رحلة منبوذة ونضال خالد: فلورا تريستان والعدالة الاجتماعية

رحلة منبوذة ونضال خالد: فلورا تريستان والعدالة الاجتماعية
ميشيل سيروب
احتلت فلورا تريستان مركزاً مرموقاً بين مفكري الحركة الاشتراكية الطوباوية والنقابية والماركسية، وتحولت لاحقاً إلى أيقونة نضالية في فرنسا وعموم أوروبا. تنبأت فلورا مُبكراً بأن أوروبا ستتحول إلى مصنع كبير، ستسود فيها معاناة العمال والمرأة، ويعود لها الفضل بإطلاق شعار «يا عمال العالم، أتحدوا» الشعار الذي تبناه ماركس (1818- 1883مفكر ومنظر ثوري ألماني، في البيان الشيوعي الذي شارك فريدريك أنغلز (1820 -1895 باحث ومؤرخ ألماني في كتاباتهِ عام 1848.
آمنت فلورا تريستان بالعدالة الاجتماعية ودعت لتحرير المرأة، وكانت تؤمن بأن الصراع الطبقي سيقود المجتمع حتماً إلى تبني نظام يسوده العدل والإخاء، وكانت مُتأثرة بأفكار شارل فورييه (فيلسوف ومفكر فرنسي 1772- 1837صاحب نظرية (التعاونية الإشتراكية) الذي كان مُتأثراً بالمفاهيم المسيحية المثالية عن العدالة.
الميلاد والنشأة
فلورا تريستان من مواليد 1803، والدها البيولوجي سيمون بوليفار: القائد الثوري ومحرر العديد من دول أمريكا الجنوبية (1783- 1830) بوليفار الذي ارتبط أثناء مروره في مدريد بعلاقة حميمة خارج إطار الزواج التقليدي مع والدة فلورا، وأنجبا بنتين، توفيت البنت الأولى وعمرها عدة أشهر، عاشت فلورا في كنف أمها ذات الأصول البورجوازية الصغيرة والتي تحمل الجنسية الفرنسية. بعد أن غادر بوليفار مدريد نحو بوليفيا، تزوج النبيل والارستقراطي البيروفي ماريانو تريستان( 1775-1805 تاريخ الميلاد غير محسوم لعدم وجو سجلات للمواليد الجدد في البيرو آنذاك) من أم فلورا وأخذت فلورا لقب أبيها الذي تبناها، غادرت العائلة إسبانيا نحو فرنسا، حيث كان الأب يحمل الجنسية الفرنسية أسوةً بزوجته، عاجل الموت النبيل البيروفي وفلورا في عمر الرابعة والنصف، كتبت لاحقاً عن طفولتها: أنتهت طفولتي وأنا في الخامسة من عمري، وبدأت معاناتي وسط مجتمع مُضطرب وقاسٍ لا يرحم، ولم أعش طفولة ومراهقة متوازنة أسوة بأترابي.
رحلة منبوذة
امتزج نضال فلورا تريستان الشخصي والغبن الذي عانت منه بالنضال المجتمعي ضد معاناة الطبقة العاملة والمرأة. ويُعد كتابها الأول «رحلة منبوذة»، نموذجاً لكتب السيرة عن المعاناة والإحباط والقمع والحرمان ضد المهمشين والضعفاء من أفراد المجتمع. حُرمت أم فلورا من ميراث زوجها وصادرت الدولة الفرنسية قصره المُنيف وأملاكه، لأن زواجهما لم يكن مُثبتاً في سجلات رسمية. أبحرت فلورا تريستان نحو البيرو، على أمل أن ينوبها قسمٌ من أملاك والدها النبيل، لكن عمها أنكر عليها حقها بالميراث كونها ابنة مُتبناة وليست ابنة شرعية وليس لديها وثائق تُثبت أنها من نسل تريستان.
أغدق عليها العم بعض المنح، لكنه سرعان ما حاربها وطردها بعد أن تجلت ميولها الثورية بتمردها ونضالها، عادت فلورا لباريس بخُفي حنين. تحت ضغط الحاجة واليتم قررت أم فلورا تزويج ابنتها وهي في سن السابعة عشرة من عمرها، بعد أن عجزت عن تأمين مصروفات العائلة. كان ارتباط فلورا من النحات الفرنسي الثري وصعب المراس أندريه شازال (1796- 1860) الذي حاول سحق شخصيتها، فصل آخر من فصول المعاناة الرهيبة، التي انتهت بإنجاب ثلاثة أبناء. لم تكن القوانين الفرنسية تسمح بالطلاق آنذاك، ومن تجربة فلورا الشخصية ومعاناتها تبنت موقفاً شجاعاً تدعو فيه لتحرير المرأة – نالت من المحكمة حق التباعد بين الزوجين- وبذلك الموقف أصبحت فلورا رائدة للنساء في فرنسا، ونالت لقب»ابنة الثورة» وأصبحت كأولمب دي غورج (1748- 1793 رائدة نسوية وناشطة فرنسية) نجمة في أوساط الطبقة العاملة والحركة النسوية، ولغاية اليوم تُعتبر فلورا أيقونة نسوية ورمزاً من رموز الحرية للمرأة والمهمشين والضعفاء.
