ثقافة وفنون

السيميائية في مواجهة الحرب: قراءة في «لا طائر في هذه المدينة»

السيميائية في مواجهة الحرب: قراءة في «لا طائر في هذه المدينة»

منذر كامل اللالا

 الطائرات تطير/ والأشجارُ تهوي/ والمباني تخبز السكّان « (محمود درويش- مديح الظلّ العالي)
في زمن تتكسر فيه الأرواح، ويغدو الواقع أشد قسوة، ينهض الأدب ليشكل وثيقة وشاهداً على حجم الكارثة. وغزة، التي باتت نصاً مفتوحاً يكتبه الدم والألم، تستدعي أقلاماً لا تكتفي بالسرد، بل تعيد تشكيل الحقيقة بلغة الوجدان والمجاز. من هنا، تأتي أهمية رواية «لا طائر في هذه المدينة» لصالحة خليفة، فهي صرخة أدبية مدوية من رحم المعاناة، تجسدها بلسان «هند» المحاطة بالموت والدمار في مدينتها المحاصرة. الرواية تأخذنا في رحلة «هند» وصراعها من أجل البقاء، حيث تتمسك بالحياة في مواجهة الموت، وتصدم القارئ بقلب الموازين، متسائلة: هل الحرب تُبقي كل شيء على ما هو عليه، أم أن موازين الحياة تتغير بفعلها؟
للولوج عميقاً في تحليل الرواية، يُعتمد المنهج السيميائي الذي يرى الأدب شبكة علامات ودلالات تتجاوز المعنى الظاهر. فالسيميائية، كما يُعرفها رولان بارت، هي «علم يدرس حياة العلامات داخل الثقافة والمجتمع»، باحثةً في بناء الدلالات عبر تفاعل العلامات والرموز. هذا المنهج يتيح لنا تفكيك الطبقات الرمزية واستكشاف الأبعاد الخفية التي تنسجها الروائية، مقدِّمةً عالماً نصياً تتجاوز فيه الألفاظ دلالاتها المباشرة لمعانٍ أعمق وأشمل، كاشفاً عن أنساقه الثقافية والنفسية.
يُعتبر العنوان، كما يصفه جيرار جينيت، «عتبة» العمل ومفتاح تأويله. عنوان رواية «لا طائر في هذه المدينة» هو إشارة رمزية مكثفة حول الفقد والفراغ، بسبب الحضور الكاسح للموت. فـ»الطائر القاتل» (الطائرات الحربية) يملأ فضاء الرواية بالموت والخراب، قاتلاً الأجساد والأمل. إنه رمز للقوة الغاشمة التي تسحق الحرية لكنها لا تقتل بصيص الأمل في الانبعاث، تماماً كما قال محمود درويش: «يدخل الطيران أفكاري ويقصفها.. فيقتل تسع عشرة طفلة… يتوقف العصفور عن إنشاده»، وكما ورد على لسان «هند» وهي جنين: «ها هو الطائر القاتل يهيم على وجهه، وينفث رذاذاه فينا دون رحمة». يشبه طائر الفينيق الذي ينهض من رماده، لكن السؤال يبقى: ماذا لو أن غزة، تحت وطأة الطائر القاتل، باتت بلا رماد، بلا رمق حياة، بلا احتمال للبعث؟ هذه السيميائية تكشف أن المدينة أصبحت مسرحاً لقتل الأمل، ورمز الحرية تحول لأداة موت.
سيميائية الجنين السارد: صوت البراءة وشاهد على الفناء
(Nutshell) في النقد الأدبي المقارن، تُسلط الأضواء على تجارب السرد غير التقليدية، مثل رواية «نَتْشِل» لإيان ماكيون، تُروي القصة بالكامل على لسان جنين في شهره الثامن من الحمل، الذي يستمع من داخل الرحم لمؤامرة قتل يخطط لها حبيب والدته معها، ويدور صراع درامي داخله وهو (Christopher Unborn) يحاول فهم ما يجري. وكذلك في رواية «كريستوفر غير المولود» لكارلوس فوينتيس، وتهدف هذه الأعمال إلى تقديم رؤى فريدة حول الوجود، أو لتفكيك بنية الواقع من زوايا غير مألوفة، وتسليط الضوء على قدرة الأدب على تخطي الحواجز السردية التقليدية. ولعلّ اللافت في هذه الرواية هو صوت الجنين السارد. فمن داخل رحم أم «هند»، ينقل لنا هذا الجنين الأحداث كما يراها من منظوره البريء والعميق، بوعي شديد لما يدور حوله من خراب، إن الجنين هنا يتحول إلى علامة سيميائية مركبة؛ يرمز إلى البراءة المطلقة التي تُواجه وحشية الحرب، والمستقبل المهدد، والوعي الذي يتخطى حدود الجسد. إدراكه لما يدور خارجه يجعله شاهداً وجودياً لا يقبل التزييف، وتكشف عباراته عن دلالات عميقة ومرعبة:
«الحياة الحقيقية لنا فوق الأرض… هي هوس السيطرة وليس لأجل بقاء البشرية… من يدعي ذلك فهو كاذب»: إشارة سيميائية صارخة لإدانة الحروب القائمة على أيديولوجيات السيطرة، وتُعرّي زيف الشعارات الإنسانية.
«اطرق طرقاتي أريد أن أخرج حالا كي أكون بين يدي أبي… أريد أن أبقى في دفء جدرانها، فجدران الحياة الخارجية باردة وقاسية»: رغبة بالخروج تتحول لهروب من قسوة العالم، علامة على الخوف والرفض الوجودي. «دفء جدرانها» أمان مفقود.
« أصبحت أميز أصوات تلك الانفجارات… ها هو الطائر القاتل يهيم على وجهه، وينفث رذاذه فينا دون رحمة»: قدرة الجنين على «تمييز الأصوات» و»تسمية الطائر القاتل» علامة على أن الحرب اخترقت أمان الرحم.
«الحرب سلبتنا عقولنا وإنسانيتنا.. تمنيت لو يعانقنا الموت.. تمنيت لو أصابها العقم قبل أن تحملنا في أحشائها»: أقوال تمثل علامة سيميائية عن تأثير الحرب الشامل على الوعي والإنسانية، وأمنية «العقم» علامة على اليأس المطلق:
« لما نخاف من فكرة الموت، وهي تلاحقنا في كل خطوة… بدأت بعض ملامح الموت ماثلة أمامي قبل أن أرى نور الحياة»: الخوف من الموت علامة سيميائية على التناقض الوجودي في زمن الحرب، حيث الموت يحيط بالجنين قبل ولادته، ومعالمه تبشر بمستقبل مظلم. هذه الاقتباسات تُبرز الجنين كبؤرة دلالية تكثف مأساة غزة، فهو يمثل وعياً مبكراً وشاهداً أبدياً على حجم الكارثة.

سيميائية تحولات الكائنات والأشياء: انقلاب القيم
إن الحرب، بفظاعتها، تُعيد تشكيل جوهر الكائنات والمفاهيم. فالفراشة تتحول إلى طائر وحش كاسر يبث الخراب، وهذا التحول علامة سيميائية لانقلاب القيم الطبيعية والأخلاقية، حيث يغدو الجمال قناعا للدمار، وجسد الأفعى، المرتبط بالشرور، يُصبح منقذا يزحف تحت الأنقاض، وهو علامة سيميائية على تبدل الأدوار، حيث يأتي الخلاص من حيث لا يتوقع. يتبدل أيضاً دور الكاتب، فينحدر إلى العتمة ليكشف عما استعصى على النطق. هذه التحولات علامات سيميائية لواقع تجاوز المنطق، وتحول فيه كل شيء إلى نقيضه.

سيميائية جسد المرأة والذاكرة: المقاومة من رحم الألم
تبرز المرأة في الرواية ليست مجرد ضحية، بل راوية أصيلة للتاريخ الحي. إنها تنقل حكايته إلى جنينها عبر دماء تحمل ذاكرة الوجع والأمل. فـ»هند» والأمهات يمثلن علامة سيميائية للمقاومة المتجذرة؛ جسد المرأة يصبح وعاءً للذاكرة الجماعية، ففي غزة، ترضع الأم طفلها شرف الصمود والمقاومة، وتُلبسه كفنا رمزياً قبل قميص الحياة، إعداداً ليوم يصبح فيه شهيداً، تُستدعى أرواح فلسطينيات أيقونيات خالدة تتكرر في مقاومة المرأة الفلسطينية، كوجوه متجددة للخلود ينبعث من صميم الفناء، هذه الرمزيات النسوية علامات سيميائية قوية لاستمرارية النضال وحمل الراية عبر الأجيال.
الرواية خطاب سيميائي ضد النسيان
من الغياب الرمزي للطائر، والتبدل العميق في طبائع الكائنات، والصوت الجنيني غير المألوف، تبدأ رواية «لا طائر في هذه المدينة» في رسم ملامح مدينة منهارة تسكنها الكارثة، إنها خطاب احتجاجي عميق مشبع بالتوتر والرمز، كل عنصر فيها يعمل كعلامة سيميائية تُفكك بنية الحرب وتأثيرها المدمر، تتقاطع فيها الأنوثة، وحشية الحرب، ثقل اللغة، عمق التحوّل الإنساني، لتتجلى في بنية سردية فريدة، لا تكتب إلا ضد النسيان، وضد منطق الخراب.
وتتجلى ذروة هذا الخطاب في تعميق الرواية لوعي القارئ بحجم المأساة، لتؤكد الحقيقة التي لا مناص منها، أنّ الشعب الفلسطيني دفع ثمن الهولوكوست، في إشارة إلى فداحة المأساة، وكما يختزلها محمود درويش: «وصف حالتنا يضيف إلى الميثولوجيا أكثر مما يقتبس منها، لذلك أرى أنّ قصص السبي والتيه والخروج، مجرد حكايات مؤلمة من الماضي، إذا ما قورنت مع المأساة الفلسطينية المعاصرة التي تفرم اللحم والروح فينا». بهذه الإشارة، ترسخ الرواية مكانتها كـشهادة سيميائية كونية، تدعو إلى التأمل في المعاني التي تتجسد في نص أدبي يتجاوز الواقع ليصبح صرخة مدوية في وجه النسيان والقهر، وتوثيقاً أبدياً لمعاناة شعب يرفض أن يُنسى.

كاتب أردني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب