ثقافة وفنون

باعتبارها الأكثر تأثيراً في الحداثة الشعرية العربية: ماذا بقي من حركة مجلة «شعر»؟

باعتبارها الأكثر تأثيراً في الحداثة الشعرية العربية: ماذا بقي من حركة مجلة «شعر»؟

عبداللطيف الوراري

شاعر وكاتب مغربي

الجماعات الأدبية

ظهرت في تاريخ ثقافتنا الحديثة منذ بدايات القرن العشرين، مجموعة من الجماعات الأدبية والفنية، التي كان لها دور فعال في تجديد الحياة الثقافية العربية، وساهمت في زعزعة وتغيير مفاهيم الكتابة والذائقة والشعور والرؤية، لاسيما أثناء الحقبة التي ارتفعت فيها مطالب الحداثة تحت تأثير عامل المثاقفة مع فضاءات ومرجعيات وافدة من وراء البحر، وما استدعته من نقاشات ومعارك حامية الوطيس بين فئات المثقفين والأدباء على منابر الصحف والمجلات. وقد كان من وراء تشكيل هذه الجماعة أو تلك جيلٌ ما أو حساسيّةٌ ما ظهرت في فترة معينة وتعرض أصحابها لظروف وهزّات تاريخية وسياسية وفكرية أثرت في تشكيل وعيهم الجمالي ورؤيتهم للعالم، ومن ثمة أدت على نحو من الأنحاء إلى وجود سمات مشتركة بينهم على صعيد منتجهم الإبداعي والفني، ومختلفة عما طرحته الأجيال السابقة، بل في أحيان أخرى كانت تتعارض مع ما هو سائد ومتقبّل من طرف المجتمع. وكان مثل هذا السياق المحتدم يملي على ممثلي التيار أو الاتجاه الجديد ضرورة الدفاع عن آرائهم وأساليبهم، وأن ما يطرحونه، ليس محض صدفة، بل هو تعبير حقيقي عن حاجة ثقافية وجمالية واجتماعية كان لها ما يسندها فا واقع الحياة السوسيوثقافية. واليوم تكاد تفقد الجماعة مبرر وجودها ويضيع نسيجها في حقبة ما بعد الحداثة التي أعلت من شأن الفردانيّات، ومن قيمة التمايزات والاحتياجات المختلفة المتعددة، التي يفرضها المجتمع الثقافي المعاصر، حيث حلّت شبكة علاقات كونية جديدة تنشط وراء الشاشات، وحيث لا ولاء إلا لـ»جماعات متخيلة» تحتشد بالأشباح من كل حدب وصوب، وبالتالي صارت تلك الجماعات الأولى أثرأً بعد عين وجزءاً من الإرث المتحفي.

حركة مجلة «شعر»

وإذا قصرنا حديثنا على تاريخ الشعر العربي الحديث، فقد شهد منذ طلائع القرن الفائت جماعات رومانسية تجديدية؛ مثل: الرابطة القلمية، العصبة الأندلسية، الديوان، أبولو، بادرت إلى إحداث شبه قطيعة مع «العقل الشعري» التقليدي، وحاولت من خلال الاعتبار للذات، أن تعيد صياغة أشواق الناس وأحلامهم البسيطة لما للخيال من قدرة حدسية على الحلم والاستشراف. وفي أواسط القرن ظهرت مدرسة الشعر الحرّ التي أعادت النظر في أجروميات القصيدة العربية من وجوه عديدة؛ مضمونية وفنية، ثم تلتها تيارات كانت تبلور أطروحاتها أو تتعارض معها في سياق تدافع أيديولوجي وثقافي حرون (تجمع مجلة شعر، جماعة كركوك، أنفاس، إضاءة 77، أصوات، إلخ).
ولا ينازع أحد في الأهمية التي احتلتها جماعة شعرية حديثة مثل حركة مجلة «شعر» اللبنانية، لاعتبارات ثلاثة: فاعلية منتسبيها من الشعراء والنقاد وقوة تأثيرهم في السياق العربي، وصدور مجلة ناطقة باسمها كرّست أعدادها لمساءلة قضايا الشعر العربي الحديث، ودار نشر الأعمال الشعرية الأكثر إفصاحاً عن مشروعها التحديثي، ثم ندوة الخميس التي كانت «ساحة حرة للسجال المعرفي الأدبي» بتعبير خالدة سعيد.
عندما عاد الشاعر اللبناني يوسف الخال (1916- 1987) من أمريكا إلى بيروت، بادر في عام 1956 إلى تأسيس تجمع شعري يكون له إسهام حقيقي في تجديد الشعر العربي، وقد انضمّ إليه في بادئ الأمر أدونيس، وخليل حاوي، ونذير العظمة، باعتبارهم شعراء أساسيين شكلوا نواة هذا التجمع، ثم التحق بهم شعراء ونقاد شباب: أسعد رزوق، أنسي الحاج، شوقي أبو شقرا، وعصام محفوظ، وفؤاد رفقة، ومحمد الماغوط، وخالدة سعيد التي كانت توقع مقالاتها اللماحة في المجلة باسم مستعار (خزامى صبري) وتحت رئاسة تحرير يوسف الخال، صدر العدد الأول من مجلة «شعر» في كانون الثاني/ يناير 1957، التي كانت فصلية وتوجهت إلى الدفاع عن الحداثة في الشعر العربي من منطلق فصل السياسي عن الشعري وضرورة الشعر في حياة الإنسان المعاصر. وبموازاة معها، أخذت تنتظم اجتماعات أسبوعية عُرفت بندوة خميس شعر، وكان الغرض منها خلق إشعاع حول التجمع الجديد والتعريف به داخل الوسط الأدبي، ورغم تعثر البدايات وفورة الحماس الأول، استطاع هذا التجمع أن يستقطب أصوات الجيل الشعري الجديد من داخل لبنان وخارجه (العراق، سوريا، الأردن) مثلما أخذت المجلة تتلقى «قصائد ومقالات نقدية ورسائل دعم» من وجوه بارزة، في طليعتهم بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وجبرا إبراهيم جبرا، وفدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجيوسي ونزار قباني، وأعطت المحاضرة التي ألقاها يوسف الخال في الندوة اللبنانية عام 1956، وكانت بمثابة فعل افتتاحي و»بيان شعري» للحركة، زخماً أقوى لها بقدر ما أثارته من ردود فعل ساخطة، بعد أن انتقد فيها الوضع الشعري في لبنان، لأنه متخلف عن روح العصر وشعر القرن العشرين قياساً إلى الشعر الأوروبي. و»منذ البدء، وبصورة علنية، – كما يقول كمال خير بك- هدفت حركة «شعر» إلى أن تقوم بمهمة تتمثل في نقد الشعر العربي المعاصر وإعادة تقييمه، وأن تقدم ليس عملا شعريا بديلا فحسب، وإنما، كذلك، أسسا وقواعد يجب الانطلاق منها في النقد وبناء الصورة الجديدة».
لم يكن أعضاء التجمع ومناصروه يكتبون على سوية واحدة، وحتى توجهاتهم الأيديولوجية لم تكن هي نفسها، مثلما تفاوتت مراكز ثقلهم داخله، لكن كتاباتهم كانت في صميم الدعوة إلى شعر حديث، وجعلت من «الحداثة» مناط اهتماماتها في التنظير والنقد والإبداع الشعري. وترسم مجلة «شعر» منحنيات هذه الروح في توثبها وانشداد إلى العصري والجديد، ولاسيما في مرحلتها الأولى (1957- 1964) قبل أن تصطدم بـ»جدار اللغة» بل كذلك بأسباب أخرى أيديولوجية وجمالية في المقام الأول (الارتباط بطروحات الحزب القومي السوري، معاداة التراث، دعوة التعامل مع المخابرات المركزية الأمريكية، طغيان السجالية العنيفة) كانت تتأثر بما يجري في الواقع السياسي والثقافي العربي المتفجر ابتداءً من ستينيات القرن العشرين. ومنذ تلك الفترة، ونظير المنعطف الحاسم الذي مثلته في الشعرية العربية الحديثة، ما زالت حركة تجمع «شعر» تحظى باهتمام الدارسين في المشرق والمغرب على حد سواء. وقد ظهرت إلى اليوم دراسات نقدية وتقويمية تقايس ما أضافته هذه الحركة وأحدثته من أسئلة ومناقشات نظرية ومعرفية في تاريخ هذه الشعرية خاصة، وفي الفكر النقدي العربي على وجه العموم. وقد توزعت مرامي هذه الدراسات ونواياها النقدية بين همّ تعريفي استكشافي بالغ الأهمية لكنه لا يخلو من نبرة احتفائية بنشاط الحركة ودورها الطليعي، كما في كتاب كمال خير بك «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» (1982) ونقد أيديولوجي يسائل الخلفيات والنوايا السياسية والفكرية التي وجهت عمل التجمع وأثرت فيه، كما في دراسة محمد جمال الباروت «المقدمات الأيديولوجية لحركة مجلة شعر» (1985) وكتاب سامي مهدي «أفق الحداثة وحداثة النمط – دراسة في حداثة مجلة «شعر» بيئة ومشروعا ونموذجا» (1988) ونزوع توثيقي بذل جهداً كبيراً في جمع المحاضر والدراسات من مظانّها وإعداد الفهرس التحليلي الخاص بها، كما في كتاب جاك أماتييس السالسي «خميس مجلة شعر: من الشفاهية إلى التوثيق والتدوين» (2021).

أما الممارسة النقدية، فهي لم تكن تخلو من نزوع «تقويمي» من خلال تحليل النصوص الشعرية التي تنشرها المجلة وفق معايير محددة، أو عقد متابعات نقدية لشتى الأعمال الشعرية التي كانت تصدر في المجال العربي، حتى إن كانت لا تساير حداثة «شعر».

مساءلة الحداثة

في كتاب الناقد المغربي حسن مخافي «حركة مجلة ‹شعر- التنظير الشعري والممارسات النقدية» (افريقيا الشرق 2021) ثمة بحث في الأسس الأبستيمولوجية التي قامت عليها حركة مجلة «شعر» وكشفت عن مفاصل عملها التحديثي الذي ارتبط بقضايا الحداثة، والتراث، والرؤيا، والالتزام، واللغة الشعرية، ثم بقصيدة النثر التي دعت إليها بداعي التمرد على الأشكال الشعرية السابقة، وحاولت أن ترسم خصائص هذه القصيدة حتى وقع الحافر على كتاب سوزان برنار ذائع الصيت: «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا». من هنا، يوجه هذا الكتاب سؤالان مركزيان: ما هي المرتكزات التي انطلقت منها مجلة «شعر» لتؤسس للحداثة الشعرية في العالم العربي، وما هي الخلفيات التي كانت تحكم تصورها لهذه الحداثة؟ هل يشكل التنظير الشعري والممارسات النقدية لدى «شعر» نسقا متكاملا ومنتظما في وجهة نظر ترقى إلى أن تصبح «حركة» بما يميز هذا المفهوم في الحقل الأدبي؟
ينظر الباحث إلى هذه الحركة باعتبارها جسدت مشروعاً ثقافيّاً من خلال نشاطها المعرفي والإبداعي والسجالي الذي كانت مجلة «شعر» ومعها ندوة الخميس، تعمل على تسويقه والدفاع عنه، ويرى أن مساءلة هذا المشروع لا يتم إلا عبر إعادة النظر في منطلقات الحداثة النظرية والمعرفية والأيديولوجية التي وجهته وشكلت في مجموعها الوجه «الأقصى» للحداثة الشعرية العربية ككل. يقول: «وقد شكلت حركة مجلة «شعر» منعطفا مهما في تاريخ تلك الحداثة، إذ أن وجودها الثقافي كان يقوم على دعم ما هو حديث، والسير به إلى أبعد نقطة، وكان لا بد لتحقيق هذا الهدف من صياغة إجابات على عدة أسئلة، فرضتها الشروط الموضوعية والثقافية لتلك المرحلة». وقد حدد مضامين هذه الإجابات في ثلاثة محاور يشكل مفهوم الحداثة الطرف الثابت فيها، وذلك في علاقاته بالتراث، والغرب، والواقع، والتي تمثل بحد ذاتها «همّاً أيديولوجيّاً» لدى الحركة في سعيها إلى «تجديد الهوية الثقافية» للعالم العربي عبر عمليتي هدم وبناء: هدم للتراث باعتباره امتدادا للعروبة والإسلام، وبناء لتراث آخر يقوم على الانتماء لحضارة البحر الأبيض المتوسط. هدم للغرب الإمبريالي، وبناء لغرب يتأسس على الحرية والفوضى في الآن ذاته. هدم للواقع العربي بمعطياته الصارخة، وبناء لواقع مثالي ينهض على أساس سلطة النخب. وتعبر هذه الأشكال من العلاقات عن نفسها في ثلاثة مجالات لا تقبل الفصل عن بعضها بعضا: التنظير الشعري، والممارسة النقدية، والإبداع الشعري، إلا أن الباحث يركز على المجالين الأولين لصلتهما بالأسس النظرية التي يعمل على مساءلتها، وكيف انتقلت هذه الأسس على المستوى الإجرائي إلى الممارسات النقدية.
ـ بخصوص التنظير الشعري، سعت مجلة «شعر» من خلال تنظيرها للقصيدة الحديثة، كما نجده في دراسات الخال وأدونيس وخالدة سعيد على وجه خاص، إلى تأسيس مفهوم جديد للشعر العربي الحديث، يقوم بدل الوزن والقافية على «الرؤيا» التي تأخذ شكل «التجاوز والتخطي» بارتفاعها عن ذاتها وعن الواقع معاً؛ أي الرؤيا بمحمولها الغربي ذي الثقل الأنطولوجي. ومن هنا عملت على تخليص الشعر من مرجعيته الاجتماعية وردّته إلى التجربة الفردية للشاعر، بل وقفت موقفاً عدائيّاً من كل ما يمتّ إلى السياسة بصلة، فدخلت في سجال لم يهدأ مع دعاة الالتزام الذي كانت تمثله مجلة «الآداب».
ـ أما الممارسة النقدية، فهي لم تكن تخلو من نزوع «تقويمي» من خلال تحليل النصوص الشعرية التي تنشرها المجلة وفق معايير محددة، أو عقد متابعات نقدية لشتى الأعمال الشعرية التي كانت تصدر في المجال العربي، حتى إن كانت لا تساير حداثة «شعر». لكن هذه الممارسة ظلت تفتقر إلى التماسك والرؤية المنهجية لعدم استيعاب بعض أعضائها للتوجه الشعري الذي بشرت به، بقدر ما غلبت عليها نزعات انطباعية وذوقية وأخرى موضوعية كانت تتعامل مع النص الشعري، كما لو أنه نص فكري أو فلسفي.
يخلص الباحث إلى «أن شعر عجزت عن تأسيس نقد حديث، في مقابل القصيدة التي دافعت عنها بحرارة. ويرجع ذلك إلى أن الحركة كانت تصنف النقد ضمن آخر اهتماماتها، فكان نقدا صحافيا».
وفي كل الأحوال، لا يمكن إنكار فضل هذه المجلة في رفع سقف الحداثة الشعرية والوعي بأطروحاتها الجمالية، وتأثيرها في صياغة الأسئلة الجذرية في واقع كان يتحرك ببطء، بل إنّ هذا التأثير ما زال يعمل بطرق خفية في روح الممارسات الشعرية المعاصرة. وهي كأيّ مشروع شعري ثقافي معلن النوايا، وذي مطامح مغايرة، كانت «شعر» محاطة بالتجاذبات الاختلافات حتى بين أعضائها، كما أن شعارات المرحلة الأشرس إيديولوجيّاً وفكريّاً، مارست بدورها ثورة مضادة تحت ذرائع الوحدة والقومية من أجل الحرية والعدالة والرفاه الاجتماعي.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب