السينما العربية ورصد صراع الهوية في القدس
أول ما قفز إلى ذهني أنه لا سينما في القدس، ففلسطين الأرض التي لم تعرف الرواية، إلا في ثلاثينيات القرن المنصرم، من أين لها بسينما، بناؤها وحجارة عمارتها الرواية! وبهذا أثار الكتاب فضولي «السينما العربية وصراع الهوية بالقدس» الصادر عن دار ومضة في الجزائر، فما الذي ستحكيه القدس عن السينما، أو ما الذي سترويه السينما عنها، والسؤال الأخير كان جوهر القضية. لنعد إلى البدايات، في كتابه أشار الباحث والكاتب عبد الله الحيمر إلى أن الاحتلال الإسرائيلي للقدس «فلسطين» لم يتم في عام 1948، ولا عند حصول الصهاينة على وعد بلفور، بل حدث الاحتلال قبل ذلك بكثير، لقد تم الاحتلال في الوهم والأساطير التي «حُشي» بها الغرب حشياً من أجل إخراج هذا «الوطن اليهودي» إلى الوجود، وفي التمهيد البصري والذهني لمقولة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». لقد اهتم المخرجون السينمائيون بالمدينة المقدسة، وكانت موضوعاً للعديد من أفلامهم، رغم أن فلسطين والفلسطينيين لم يكونوا على علمٍ بالسينما، ولا بالدور الاستعماري، الذي مورس ضدهم ومنذ وقتٍ مبكر، وفقاً للكاتب فإن أولى الأفلام التي التقطت لأرضنا قام فيها السيد الكسندر بروميو لصالح شركة لوميير الفرنسية التي يعمل من أجلها، وبقليل من التحليل البصري/ الذهني، ستبدو تلك الأرض القاحلة، الصخرية، والجافة والتي يعوزها «شعبٌ» يعمّرها، ظاهرة للعيان! ولا لبس في مدى صحة الأمر، ولا غموض، «فالصورة أكبر برهان» أو كما يقول المثل لا تصدق ما تسمع، وصدق نصف ما تراه، لكن في عالم الميديا الصورة برهان كاف ورسالة نمرر عبرها ما نشاء، والأفلام والصور التي تم توثيقها من قبل شركة لوميير – وما زالت في الأرشيف الوطني لفرنسا وللدول المهتمة بعلم السينما، كونها تمثّل أول عهدٍ للفيلم السينمائي – على سبيل المثال لا الحصر. وهذا يذكره المخرج والباحث السينمائي جورج خليفي في أحد كتبه: «إن فلسطين شكلت عامل جذب واستقطاب كبيرين بالنسبة لصانعي الأفلام الغربية في مطلع العشرينيات أيضا، لم يكن الأمر يتعلق بفلسطين، في أي شكل، لكنه أتى لخدمة الجمهور المسيحي، الذي يتوق لرؤية الأماكن المقدسة ويتبع إثر المسيح، بل إن الفلسطينيين ذاتهم كانوا مجردين من ذاتيهم، داخل اللقطات التي صورت الطبيعة في فلسطين ومعالمها الدينية المسيحية. وفي الوقت الذي بدأ فيه الفلسطينيون بالتعرف على السينما كتقنية جديدة، كانت صورهم تعرض في أفلام إثر إنتاجها داخل فلسطين، لكن دون أن يسمع فيها صوت فلسطيني واحد، إذ بقي الفلسطينيون مجرد خلفية للحدث الرئيس، وهو المستوطنات اليهودية التي أخذت على عاتقها مشروعها الثقافي هناك.»
والكتاب رحلة معرفية تضع القارئ والباحث أمام دراسة أنطولوجية سينمائية للأفلام الفلسطينية الحديثة، سواء القصيرة أو الطويلة في مدينة القدس. كما يتطرق الكتاب إلى تاريخ السينما الفلسطينية في القدس منذ سنة 1935 وصولا إلى سنة 1965، حيث جاءت السينما الفلسطينية كسلاح «مقاومة» نتيجة حالة الشتات، وتأسيس كيان سياسي يتبنى مشروعاً سينمائياً، وتحقق ذلك بقرار منظمة التحرير الفلسطينية التي دعمت مشاريع سينمائية، لتقدم رواية بديلة للرواية التي حاولت إسرائيل تقديمها عن الشعب الفلسطيني لفترة طويلة، خاصةً من خلال إنكار الوجود الفلسطيني، ومحاولة تصوير الجيش الفلسطيني بمظهر الضعيف والمستسلم و«شعب دون أرض» ومن خلال إخفاء الكمّ الكبير من الصور والأفلام التي تروي «بطولات» الشعب الفلسطيني.
إن الإسكات «البصري» للأرض كان مخططاً مدروساً، ليرسخ في أذهان المتلقين أن الأرض بحاجة لمن يعمّرها، الأمر الذي يتماهى والفكر الاستعماري الأوروبي في أوج حملاته الاستعمارية للشرق وتقسيم تركة الدولة العثمانية. استشهد الكاتب بمقولة المفكر العربي عبد الوهاب المسيري في موسوعته «اليهود واليهودية»: «تشكل الرؤية الصهيونية الحلولية للتاريخ، خريطة الصهاينة الإدراكية. فهم لا يمكنهم رؤية حقوق الآخرين، إذ كيف يمكن لشعب مقدس، بل ومتأله أن يدرك هذه الحقوق. وهم يرون أن احتلالهم فلسطين ليس اغتصاباً، وقيامهم بذبح الفلسطينيين هو مجرد دفاع عن النفس، وعن الحقوق اليهودية المطلقة لشعب مقدس يعود إلى أرضه المقدسة. وهكذا يختفي عنف الصهاينة ودمويتهم وراء ستار القداسة والحلول الإلهي».
الكتاب يغوص في فك شيفرة الآلة الإعلامية الصهيونية، ويفضح أساليب السينما الاحتلالية في الكيان الإسرائيلي، وطبيعة الخطاب السينمائي ومضمونه بشقيه الديني والمعرفي، ومحتواه الذي ينتج ويشكل الشخصية الإسرائيلية، وموقفها تجاه مدينة القدس وتاريخها العربي الإسلامي والمسيحي والإنساني عموماً. كما يقدم قراءة معاكسة للمرجعية السينمائية والتاريخية لمشروع السينما الإسرائيلية (سينما أبطال التوراة /سينما المستوطنين/ سينما إسرائيل المحتلة) وعلاقتها بمدينة القدس. بترسيخها لفكرة «أرض بلا شعب» في ذهنية المتلقي الغربي، وأكثر إذ عمدت إلى إخراج التوراة من حيز «المقدس» إلى حيز العمل السينمائي البصري، لتشكل بذلك أسطورة «الأحقية» التاريخية لليهود في فلسطين، فمنذ عام 1897، بدأت هوليوود تنتج أفلاما مأخوذة من العهد القديم، وكان أبرز هذه الأفلام، الفيلم الروائي الطويل «حياة اليهود في أرض الميعاد» إخراج يعقوب بن دوف عام 1912. وفي عام 1913 ظهر فيلم ضخم هو «جوديت من بوتليا» أخرجه دافيد صريفت، تبعه فيلم «التائهة» إخراج راؤول رالش عام 1925، وتوالت الأفلام وظلت الرواية الصهيونية هي الرواية الهوليوودية المهيمنة والمسيطرة في الفضاء السينمائي.