
الحرب في السودان
أبعد من صراع البرهان _حميدتي
بقلم المحامي حسن بيان
إن مشهد التدمير الذي أصاب منشآت مطار الخرطوم من جراء الاشتباكات ، تقشعر له الأبدان، علماً انه مرفق مدني خدماتي كان يفترض أن يتم تحييده عن مسرح العمليات العسكرية. وما أصاب مطار الخرطوم، أصاب مرافق أخرى وبعضها مدني تناط به إدارة شؤون الناس .
وإذا كان الإعلام المرئي والمسموع لم يسلط الضوء بصورة كافية على حجم الدمار الذي أصاب المرافق العامة والخدماتية باستثناء ما أصاب مطار الخرطوم ، وهي تكتفي ببث الأشرطة التي توزع من قبل الطرفين المتصادمين ، وكل منهما يبرز ما حققه من “انتصارات”، فإن التغطية كانت مختلفة لعمليات إخلاء الرعايا الأجانب ، والتي ولدت انطباعاً لمن يتعمق في قراءة أبعاد مايجري في السودان بعد انفجار الوضع ، بأن الأمور ذاهبة إلى مزيد من التصعيد والتفاقم على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.
إن ظاهر الأمر يفضي إلى القول أن سبب انفجار الوضع العسكري ، يعود إلى الخلاف الذي بدأ يطفو على السطح ، حول موقع ودور “قوات الدعم السريع” ، في الهياكل الأمنية والعسكرية لقوات الجيش.
فهذه القوات التي هي استمرار لتشكيل ميلشيا “الجنجويد” ارتبطت بداية بمديرية المخابرات إلى أن اصدر عمر البشير قانوناً خاصاً بها ، ربطها بموجبه برئاسة الجمهورية ،وكان تعدادها بحدود الثلاثين الفاً فأصبحت بعد تشريع وضعها بحدود 190 ألف.وهي تغطي بانتشارها غالبية الولايات ولها ثقل خاص في الخرطوم وموطن نشأتها في دارفور. وتمويلها الرئيسي يتأتى من الاستثمار في مناجم الذهب ومواد أولية فضلاً عن سيطرتها على كثير من المعابر الحدودية مع دول الجوار.
كما أن ظاهر الحال ، يفيد أن البرهان لم يكن يسعى لحل “قوات الدعم السريع” وإنما تعديل مركزها القانوني بحيث ترتبط بقيادة الجيش وتخضع لإمرته وفق هيكلة جديد٠
وفي المقابل فإن حميدتي لم يكن يرغب بهذا الحل ، وحاول التملص من الالتزام به ،عبر الدعوة لإطالة أمد الفترة الزمنية اللازمة لذلك .
قبل انفجار الوضع العسكري كان الطرفان يقدمان نفسيهما كفريق واحد تحت مسمى “المكون العسكري ” في المجلس السيادي ، الذي أنيطت به إدارة المرحلة الانتقالية بعد توقيع الوثيقة الدستورية مع المكون المدني الذي شكلت قوى الحرية والتغيير ركيزته الأساسية .
ودائما حسب ظاهر الحال ، فإن الرئيس ونائبه كانا يبدوان في اعلى درجات الانسجام في المواقف حيال التعامل مع الشريك المدني في المجلس السيادي ، وحيال بعض قنوات الاتصال مع الخارج وخاصة تلك المتعلقة بالعلاقات مع الكيان الصهuوني .
لكن ماهو السبب الأساسي الذي دفع الوضع إلى الانفجار ؟
هل هو الخلاف على تحديد المركز القانوني “للدعم السريع” في التشكيلات العسكرية والخشية من وضع الدولة يدها على استثماراتها إذا ما دمجت بقوات الجيش ، وخاصة الاستثمار في مناجم الذهب والسودان يعتبر ثالث دولة منتجة في أفريقيا لهذا المعدن الثمين الذي تتهافت عليه المافيات الدولية والدول كملاذٍ آمنٍ في مواجهة الاهتزازات التي تتعرض لها مايسمى بالعملات الصعبة والدولار على رأسها، أو ثمة أسباب أخرى .؟
إننا لا نسقط الأسباب المرتبطة بتحديد المركز القانوني “لقوات الدعم السريع” والخلاف على آليات عملها واستثماراتها ، من أن يكون سبباً مباشراً لإطلاق شرارة القتال، خاصة وإن الإجراء فيما لو قيض له النفاذ ، لكان سيؤدي إلى إضعاف الموقع السياسي لحميدتي في السلطة من ناحية ، وإلى خسارة امتيازات الاستثمار في مناجم الذهب وما تدره من أموال على المنتفعين منه داخلياً وخارجياً من ناحية أخرى.
لكن قراءة ماجرى في السودان بعد انفجار الوضع العسكري وتحديد أسبابه الجوهرية ، لا يستقيم النظر إليه إلا إذا وضع في سياق المسار العام الذي ضبط الايقاع السياسي منذ إنطلاق ثورة ديسمبر من العام ٢٠١٨ بشكل خاص ، والتطورات التي شهدها الوطن العربي منذ غزو العراق واحتلاله بشكل عام.
في مايتعلق بالخاص السوداني ، فإن المعطيات الأولية التي أفرزتها الانتفاضة الشعبية ، دللت على أن الأوضاع السياسية تسير بإتجاه تحقيق نتائج إيجابية لجهة التحولات السياسية الداخلية ، للانتقال
السودان من نظام التمكين وسطوة الدولة الأمنية ،إلى رحاب الدولة المدنية عبر عملية سياسية تحكمها قواعد التحول الوطني الديموقراطي وتحترم فيها الحريات العامة والعدالة الاجتماعية في ظل نظام سياسي يقوم على أساس الفصل بين السلطات ، وتشكيل هياكله المؤسساتية إستناداً إلى الآليات التي يعبر الشعب من خلالها عن إرادته في إدارة شؤونه الداخلية وتحديد خياراته في العلاقات مع الخارج قومياً كان أو إقليمياً أو دولياً.
ومن تابع عن كثب تطور العلاقة بين المكونين المدني والعسكري الشريكين في إدارة الوضع السياسي خلال المرحلة الانتقالية ، لم يكن يحتاج إلى كثير عناء، ليكتشف أن العلاقات بين المكونين لم تكن على درجة كافية من التوافق والانسجام بعدما برزت الافتراقات بينهما حيال العديد من الملفات ، وأكثرها وضوحاً تشكيل هياكل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وملف إدارة العلاقة مع صندوق النقد الدولي والحركات المسلحة في الولايات ، كما عملية تهريب التطبيع مع “اسرائيل”التي كانت خطوتها العلنية الأولى في لقاء البرهان ونتنياهو في اوغندا.
إن المرحلة الانتقالية وإن شابتها علاقات ملتبسة ، إلا أنها لم تصل إلى حد تفجير العملية السياسية ، ومرد ذلك، أن التوازن السلبي الذي كان قائماً بين الطرفين ، شكل ضابطاً لٱيقاع العلاقة بينهما ، إلى أن اقترب الموعد الذي يفترض فيه أن يتخلى المكون العسكري عن رئاسة المجلس السيادي عملاً بما ماتم الاتفاق عليه في الوثيقة الدستورية، فكان أن إرتد “العسكر” على الاتفاق عبر انقلاب موصوف في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١.
لقد أماط الانقلاب النقاب عن حقيقتين :
• الأولى :
أن المكون العسكري كان يمارس مع المكون المدني أسلوب التقية طيلة فترة التشارك في الحكم .
• الثاني :
إن إيصال العملية السياسية التي إنطلقت على أساس الوثيقة الدستورية إلى مآلاتها النهائية بإنجاز عملية التحول الوطني الديموقراطي لم تكن مرفوضة ضمنياً من المكون العسكري وفلول النظام السابق وحسب ، بل كانت غير مرغوب فيها إيضاً من القوى الخارجية التي كانت تعمل لترتيب الواقع السياسي في السودان بما يلائم مصالحها وليس مصالح الشعب .وإن القوى الخارجية المنظور منها عبر لجان الوساطة المتعددة المرجعيات والمخفي منها عبر قنوات الاتصال الخاصة والسرية ، عملت على خطين :
• الأول :
دعمها المعنوي للمكون العسكري وتقوية مواقعه لتمكينه من فرض الخيارات السياسية التي يريدها وتتماهى مع قوى الخارج الدولي والإقليمي .
• الثاني :
إضعاف حضور وفعالية المكون المدني في إنتاج حلٍ سياسي وطني . ولهذا مارست ضغوطاتها بإتجاه شق صفوف قوى الحرية والتغيير وشد القوى الرخوة والوسطية فيها للانفضاض عن التحالف الوطني العريض والدخول في هيكلة سياسية جديدة مع المكون العسكري تحت عنوان “الاتفاق الإطاري” . لكن تبين
أن القوى التي انسلخت عن جسم قوى الحرية والتغيير، لم تستطع أن تؤمن حضوراً متوازناً مع المكون العسكري ، مما أدى إلى إفتقار التحالف السلطوي الجديد للتوازن بين أطرافه ، حيث بدا مختلاً لمصلحة المكون العسكري الذي أخذ يضع نفسه في مناخ إعادة إحكام السيطرة على مقاليد السلطة مع تغطية مدنية شكلية لمحاكاة ماتطلبه قوى الخارج الدولي والإقليمي التي تدعو لإقامة
“حكم مدني”
ومن هذا الواقع المستجد إنطلقت عملية الصراع بين البرهان وحميدتي بعدما باتت المطامح مكشوفة بينهما لشغل الموقع الأول في هرمية السلطة في بلد تلعب فيه العوامل الشخصانية دوراً في تحديد مسار الأحداث .
إن الذي دفع الوضع إلى الانفجار العسكري ، هو الانكشاف التام للمكون العسكري بعد انقلاب الردة ،ورفضه المضمر لعملية التحول الديموقراطي. فهذه العملية التي لا يستسيغها العسكر هي أصلاً غير مرغوب بها إقليمياً ودولياً أيضاً ،لأن الحل السياسي المرغوب إنتاجه بنظرهما ، ليس ذاك الذي تدعو إليه القوي الوطنية والديموقراطية التي قادت الحراك ، بل الحل الذي يعيد إنتاج النظام السابق ويحاكي شروط صناديق الاستثمارات الدولية واتفاقات “إبراهم”قياساً على ما يُعْملُ على تطبيقه وتمريره في العديد من الأقطار العربية وتلك التي ناءت وتنوء تحت ضغط أزمات بنيوية.
لقد كانت القوى الدولية المتدخلة بالشأن السوداني ، كما تلك التي كانت في مواقع السلطة قبل سقوط البشير وتلك التي خرجت من رحمه ودخلت في تسوية مع قوى الحراك الشعبي ، تراهن على جر الحراكة
الشعبية المعترضة على الأداء السلطوي إلى المربع الأمني لإدخال الصراع نطاق العسكرة على غرار ماحصل في ساحات عربية أخرى . ولما لم تتحقق هذه الرغبة بفعل الوعي الوطني والسياسي الذي تميزت به قوى الحرية والتغيير وضبطها لحراك الشارع بالتعبيرات الديموقراطية ، كان الانتقال إلى الخطة التي تقضي بتفجير العملية السياسية برمتها وصولاً إلى تفجير البنية الوطنية .
إن الحدة الذي اتسم بها الصدام العسكري بين وحدات الجيش والدعم السريع ، والتدمير الشامل الذي تجاوز مواقع التموضع العسكري لكلا الطرفين ، دلّل على أن الهدف لايرمي الوصول به إلى إضعاف القدرات العسكرية وحسب ،بل تدمير بنية الدولة ، وتحويل الأزمة في السودان من أزمة سياسية إلى أزمة بنيوية على غرار الأزمات التي عصفت بسوريا واليمن وليبيا وهو الذي يفضي إلى خلق وقائع جديدة ، تملي إعادة ترتيب الأولويات ، حيث يتقدم شعار وقف القتال وإعادة الانتظام لسير المرافق العامة وتأمين الخدمات للمواطنين وإعادة النازحين واللاجئين على جوهر عملية التحول الديموقراطي. وبهذا تكون القوى التي تضمر شراً بالسودان ، قد نجحت في جعل مشروع التغيير السياسي الوطني وتحشيد القوى حوله ، يتراجع أمام الأولويات الوطنية والشعبية التي استجدت بعد الصراع العسكري وما خلفه من تداعيات ضاغطة على الأمن الوطني والاجتماعي وخاصة المعيشي منه .
إن القوى الداخلية والخارجية المعادية للتغيير والتي لم يتسنَ لها النجاح الكامل في تنفيذ “الخطة أ”
الرامية إلى تفجير العملية السياسية بمضمونها الوطني الديموقراطي والإطاحة بقواها بعد انقلاب الردة ، انتقلت إلى الخطة “ب” التي تفضي إلى تفجير البنية الوطنية لخلق وقائع تمكّن من إنتاج عملية سياسية تتماهى مع تلك التي ترسم لأكثر من ساحة عربية.
لقد كانت الآمال معلقة على تمكّن قوى التغيير الوطني من إنجاز عملية تحول وطني ديموقراطي . لكن السؤال الذي يفرض نفسه ، هل مسموح للسودان أن يحقق حراكه الشعبي تغييراً وطنياً ديموقراطياً ، في ظل هذا الإطباق الدولي والإقليمي المعادي على الوطن العربي؟
إن الرد على هذا التساؤل ، تجيب عليه طبيعة المشهد السياسي المخيم على الساحة العربية ، حيث تتم إعاقة وإسقاط كل المحاولات الرامية لإحداث تغيير وطني ديموقراطي بإرادة شعبية وطنية ،والسودان ليس استثناءً. ولهذا فإن الظاهر من الصراع على السلطة وإن تمظهر بين أطراف المكون العسكري ، إلا أنه ليس هو السبب الجوهري الذي دفع الوضع إلى هذا المستوى من القتال التدميري وإن كان سبباً لإطلاق شرارته ،بل الهدف الأساسي الكامن وراءه ، هو تفجير العملية السياسية للحول دون إنجاز عملية التحول الوطني الديموقراطي والإطاحة بقواها ومحتواها الوطني وإلا تفجير البنية الوطنية برمتها. وهذا ما يجري تنفيذه وفق ماخطط له في دوائر التقرير السرية لتكييف وضع السودان وفق ما تتطلبه شروط تشكيل نظام إقليمي جديد يكون الحضور العربي فيه على مستوى مكوناته الوطنية ومكونه القومي العام هو الأضعف