
الحمار والإنسان
بقلم أ.د.محمد عبد العزيز ربيع
وصلني جزء من هذه القصة الطريفة قبل نحو 20 سنة، فقمت بإجراء تعديلات جذرية عليها واضافة تفاصيل أخرى كي تعبر بصورة أفضل عن مشاعر معظم الناس الذين يتخذون نفس الموقف من الحمار. وهنا لا بد وأن أعترف بأنني معجب بشخصية الحمار وقدراته ووفائه، لذلك اسندت له دوراً رئيسياً في روايتي “هروب في عين الشمس”، وكتبت عنه قصيدة بعنوان “الحمار الحليم”. وإليكم الآن القصة.
كان يا مكان في قديم الزمان
بعض الحمير في أحد الاسطبلات العربية
تعمل بإخلاص وتفكر بهدوء وروية
تنام الليل راضية دون شخير
بلا لحاف، مخدة، فرشة أو حصير
وتصحو في الصباح لتقوم بواجباتها اليومية
قرر حمار صغير ذات يوم أن يُضرب عن الطعام
ضعف جسده وتهدّلت أذناه وذوى جسده
وكاد يسقط على الارض ميتا من الوهن
أدرك الأب أن وضع ابنه يتدهور كل يوم
وأراد أن يفهم السبب حتى لا يقع في اللوم
زار الأب الإبن في الليل على انفراد
يستطلع حالته الصحية المتدهورة باطراد
ما بك يا بني… ماذا تعاني؟
هل تحتاج لطبيب، دواء أو مداوي؟
أخبرني لماذا تُضرب عن الطعام؟
هل أزعجك رجل، إمرأة، أو غلام؟
رفع الحمار الأبن رأسه عاليا وقال:
نعم يا أبتي، أنا مستاء جدا من البشر
يوجهون لنا الإهانات كزخات المطر
يسخرون منا نحن معشر الحمير
نخدمهم ليل نهار ولا نسأل حتى عن الشعير
نسوا أننا مخلوقات تسحق الاحترام والتقدير
كأن الخائن منهم أمير، والمخلص منا حقير
لا أفهم يا بني ماذا تعني وماذا تقول
دع عنك هذا الكلام وهذا الشعور
لا أنت تعرف ولا أنا من المسئول؟
آن الأوان لحرث الأرض وتسميد الحقول
علينا أن نستعد قبل أن تشتد حرارة الصيف
ومتعة العمل في المزارع الخضراء تزول
تمهل يا أبي قليلا
ألا تسمعهم كلما تصرف شخص بغباء قالوا له “يا حمار”
كأن الغباء عقيدة لنا وشعار
إننا نعرف معنى الحياة، وكيف يكون الوفاء
نتألم، نبكي، لكننا نعيش ونموت بكبرياء
لنا مشاعر صامة، شموخ، عزة، وإباء
نفكر، نقتفي الأثر، ونعرف كل طريق
نجوب الصحاري من أجلهم بلا دليل أو رفيق
ارتبك الحمار الأب وتجمد في مكانه
لم يعرف كيف يردّ على تساؤلات كبيرة من حمار صغير
حرّك أذنيه يُمنة ويٍسرة، استلهم من الطبيعة حكمة كون كبير
اقترب من ابنه يحاوره بمنطق معشر الحمير
البشر يا بني معشر خلقهم الله وفضّلهم على سائر المخلوقات
تعاملوا مع أنفسهم وغيرهم بقسوة فعاشوا العمر عثرات
أساؤوا لأنفسهم قرونا بلا عدد
قبل أن يتوجهوا لنا بالاساءة والإهانات
دعني أسألك يا بني بعض الأسئلة:
هل رأيت حماراً يسرق طعام أخيه؟
هل رأيت حماراً يشتكي على أحد من أبناء جنسه؟
هل رأيت حماراً يشتم أخيه الحمار؟
هل رأيت حماراً يضرب زوجته أو أولاده؟
هل رأيت حماراً يدخن سيجارة
هل رأيت حمارة تدخن أرجيلة؟
هل سمعت يوماً أن حمير الأمريكان قتلوا حمير العرب؟
طبعا لم تسمع بهذه الجرائم ولم ترها أبداً
هذه جرائم ليست من طبع الحمير
بل من طبع بشر لا يحسنون التفكير
ويسيئون التخطيط والتدبير
عليك يا بني أن لا تنخدع بالعقل الإنساني
بل عليك أن تفكر بعقلك الحميري
إرفع رأسك عالياً لترفع رأس بني الحمير
اترك البشر يقولون ويفعلون ما يشاؤون
لا تهتم بما يقوله الكبير منهم أو الصغير
الفقير أو الثري، الأميرة أو الأمير
عاهدني أن تبقى وفياً، مخلصاً، صبوراً
ترفع عقيدة الوفاء والصبر الحميري شعار
وتعيش العمر حماراً ابن حمار
فيكفينا فخراً أننا لا نقتل، لا نسرق، ولا ننافق
لا نعتدي على بعضنا البعض، لا يغتاب أحدنا الآخر
نحب لا نكره، نصدق لا نكذب، نشقى لا نتذمر
ولا تنسى يا بني أنهم يوفرون لنا الطعام كل مساء
وينظفون الاستطبلات من خلفنا كل صباح
صدقت يا أبي، قال الحمار الابن
سآكل الشعير وأعيش حياتي بين الحمير
سعيدا بعملي وجهدي ورزقي القليل
سأحافظ على موقعي في سلم المخلوقات
وسأبقى كما عهدتني حماراً ابن حمار
يحترم نفسه ويقدر جميع الكائنات
سأترك الإنسان ابن الإنسان
يعيش حياته طاغية يمارس العدوان
لا يُؤتمن على شيء
ولا يدرك معنى الأمان
يقف أمام الفأر قط شجاع
وأمام القط يهرب كفأر جبان.
د. محمد ربيع