيرها، وأن ما يتم الترويج له من أنهم مضربون عن الطعام غير صحيح، فهم بحسب الهيئة يتناولون الأكل، كما أنه لا وجود برأيها لما يتم تداوله عن تدهور صحة بعض المساجين.
وتؤكد الناشطة الحقوقية آمنة الشابي في حديثها لـ«القدس العربي» أن هناك حالة قلق من هذه المحاكمات التي تتعلق بنشطاء سياسيين ورجال قانون وإعلاميين وغيرهم من الفاعلين على الساحة السياسية والإعلامية وغيرها. فهذه المحاكمات عن بعد غير مألوفة، حسب محدثتنا خاصة وأن التقنيات الحديثة المعتمدة في هذه المحاكمات لا يمكن الوثوق بها وبإمكان البث أن ينقطع جراء انقطاع الربط بشبكة الإنترنت في أي لحظة أثناء المحاكمة وهو ما يمس من حق الدفاع الذي هو حق مقدس.
وتدعو الشابي إلى تنقيح القانون الجزائي التونسي الذي يتضمن عقوبات شديدة وقاسية وقانون الإجراءات الجزائية الذي يتضمن إجراءات مطولة ومرهقة للمظنون فيهم أو المشتبه بهم الذين هم بحالة احتفاظ أو إيقاف أو بالنسبة للمدانين الذي يقضون عقوبة سجنية.
«القدس العربي»