فارغاس يوسا: البحث عن الجنة المفقودة
كأمرأة باريسية ذات ميول جمهورية، دونت فلورا تريستان ملاحظاتها ضد القوانين الجائرة، وضد القضاء وضد قوانين الكنيسة المجحفة عن المرأة، وأخذت تبحث عن جنتها المفقودة التي حُرمت منها في كنف زوج مستبد وعائلة تنكرت لأصولها. لمست فلورا بأم عينيها معاناة عمال قصب السكر في البيرو، كما لمست معاناة المرأة في باريس، وأثناء إقامتها في لندن دونت ملاحظاتها عن معاناة الطبقة العاملة، عن حملة التصنيع التي أخذت تجتاح إنكلترا. في كتابها الثاني «نزهة في لندن» الصادرعام 1839وصفت بؤس وشقاء العمال والمرأة، وأطلقت نداءً تدعو فيه للمساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل. في كتابه «الجنة: أبعد قليلاً» الصادر عام 2010، يرصد فارغاس يوسا (روائي بيروفي صاحب رواية المدينة والكلاب 1936- 2025)، العلاقة غير المرئية بين فلورا تريستان وحفيدها: بول غوغان (1848- 1903 الفنان الفرنسي الرائد في مدرسة ما بعد الانطباعية في الفن التشكيلي). بحث غوغان عبثاً عن جنته في أوساط الفلاحين والفلاحات والمعدمين من سكان تاهيتي، وخلق جنته وسط ألوان وعصافير وأشجار وجبال، لكنه لم يحقق ذاته، لا بالترحال ولا بالاستقرار هناك في تاهيتي، كجدته لأمهِ (آلين البنت البكر لفلورا تريستان مواليد عام 1823). في نهاية الكتاب يستخلص يوسا: بأن لا فلورا حققت حلمها بجنتها في عائلتها، ولا في أوساط الطبقة العاملة ولا غوغان حقق حلمه بالبحث عن خلوده في الريف التاهيتي.
اغتيال ونهاية مؤلمة
أبناء فلورا كانوا ثمرة علاقة زوجية مضطربة تخللها العنف الزوجي، ومسيرة سنين مضنية من المحاكم والسجن لزوج مُسيطر مُتهم بالفحش والاضطراب النفسي، كان أندريه زوج فلورا مُحبطاً وخائباً من زوجة ذات شخصية قوية، ولها حضور ثقافي وكاريزما جذابة. بلغت فلورا لدرجة وصف الجواهري المعاناة: لمْ يبقَ عندي ما يبتزهُ الألمُ. أخذ أندريه يهدد زوجته مرة تلو الأخرى حتى أودى به خياله المريض إلى اتهامها بالدعارة أمام الملء، كي يبرر محاولته قتلها، بزعم الدفاع عن الشرف. لحسن الحظ استقرت الرصاصة بجانب القلب لكنها أتلفت جزءاً من الكبد، حُكمَ على أندريه بالسجن عشرين عاماً، لكنه بالكاد قضى أشهر ونال حريته عن طريق قضاة فاسدين بحكم مشروط على أن يستكمل مدة سجنه لاحقاً.
تحررت فلورا من زوجها وأوكلت أبناءَها والدتها، وأخذت تجوب فرنسا لنشر رسالتها السامية عن العدالة والحرية. عانت فلورا من ضيق في التنفس ووهن عام وآلام عضلية وجفاف في الفم، وتلك كانت أعراض مرض حمى التيفوئيد، ما سبب لها صعوبة في الحركة وأثَّر على نشاطها اليومي المُرهق. في بوردو أغمضت عينيها إغماضتها الأخيرة وهي في سن الواحدة والأربعين. هناك، تمَّ تكريمها بتسمية جامعات ومراكز لجوء وأقسام في الكليات والساحات، كما تمَّ تكريمها في عموم فرنسا وكُتبت عنها عشرات الكتب والمقالات، وما زالت رمزاً من رموز تحرير المرأة في العالم أجمع.
استطرادا
في سوريا تجرأت المرأة على الحلم وتجرأت على الأمل وقدمت نموذجاً أسطورياً لمعنى البطولة ضد أعتى نظام قمعي أستباح البشر والشجر والعمران، ولنا في سيرة سميرة الخليل وفدوى سليمان ومي سكاف نماذج عن النضال والحرية (2011 – 2024) نحو سوريا عصرية ورائدة في كل الميادين.