مقالات

الثقافة الجمعية وكيف تتشكل بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

الثقافة الجمعية وكيف تتشكل
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ
من حباه الله بدقة البصر وعمق في الرؤية، سيتمكن بمرور الوقت لا سيما إن كان ممن يسافرون بكثرة بين العواصم الأوربية وغيرها، سيتمتع بقدرة في معرفة الملامح الظاهرة وغير الظاهرة لدى شعوب البلدان، وهكذا ستمكن تدريجياً من معرفة السويدي/ من الإيطالي، أو الألماني عن الاسباني، وهذه أمثلة ساطعة، أما إذا طالت إقامته في أوربا، فتشخصيه نادراً ما يجانب الصواب، من الملامح العامة أو التصرفات، وحتى من خلال الثياب، ناهيك عن اللغة التي يستخدمها، وطريقة تلفظه.
وهناك أمر أجده أكثر أهمية من المظاهر البدنية وحتى السلوكية، وأقصد هنا الثقافة الجمعية التي تغلب على شعب معين، وهنا سنلاحظ مثلاً، أن الإيطاليون عاطفيون، يتمتعون غالبا بالمرح في السلوك، فيما تغلب الطباع الفلاحية على شعوب شرق أوربا، بما يعنيه ذلك من حفاوة وتكريم الضيف (بدرجة المبالغة ربما كعموم الشرقيين)، فيما يعرف عن شعوب شمال أوربا عشق العمل والإنتاج، والجدية التامة، وعدم الميل للمزاح، فيما يميل الفرنسيون للطعام والشراب، والبريطانيون للرزانة.
أما إذا تحدثنا عن الفروق في الشخصية الثقافية للفرد الأوربي على شكل كتل، سنجد الأمر هكذا : شمال أوربا (الاسكدنافيا) أو جنوب أوربا المطلة على البحر المتوسط، أو غرب أوربا المطلة على بحر الشمال (دول البينولوس Benelux) وهي دول هولندة وبلجيكا ولكسمبورغ، أو دول شرق أوربا، الفرق بينهم وبين بلدان وشعوب غرب أوربا كبير، أما الفروق بينهم وبين افريقيا فكبير جداً، أو مع بلدان شبه القارة الهندية أو جنوب آسيا.
وكنت فيما مضى، أجد صعوبة بالغة في التميز بين الصيني والياباني، أو حتى الفيثنامي والكوري، ولكن لكثرة أرتيادنا المطاعم الفيثنامية والصينية صرنا نميز بسهولة تقريباً بين الأفراد من هذه الأقوام، والغريب أن أفراداً من هذه الشعوب الأوربية والآسيوية والأفريقية يميزون الشخصية العربية غالباً وبدقة.
في برلين فندق ضخم يتألف من 24 طابقاً، ويضم العديد من المطاعم والمكتبات والمقاهي، ومرآب للسيارات وورشة تصليح وصالون حرقة … أريد القول أن هذا الفندق ضخم ويعج بالبشر من بلدان العالم، وهناك مقهى كبير مستطيل الشكل ريما يبلغ طوله العشرين متراً، في ركن يرتاده الطلبة العرب، وحين يجلسون تمتد الجلسة لوقت طويل، يتقاطر الطلبة للمقهى بأعتباره في وسط المدينة، لذلك كان الطلبة العرب يتخذونه كمحطة استراحة ونقطة لقاء، وبمرور الوقت صار النادلون القائمين بالخدمة يعرفوننا حق المعرفة، بل وأحياناً نترك عندهم رسالة أو تبليغ لصديق.
وكانت فتاة المانية لطيفة تعمل كنادلة في المقهى، تكن الود للطلبة والضيوف العرب، وكنت أذهب يومياً لمدة ساعة أو ساعة ونصف، أتناول قهوتي وربما افطار خفيف، ذات يوم سألتها إن كانت قد شاهدت أحد أصدقائي فأجابت بالنفي، ولكنها قالت في أستطراد الحديث، أن بوسعها أن تميز العرب من دونهم تحديداُ، وقالت لي : يا سيد دباغ ألا تعتقد أني صرت خبيرة بكل أقوام الأرض، الكل من جميع الجنسيات يأتون لهذا الفندق وكأنه مطار والكل يجلس في هذا المقهى، وخلال سنوات من عملي هنا صرت أعرف الناس وطباعهم. العرب لهم شأن خاص وصفات خاصة محددة وهم كذلك من المغرب حتى اليمن وحتى العراق وسوريا ، العرب كلهم
ثم أن النادلة أخبرتني وأدهشتني أنها تعرف أسماء معظم الطلبة العرب والعراقيين والسوريين والجزائريين والمصريين واليمنيين والسودانيين، وحين أعربت عن دهشتي، قالت أنها تعرف العربي من النظرة الأولى، فزادت دهشتي و قلت لها : وما هي الصفة، يتحدثون بصوت عال، فأجابت ضاحكة : لا …هذه يفعلها غير العرب أيضاً، فقلت : يتحدثون جميعاً في آن واحد، قالت : لا وهذه يفعلها غيركم أيضاً، قالت شبئ واحد لا يفعله عدا العرب أبداً .. أبداً. قلت لها: وما هو
قالت عندما يأتي العربي ينهض الجميع له أحتراماً، ثم يتبادلون التحية بالمصافحة أو التقبيل، وعندما يجلس يقدم الجميع له السكائر، ويطلبون له القهوة أو الطعام، وعندما يخرج أحدهم علبة سكائره يقدم للجميع قبل أن يشرع بالتدخين، وأخيراً الظاهرة العجيبة الغريبة ..! لا يوجد شعب في العالم يتعاركون على دفع الحساب، هذه عجيبة لا يفعلها سوى العرب، الكرم صناعة عربية، لا يعرفها غيركم من أمم العالم، ربما هي من الخصائص الجينية.
إذن الثقافة الجمعية والخصائص الشعبية هي أرث تتوارثه الأجيال المتعاقبة، حتى يصبح من سماتها الثابتة، المعروفة، حين يقال أن الشعب (س) هو شعب عروقه فلاحية، محب لأرضه، يدافع عنها بشراسة، أو أنه شعب شجاع لا يحب الهيمنة الاجنبية ويقاتل العدوان والغزو ويقدم التضحيات بسخاء. والشعب الفلاني يحب راية بلاده، وينصبها في التعازي والأفراح على حد السواء. لأن هناك حوادث تاريخية أكد فيها هذا الشعب حبه لرايته وذاد عنها حتى الموت. والشعب الفلاني ينسى صغائر الأمور حين تتعرض البلاد لعدوان خارجي، وإذا صادف خلاف ذلك فإن مرتكب هذه النقائص يفقد احترامه بين الناس . وأحيانا يمنح لقباً مخزياً.
الشعوب تصيغ ثقافتها الجمعية، وهي خصائص تتشكل على مدى سنوات طويلة جداً، قد تبلغ القرون، وهي تشكل نسيجاً ثقافيا محكماً يميز هذا الشعب، وتشكب مصداً يؤكد وحدة الشعب، ويقوم بواجب الدرع ضد كل ما يهدد الوحدة الشعبية. وقد يمثل نوع معين من الثياب، أو طعام مميز، أو أغاني، وأمثال شعبية، وطريقة الاحتفال بالأعياد والمناسبات، وتقاليد عائلية وأجتماعية، وكل هذه وغيرها تمثل جزء من الروابط الاجتماعية التي تزيد من وحدة الناس وتلاحمهم وتماسكهم، والحفاظ عليها أمر مهم ينبغي أن يؤكد على الكتاب والمثقفون، وقادة الرأي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب