مقالات

ليبيا التطبيع: شبح القذافي وذبيحة المنقوش بقلم صبحي حديدي

بقلم صبحي حديدي كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

ليبيا التطبيع: شبح القذافي وذبيحة المنقوش

بقلم صبحي حديدي

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كأنما عاد العقيد معمر القذافي إلى ليبيا، في هيئة شبح شكسبيري يجمع المأساة بالمهزلة، عبر لقاء وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، مع إيلي كوهن وزير خارجية دولة الاحتلال الإسرائيلي، في روما؛ بترتيب إيطالي من حيث المظهر المعلَن، و(أغلب الظنّ) بمبادرة أمريكية طُبخت في ليل. ورغم أنّ 30 سنة انقضت على فتوى/ شطحة القذافي بأن يحجّ الليبيون إلى القدس وليس إلى مكّة، وإشراف أجهزته على ترتيبات دخول 190 ليبياً إلى فلسطين المحتلة عبر مصر وسيناء ورفح؛ فإنّ واقعة لقاء روما تعاود التذكير بذلك الدرس الحصيف الذي اجترحه ماركس وإنغلز: إذا أعاد التاريخ تكرار نفسه، فالثانية مهزلة بعد الأولى المأساة.
والمنقوش، التي تفاءل ليبيون كثر في كونها أوّل امرأة تتبوأ حقيبة الخارجية في تاريخ ليبيا الحديث والمعاصر، لم تتأخر كثيراً في اللهاث خلف قاطرات التطبيع العربية، وغابت عن بصيرتها (الثاقبة، كما يؤكد العارفون) حقيقة أنها يمكن أن تنقلب إلى كبش فداء لشهوات التطبيع التي تتملك هذا المسؤول الليبي أو ذاك، وأنّ انقلابها ذاك لن يسفر إلا عن انتحار مجاني أقرب إلى احتراق الذبيحة ذاتياً. فإذا صحّ أنّ مغانم التطبيع لدى الساسة الأعلى من المنقوش على هرم السلطة، سواء في ليبيا طرابلس أم في نظيرتها ليبيا طبرق، تدفعهم إلى الانبطاح أمام الضغوط الأمريكية والإقليمية بصدد الحوار مع دولة الاحتلال؛ فما الذي يدفع وزيرة خارجية، في حكومة منتهية الصلاحية أصلاً، إلى المسارعة هكذا نحو دائرة النار؟
لا يُجهل أنّ التقرّب من دولة الاحتلال صار في السنوات الأخيرة بوّابة إلى اكتساب رضى واشنطن، خاصة حين حوّلته إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى مزيج من ورقة ضغط داخلية وإقليمية، وشهادة حسن سلوك غربية وأمريكية، ومرجعية إسناد واحتضان وترخيص بأيّ وكلّ سياسة تخصّ الانفراد بالسلطة والاستبداد والفساد.
وكانت زيارة مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام برنز إلى ليبيا بمثابة ترخيص لأطراف القوى المهيمنة على الحكومتين، في الغرب والشرق على حدّ سواء، بإجراء شتى أنماط الانفتاح على دولة الاحتلال، وعقد اللقاءات في عواصم أوروبية أو حتى عربية، والإبقاء على مستوى السرّية حتى تأذن الظروف بإماطة اللثام عنها. طيش الوزير الإسرائيلي كوهين، إذا جاز هكذا اختزال مسارعته إلى الإفصاح عن لقاء المنقوش في روما، أفسد سيناريوهات التستر على نحو أغضب البيت الأبيض أكثر مما أحرج الحكومة الإسرائيلية أو الليبية؛ مع التشديد على احتمال أن يكون طراز خاصّ من العلاج بالصدمة خلف قرار الخارجية الإسرائيلية.
وأمّا شبح القذافي فإنه يجوس تصريحات رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة التبريرية الأقرب إلى التأتأة والغمغمة، مثلما يطبع احتجاجات الحكومة البرلمانية الطافحة بالبلاغة والجعجعة؛ وذلك اتكاءً على الطابع السوريالي الركيك في التغطية على ما بات مفضوحاً ومتداولاً حول اللقاءات الليبية – الإسرائيلية السرية، ثمّ الشطر الذي لم يعد يكتنفه التكتم بفضل كوهين وأضرابه. فللعقيد صولات وجولات في ميادين كهذه، بحيث أنّ زيارة الدبيبة إلى السفارة الفلسطينية في طرابلس (للتنديد بلقاء المنقوش – كوهين!) لا تبدو ترجيعاً للصدى القذافي المأساوي فقط، بل هي صيغة المهزلة منها، والملهاة الفاقعة الباهتة.
السوابق كثيرة ومتنوعة المستويات، منها ما يخصّ طلب مساعدة أجهزة الاحتلال بصدد استحقاقات سياسية أو عسكرية أو أمنية، ومنها ما يزعم ردّ مظالم يهود ليبيا ولكنه في العمق يخطب ودّ مجموعات الضغط اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة، ومنها ذاك الذي كُلّفت المنقوش بالتمهيد له على سبيل اللحاق بقاطرات التطبيع إرضاء لواشنطن وحيازة أوراق قوّة في صراعات الداخل.
تنوّعت الأشكال والأنساق، والعواصم والجُزُر، وبقي الغرض واحداً في الجوهر؛ كأنّ صاحب الحجّ إلى القدس بدل مكّة شبحٌ يحوم على رؤوس المطبعين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب