مقالات

كتب علي الجنابي /شَيءٌ مِنَ الأُفِّ

بقلم علي الجنابي -بغداد

شَيءٌ مِنَ الأُفِّ

بقلم علي الجنابي -بغداد


(ذرفٌ خاص بجيلِ الطيبينَ  جيلِ  السّتينيات والسبعينيات، حرفٌ عن “جوازُ عتريسَ باطلٌ من فؤادة)..
هَمَسَ لخليلهِ همساً خفيّاً إذ هوَ يُحاوِرَهُ عن حصادِ دهرِهما وإرصاده، وإذ هُما مُستَرخَيانِ على ثرثرةِ خَريفِ العُمُرِ ومُسترعِيان غرغرةَ صَمتِ صفيرِهِ وإمتداده، وإذ صَيّرَت عَبَراتُهما من صرصرةِ الأيامِ فُرُشاً وتَخَيَرت من خَرخرتِها وسادة، وإذ حيَّرَت نَظَراتُهما سَبْتَ المُتَلَبِّدِ في تَأمِّلٍ وكَبْتَ المُتَكَبِّدِ في تَحمُّلٍّ وخَبْتَ المُتَعَبِّدِ في عبادة.

همسَ لِخِلِّهِ مُطَأطِأً مُتَأتِأً، فقال:

أُفٍّ خِلَّ! لقدِ إستَحضَرَ فؤادي “شيئاً من الخوفِ” وبئِسَ الخوفُ وتَعِسَت دُسُرهُ وأوتادهلا تَوجلْ يا خِلُّ! فإنّما أحَدِّثُكَ عن “فِيلمٍ في سِيلما” ومانَضَخَهُ وضخَّهُ الفيلمُ آنئذٍ في وجديَ من تمرُّدٍ وعناده! فهَوِّن عليكَ وأهجرْ الخوف وأكفر بإرتعاده! فما عادَ في ديارِ العُربِ ميدانُ حربٍ ولا درعٌ ولا حتّى خَرْطوشةٌ لعتاده. وما عاد فيها تَبَخترٌ لخُطىً بِسمُوٍّ في عَينِ دخيلٍ، ولا تَمخترٌ لسعفٍ بعلوٍّ في نخيلٍ وإعتداده.

أفَتذكرُ يا خِلّي فيلم “جوازُ عتريس باطلٌ من فؤادة”؟ فلَنِعمَ الفنُّ ذاك ولنِعمَ الصنعةُ والإجادة. فهلّا -يا خِلَّ- أولو بقيةٍ من فَنٍّ يَزأرُ الآن بِعنفوانٍ ولا أبغي زيادة:
لا هوانَ، وجوازُ عتريسَ باطلٌ من فؤادة”؟ أفَترى النَّفيرَ قد خَنَسَ في ضميرِ الضادِ وغطسَ في نكيرهِ وفَطَسَ في فُؤاده؟ أم تَرى الصفيرَ قد طَمَسَ هديرَ شبلِ الضادِ وكنَسَ سطرَ الإجادة والإفادة: “لا خنوعَ، فإمّا نصرٌ مبينٌ وإمّا شهادة”؟
ردَّ عليهِ صاحبُهُ وهو مسترخيَ النبضِ في فؤاده:
مهلاً، وعلى رسلِكَ يا خِلّ! فلا خنسٌ ولا كنسٌ في أمّةِ عدنانَ وقحطانَ والشام والقيروان ثمَّ بغدادَ ومنها كان مدادُ القلمِ ورحيقُهُ وإستزاده، فنحنُ -يا خِلّ- أمّةٌ بقرآنٍ مُعجِزٍ عَجَب، وبيانٍ موجزٍ وحسبٍ، ونسبٌ يعلو الإشادة. أمّةٌ كفرت بالغرانيق وظفرت ببيتٍ عتيقٍ وروضةٍ ببريقٍ وأقصىً عريق وذلكَ تثليثُ السيادة؟
أوَنسيتَ يا خِلّ إننا أمّةٌ سَلَفُها اُسْدٌ وخَلَفُها أُورِثُوا رُشدَ الريادة، خلفٌ يرضعُ العرشَ لبناً ولا يَتقَلّدُ إلا عِزَّتَهُ قِلادة. نحنُ أمةُ تأبى خُنوعاً وتَخشَاها الجَهالةُ والرَّمادة. أمَّةٌ لا تَعرفُ همّاً ولا غمّاً ولا عجزاً ولا حجزاً ولا بَلادة.
تَمتَمَ صاحبهُ وهو يحاورهُ، ثم غَمغَمَ بحزينِ طرفٍ بإنشاده:
إذاً فماليَ -يا خِلّ- أرى أمّتي تتباهى ب”آرب تالنت” وزرعِهِ وحَصاده؟ أفَتظنُّ يا خِلُّ أنَّها رَكَنَتْ فَسَكَنَت إلى “عصابةِ توتو” ودعابةِ “اللّمبيّ”، وخطاباتِ “حَمادة”؟ أوَما تَرى دروبَها باتَت “شَخبط لخابيط” وإستمرأت لهوَهُ ولغوَهُ وفَسَادَه؟ أما تَرى ضروبَها بانت تتَنَطّطُ كبالونٍ أو كَسُرْوٍ يتقافزُ تيهاً بين الأمم، والسُروُ هو إبنُ الجرادة؟ أوَما تَرى غُروبَها يتَحَطَّطُ صالوناً لتَدليكٍ بين ذُكرانٍ وإناثٍ، بلا نُكرانَ وسواءً على الوِسادة؟ أما ترى كيفَ إستَلطَفَت عباءةَ “شاهدٍ مشافشِ حاجة” لِتَتَغشّى بها من جورِ سلطانِها، ولتَتَمشّى بها تحت ظلالِ حِياده؟
ردَّهُ صاحبُهُ بِتَأفِّفٍ عبوسٍ يلتهبُ إشتدادُه:
كلّا خِلُّ كلَّا، فلا تَخاطبْها بعصابة توتو، ولا بسرو الجرادة، بل عاتِبْها:
ألم يَأنِ لأمّتي أن تَعتَبِرَ من أممٍ فَقَدَت الحِكمَةَ والحُلمَ والقيّادة؟ من أمَّة نَحَتَت من الجَبلِ بَيتاً وقَصراً وعِمادَه، وإنْ بَطَشَت فجبَّارةً على الضعيفِ ظلماً تبغي أضطهادَه، فكانَت عاقبتُها صيحةَ تَدميرٍ وإبادة. ومن أمّةٍ زَنَت ومَا زَنَت مِكيالَها تَرنو استزادَه، فأخذَتْها رجفةٌ دَمَّرَتِ حرثَها والنسلَ إلا فضاءً أو جَماده. ومن أمّةٍ شَيَّدَتْ صرحاً إلى إلإلهِ تبغي إنتقاده، بخنوعِ قومٍ وإنقيادِه، وكنزتْ كُنوزَاً وزينةً بِخُيَلاء ووهمٍ من سعادة، فكانَ جَزاؤُها خَسْفاً أطاحَ بالنفسِ والدَّارِ فما كانَ لها من حَولٍ ولا إرادة، ثمّ قُطيْراتُ ماءٍ أَيبَسَتْ عُودَ مَعبودِهُمُ وأركسَتْ أجنَادَه.
فخَمَدَ سعيرُ صاحبِهِ وغَمدَ لديهِ مأتمَ الحزنِ وكمدَ مواقيتِ حِداده:
أجل يا خِلُّ صدقتَ، وذَيَّاكَ هو الغَضَبُ المَحذُورُ، وذَيَّاكَ الذي لابأسَ يَرفعُهُ ولا صمودَ يَدفعُهُ ولا تنفعُهُ ضمادة. بيد أنيَ لا أبرحُ أوهوسُ وأوَسوسُ: ألا مِن مُزَمجرٍ اليومَ حتى ولو بفِيلمٍ غيرِ ملوَّنٍ وأنا لن أبغي زيادة:

 “نحنٌ لن نستسلمَ، فإمّا نصرٌ مبين وإمّا شهادة”، و”جوازُ القرد من الأقصى باطلٌ، رغمَ شرودِ الفكرِ وحيودِ فؤاده”! أُفٍّ لكَ يا خِلُّ أُف، مالكَ عليَّ لاتَرُدُّ ولا تَحُفّ! وَاهٍ، أمُغرَمٌ أنتَ بخيطِ غفوةٍ على حين غفلةٍ ولا تبغي إفتقاده. لا تثريبَ عليكَ نمْ ولا حرجَ نَمْ ياخِلُّ نَمْ، ودعْ شَخيرُكَ يعزِفُ لي سمفونية “زواج فيغارو”، أو عزفاً لسنطورٍ منفردٍ يترنمُ:
بأبوابِ القهرِ وأنيابِ إضطهاده“.
تَحيةٌ لأولي بقيةٍ من زمنِ جيلِ الطبيبين.
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب